خاص- ثقافات
*منذر السعيدي
“المُضاء والمعتم – محاولات في القراءة” هو ما حبَّره الشاعر والروائي التونسي “نصر سامي”، وهو أحد الكُتّاب الشموليين من ذوي غزارة الإنتاج المتعدد في الوطن العربي ، ومن نخبة المثقفين الذين أنجبتهم بلاد قرطاج.
وفي هذا الكتاب يخلع فيه المؤلف رداء الشاعر حسن النوايا، مرهف الحنايا، المثقل بمشاعر الحنين والعواطف؛ ليلتحف بثوب الناقد اللَّماح الحذق الذي يضاهي رقَّة شعره نقده.
وأميل هنا إلى توصيف هذا الإصدار بعد قراءةٍ تمحيصيةٍ متأنيةٍ، ليس نقدًا بالمعنى التجريدي وإنما هو عبارة عن عينةٍ قصديةٍ نوعيةٍ من ذائقة المؤلف، ويا لها من ذائقةٍ مبهرةٍ يبتغيها من ضلَّ مسلكه في سكة الأدب الرديء.
وقع الكتاب في منظار حدقتي، وقررت مشاركة القراء هذا النتاج الثمين المنحسر من أسواق ورَّاقينا، والمبتسر من أقلام مثقفينا، وإقحام كل من شغفته القراءة في صلب التجربة الجديدة في مسيرة هذا الكاتب.
وأثناء هذا القرار وقفت لفترةٍ ليست بالقصيرة حائرًا متبلدًا أمام رفيقتي، لوحة المفاتيح كيف لا وهنا نصر سامي يقرأ عن القراءة، وأنا بدوري أكتب عن الكتابة؟! وكأننا في لجة دوامة لوجيكالية، سفسطائية، موغرة في الخصومة والفجور، وأثناء هذه الحيرة وما يصاحبها من صراعٍ وجوديٍّ متمايزٍ اندلق من كأس اللا شعور القميء (سيجموند فرويد) ليطل بسبباته، ويردد بسخرية فجة: “يا للعرب، ألستم من فسر الماء بعد الجهد بالماء”.
وبعيدًا عن (فرويد) ومُسلماته النظرية فالمضاء والمعتم إصدار أقل ما يقال عنه أنه ممتع مفيد شائق ومتنوع في بنيته وهيئته ومضمونه، وقد سكب من أجله كميةً كبيرةً من العرق؛ ليخرج بهذا الشكل، ويظهر هذا في تمكنه البحثي المنهجي، وقد استخدم أحد أكثر مناهج البحث الوصفية صعوبة وتعقيد في قراءاته التحليلية، فقد جنَّد نصر ثقافته الواسعة وإطلاعه العميق على أدب الشرق والغرب لخدمة القراء أولًا، والتعريف بكتاباتٍ قد تكون مجهولة لشرائحٍ كبيرةٍ من المجتمع العماني والتونسي على أقل تقدير ثانيًا؛ فنجد أنَّ الكتاب انقسم إلى أجناسٍ أربعةٍ، وهي: الرواية، ويمثلها اليوناني (نيكوس كازانتازاكي) بروايته الخالدة “زوربا”، والبرتغالي (ساراماغو) بروايته “انقطاعات الموت”، والإيطالي (نيكولو أمانيتي) بأخذك وحملك بعيدًا، والياباني البريطاني (كازو إيشيغيو) بـ”العملاق”، وحمور زيادة بـ”شوق الدراويش”، و”الميكانيكي” لطاهر الزهراني.
أما القصة، فتتواجد القاصة والروائية العمانية “بشرى خلفان” بقصتها “إفك”، بالإضافة إلى الدكتور “محمد المهري” بحكاياتٍ شعبيةٍ ظفاريةٍ.
والشعر يمثله الشاعر والروائي “محمد قراطاس” بإصداره “ما ورثه الضوء”، والشاعر العماني الآخر “أحمد المعشني” بـ”انشغال الغيم” وغيرهم.
أما في الدراسات النقدية: فهناك العماني “جاسم الطارشي” بـ”المنزع النقدي في شعر محمود درويش”، بالإضافة إلى دراستين للمؤلف نفسه، الأولى: “منطق البناء، وخصائص الوحدة في مراثي المفضليات”، و”باطن الشخصية القصصية”، وقد طبَّق دراسته على رواية بيروت “75” لغادة السمان.
والكتاب يقع في 254 صفحة من القطعة المتوسط، زُيِّن غلافه بإحدى لوحات نصر سامي المؤلف متعدد المواهب والنزعة، ونُثر على غلافه الخلفي فقرة، سطرها المؤلف في قراءته لرواية (نيكولو أمانيتي)، ويقول فيها:
“قرأت في حياتي كتبًا كثيرة، جعلني بعضها أكثر إنسانية، وبعضها متفلسفًا صغيرًا، وبعضها مصهودًا بنار الخوف.
أما هذه الكتب فلحسن الحظ لم تجعلني أكثر إنسانية، ولم تعلمني الفلسفة، ولم تصهدني بنار الخوف، فأنا في الأصل مصابٌ بمحبة الكتاب، لا لأنام وأنا أقرأ كتبهم، فليست هي أسرة، ولا مكيفات في الجوار، بل صدمة أو رجَّة أو مطرقة، الراحات الطويلة التي توفرها الكتب لا تعجبني، ما أريده أن يغيرني الكتاب، وأن يبدل فهمي للعالم، وأن يعصف بقناعاتي، وأن يخلخل بداهاتي، وأن يرجَّني رجًّا، وهذا الكتاب يفعل ذلك وأكثر، في العمق هناك الصراخ والوعي العميق بخراب القيم، وبأنَّ الحقيقة التي يظنها الناس حقيقة ليست غير حفرةٍ معتمةٍ مليئةٍ بالسواد، حقيقة العالم الوحيدة هي عتمته العميقة الغائرة كالجرح النازف”.