سولي(2016): تقمص الدور والشخصية والبطولة التلقائية

خاص- ثقافات

*مهند النابلسي

 

في 15 يناير/2009 قام الكابتن” سولي” ومساعده “جيوسي سكايلس” قائدا طائرة الخطوط الأمريكية 1549، المنطلقة  من مطار “لاجارديا” باتجاه مطار “شارلوت دوغلاس”، بإنجاز عمل “بطولي” وإنقاذ طائرة “الايرباص” من التحطم وإنقاذ حياة جميع ركابها، وكانت الطائرة قد تعرضت لضربة مفاجئة من سرب كبير من “طيور الأوز” بعد حوالي ثلاث دقائق من إقلاعها، وعلى ارتفاع 850 متر، وقد أدى ذلك لتعطل كلا المحركين… هكذا وبدون محركات وعلى بعد “كارثي” عن أي مطار قريب (حيث أقرب مطار هو “تيتربورو”)، قرر الكابتن سولي اتخاذ قرار سريع شجاع بإرساء الطائرةالضخمة (بوزن حوالي 69 طنا وطول 45 مترا) فوق نهر الهدسون الشهير (الفائق البرودة ” حوالي -20 درجة مئوية”)، وقد نجح بالفعل بالهبوط الآمن وبدون أية إصابات للركاب، وقد اعتمدته الصحافة ووسائل التلفزة والميديا بطلا قوميا…ثم تبين لاحقا أن التجارب أثبتت “افتراض” أن المحرك الأيسر للطائرة كان يعمل، وهذا يترك المجال “افتراضيا أيضا” لعودة الطائرة  لمطار “لاغارديا”، او للهبوط الآمن بمطار “تيتربورو”، كما أن هيئة التحقيق ادعت بأن عدة تجارب “محاكاة خورازمية” ملاحية أثبتت قابلية الطائرة للهبوط بأمان في كلا المطارين بالرغم من تعطل المحركات، ولكن الكابتن “سولينبرغر” عاند بإصرار وادعى بأنه “ظن” بأنه فقد المحركين ولم تتوفر له بيانات الارتفاع والسرعة والوقت الكافي للهبوط بأمان في أي مطار قريب! ثم تبين لسولينبيرغ بأن لجنة التحقيق “الصارمة والبيروقراطية” تتجه لأن تعزو الحادث لخطأ الطيار ولسوء التقدير، مما قد يتسبب بحال نجاحها بإثبات هذه المزاعم لأن يفقد مهنته كطيار عتيق وبخسارته الفادحة لتعويضاته التقاعدية المستحقة، وفي محاولة أخيرة لإنقاذ سمعته ووضعه البائس، طالب بإجراء لجنة سماع عامة بالتنسيق مع “المحاكاة  التفاعلية”، وقد تبين بعد عرض التفاصيل والمحاكاة الطيرانية عدم واقعية الهبوط الآمن بكلا المطارين المذكورين، مما أكد صحة  قرار سولي بالهبوط الاضطراري فوق النهر، وبأن قرار العودة لكلا المطارين كان سيكون “كارثيا”، وقد أقرت لجنة التحقيق بذلك لمصلحة “سولي”.

Sully-2016-Movie-Poster

 

دروس وتمارين عملية في الطيران الواقعي والمحاكاة الحاسوبية:

راودت الكابتن في بداية الشريط أحلاما كابوسية مرعبة حول احتمالية تحطم الطائرة الضخمة ببناية شاهقة فيما لو لم يقم بمغامرته النهرية الجسورة، وقد كان يحمل على كاهله أربعة عقود من الطيران العملي (42 عاما)، وكان يملك قدرة هائلة على البقاء “باردا” والمحافظة على هدوء أعصابه، وقد ساعده ذلك على إنقاذ 155 شخصا، وقد أظهرته مجلة التايم الشهيرة كبطل قومي كما ظهر في برنامج “ليتيرمان” الاستعراضي واسع الانتشار، كما شككت  مذيعة إحدى محطات التلفزة متسائلة بخبث: “هل هو بطل أم محتال”؟.

1111

 

ثم نرى في هذا الشريط الشيق تفاصيل آخر 208 ثانية من الطيران من عدة وجهات نظر: الطيار ومساعده—الركاب—المضيفات—مراقبي أبراج الطيران والحركة الجوية، ونطلع على شكوك لجنة التحقيق “البيروقراطية”، ثم نذهب بآخر الشريط للاطلاع على تفاصيل المحاكاة “االحاسوبية الجوية” باتجاه كلا المطارين لنعرف تماما تفاصيل ما حدث، وهنا تتم الإجابة على السؤال هنا: “هل كانوا محقين بمغامرة  الهبوط الاضظراري في نهر الهدسون، بدلا من الذهاب لأقرب مطار”؟…وبالرغم من قصر مدة عرض الفيلم نسبيا (95 دقيقة) إلا أنها كانت كافية تماما لإظهار عرض تمثيلي رائع ومسلٍ ومشوق وبلا إثارة مصطنعة، قدم خلالها كل من “ايستوود وهانكس وآرون ايكارت” إبداعا سينمائيا فريدا، وتقمصا لافتا للشخصيات لا يمكن نسياته، كما أظهر كلينت ايستوود (بعمر الـ86) قدرات إخراجية متمكنة، وذكرتني مشاهد الطائرة التائهة بمشاهد عتيقة لأحد أهم أفلامه الأولى كممثل تائه في الغرب الأمريكي “من أجل حفنة دولارات” لسيرجي ليوني (ولا أدري لماذا؟)…لقد بدا فيلما متكاملا بلا تطويل وملل وتكرار كما نلاحظ في الكثير من أفلام الأكشن والإثارة…وحتى أنه تعرض لأدق التفاصيل بمشاهد “الفلاش باك” لدروس الطيران الأولى التي تلقاها المراهق سولي من معلمه الخبير، والذي يركز فيها أيضاعلى معنى ومغزى “الابتسام”، كما تظهر مشاهد قتالية خلال الحرب، ثم نعود بانسياب  لمشاهد إخلاء الطائرة قبل أن يغرق جسم الطائرة الضخم بطيئا داخل الماء، ولاحظنا أن سولي قد كان آخر المغادرين وقد حرص على تفقد الطائرة والتأكد من مغادرة الجميع بأمان، كما بإصراره على اجراء عد احصائي سريع في مثل هذه الظروف، وهنا تذكرت قصة العبارة المصرية التي غرقت مع معظم  ركابها قبل عدة سنوات وكيف كان قائد العبارة “أول الهاربين وربما الناجي الوحيد”، وهنا فهمت مغزى “البطولة التلقائية والشجاعة الظرفية”…كما سمعنا “سولي” مرارا وهو يخابر زوجته لطمأنتها، شارحا لها تعقيدات استجوابه من قبل البيروقراطيين اللئام، وعدم تفهمهم لأهمية  سرعة اتخاذ القرار التلقائي ودور العنصر الإنساني في مثل هذه الظروف القاهرة…كما بدت كافة إجابات سولي ومساعده عفوية وتحمل قوة الصدق والنزاهة  وتقدير الموقف الكارثي للطائرة مثل: قدرت الارتفاع بالنظر—راهنت بحياتي—المهندسون ليسوا طيارين—مثل هذا الشيء يحدث مرة واحدة—لا أحتسي الكحول إطلاقا—أشعر بأني بطل الرجل المناسب في الوقت المناسب—شغلنا وحدة الطاقة الثانوية—ماذا لو اخطأت محاكاة الايرباس؟–الطيار لا يتوقف عن المعرفة—عملت طوال عشرين عاما وسأحاسب عن آخر 208 ثانية فقط! ثم “سأكون خلفكم”…وأقترح هنا أن تقوم كافة شركات الطيران العربية بعرض الفيلم مجانا لكافة العاملين في قطاع الطيران والدفاع المدني لأنه في اعتقادي يمثل نموذجا واقعيا للتصرفات المثالية في مثل هذه الكوارث الغير متوقعة، مع التنويه لدور فرق الإنقاذ والدفاع المدني وأسلوب التنسيق المحكم بينها وسرعة الاستجابة كما شاهدناها بالشريط ، حتى أن المروحيات لم تنسَ ركابا قلائل سقطوا بعيدا في المياه المتجمدة!

111

ملخص نقدي:

حصل هذا الشريط الشيق على تقدير نقدي جيد يتجاوز الثمانين بالمئة، وتميز بأسلوبه التشويقي الواقعي البعيد عن الإثارة الدرامية الصاخبة، وكذلك بإيقاع سريع متكامل، حيث بدأ الشريط من نهاية الحدث، وبدا استكمالا لمنهجية المخرج “كلينت ايستوود” في تسليط الأضواء على الابطال “غير المتوقعين”، والذين تجبرهم الأحداث والظروف على القيام بعمل بطولي ظرفي خارق (من وجهة النظر الأمريكية) كما بأفلام “القناص الأمريكي وجسر الجواسيس والكابتن فيليبس والأخيرين من بطولة توم هانكس أيضا ولكنهما من إخراج كل من شبيلبيرغ وباول جرينجراس “، وربما الاسم الأكثر ملاءمة لهذا الشريط هو “معجزة الهدسون”…ولم تنجح الموسيقى التصويرية (ربما بقصد)  في إظهار صوت الضحايا الحقيقيين في هذا الفيلم وهي “مجموعة الطيور”  التي اصطدمت بالمحركين وسحقت بلا رحمة ، وهذه الطيور المسكينة هي ربما شاهد العيان الوحيد لحقيقة ما جرى بعد ثلاث دقائق من إقلاع الطائرة المنكوبة.
_____
*ناقد سينمائي.

 

شاهد أيضاً

طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟!

(ثقافات) طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟! إلى يحيى القيسي لَمْ نَلْتَقِ في “لندن”.. …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *