عالم الملِئيس العربي

خاص- ثقافات

*الطيب طهوري

أمامك أسبوع كامل لحل المشكلة، قال الملِئيس لرئيس وزرائه..

حاضر جلالة الفخامة، رد رئيس الوزراء..انحنى، قبل ظاهر يده اليمنى..استدار وخرج منحنيا..

مساء كان اجتماع مجلس الوزراء ..لم تعد خزينة دولتنا كافية للمحافظة على صب أجور جيشنا وقوانا الأمنية في وقتها وبكاملها.. تعرفون بأن الظروف الداخلية والإقليمية وأطماع التربصين بنا داخليا وخارجيا حتمت علينا توظيف عدد أكبر من رجال الأمن والجيش..ملئيسنا المفدى أعطانا فترة أسبوع لإيجاد حل لهذه المشكلة..ما رأيكم؟..هل من فكرة ما تدور في ذهن أحدكم؟، سأل رئيس الوزراء..

نظر الوزراء إلى بعضهم البعض حائرين..كانوا صامتين جميعا..

رفعت وزيرة الأسرة، وكانت شابة يافعة حيوية اصبعها..

تفضلي، لا يأتي بها إلا نساؤها ،قال لها وزير العدل ضاحكا..

أفهم المقصود بالمتربصين خارجيا، لكنني لا أعرف من تقصدون بالمتربصين داخليا..

ضرب وزير الداخلية أمامه بقبضة يده اليمنى: عجيب.. لا تعرفين من نقصد بالمتربصين داخليا..واش من وزيرة انت؟..كان ريقه يتطاير رذاذا ..

طأطات الوزيرة الشابة رأسها خجلا، وراحت تمسح العرق الذي كان قد بدأ يغزو جبينها..

يخِّي وزيرة يخِّي ، تململ وزير الاقتصاد ونظر إليها مباشرة..

ابتسم وزير الدين الذي كان يجلس بجانبه يمينا..

في النظرة تلك دويا قويا سمعوا.. تحركت الطاولات، النوافذ،الستائر، المصابيح..تحرك كرسيها ولم تتحرك الكراسيُ الأخرى..

لا شيء، لا شيء،طائرة اخترقت جدار الصوت ليس إلا،قال وزير الدفاع الوطني مطمئنا..

همس وزير التضامن الاجتماعي في أذن وزير المالية..

قل رأيك بصوت عال يا سيادة الوزير حتى نسمعه جميعا، قال رئيس الوزراء لوزير التضامن الاحتماعي..هل توصلت إلى رأي ما يخرجنا من هذه الورطة؟..

تنحنح وزير التضامن الاجتماعي..ألقى بعينيه مباشرة على عيني رئيس الوزراء: لا حل أمامنا سوى الزيادة في نسبة الضرائب على مختلف السلع وعلى الأجور أيضا..

ابتسم وزير المالية: تعرف يا زميلي،يا وزير الضامن الوطني ماذا حدث منذ أيام ..الوضع الداخلي متحرك والناس ليسو على ما يرام..إنهم يشتكون من ارتفاع أسعار السلع في الأسواق ومن عجز قدرتهم الشرائية منذ زمن بعيد..لايمكن أن نزيد الطين بلة..لا يمكن أن نرفع نسبة الضرائب..صعب رفعها ..

تكلم وزير الفلاحة: رفعها يعني ضمنيا رفع أسعار مختلف السلع والتسبب في هلع الناس ..

أريد اقتراحا آخر موضوعيا وغير مثير للناس من فضلكم..فكروا، تكلم رئيس الوزراء ..

سكتوا جميعا..

أعاد رئيس الوزراء بعد فترة صمت قصيرة سؤاله: هل من فكرة ما؟..و..

حين تيقن أن لافكرة، قال: أمامكم ستة أيام..فكروا..أنتظر مخرجا لهذه الورطة التي وقعنا فيها..جلالة فخامة الملئيس ينتظر منكم حلا وجيها للمشكلة..رفعت الجلسة..

***

في اليوم السادس اجتمع مجلس الوزراء من جديد..

هل من فكرة زملائي الوزراء؟..

صامتين كانوا..

انتظر..ولم يتكلم أحد..

يبدو أنكم لم تتوصلوا إلى أية فكرة..ربما لم تفكروا أصلا، قال رئيس الوزراء حزينا وحانقا..

رفع وزير العدل يده..

تفضل سيادة وزير العدل، أشار إليه رئيس الوزراء..

هناك حل واحد سيادة الرئيس..

أنجدني به، أسرع رئيس الوزراء متكلما..

التبرع..

التبرع؟..لم أفهم قصدك..هل نطلب من المواطنين التبرع لدفع أجور جنودنا ورجال أمننا؟..هل هذا ما تقصده؟..بدا رئيس الوزراء وهو يسأل بائسا يائسا..

شرح وزير العدل: يحب الناس الارتقاء في مناصب المسؤوليات وتحسين ظروفهم المعيشية، خاصة في وضعنا الراهن..

بالتأكيد، قال وزير الداخلية..

نعم، نعم،صحيح، أكمل وزير المالية..

واصل وزير العدل شرحه:لن يكون هناك حصول على مناصب المسؤوليات وفي كل القطاعات إلا بالتبرع..من يتبرع أكثر تكون له أسبقية الحصول على المنصب..من يتبرع أكثر يكون الأولى بالارتقاء..

تكلم أخير رئيس الوزراء: سنكون مضغة سائغة للإعلام يا وزير العدل..هل تعتقد أن الصحافة ستسكت.. ستكتب وتفضح قرارنا هذا، أو بالأحرى سلوكنا غير القانوني هذا ؟..

وكيف للصحافة أن تعرف ذلك إذا كان كل شيء سيتم بدون أي قرار نصدره؟ أجاب سائلا..

فهمت، رد رئيس الوزراء..شكره كثيرا وأنهى الاجتماع منشرح الصر مبتسما..

بارك الله فيك يا وزير عدلنا، راح يقول له مربتا على كتفه اليسرى وهم يخرجون..

***

كل وزير اجتمع بمديري قطاعه على مستوى الولايات..

ما أقوله لكم لا يمكن البوح به للصحافة إطلاقا، ولا للمواطنين..لا تبيحوا بالأمر لأي أحد، بما في ذلك أسركم..أعداؤنا في الداخل والخارج كثيرون..المتربصون بنا موجودون في كل مكان، داخليا وخارجبا، قال وزير التربية لمدراء التربية..

مثله، قال وزير الصحة لمدراء الصحة على مستوى الولايات..

مثلهما فعل وزير الداخلية مع الولاة ومدراء الإدارة..

كل مدير اجتمع مع رؤساء مصالح مديريته ومع مدراء مختلف المؤسسات، فرادى أحيانا، وجماعات أحيانا أخرى..

أوصيكم بالسر، يقول كل مدير للذين يجتمع بهم.. أي بوح بالسر يحدث سأكتشف صاحبه..تعرفون ذلك جيدا، يقول يلهجة فيها الكثير الكثير من التهديد..

سرا يتحدث كل مسؤول مع عماله واحدا واحدا ويوصي كل واحد منهم بالكتمان، وبلغة تخويفية واضحة تارة، ومبطنة تارة أخرى..ويعده بالارتقاء..

لكن فعلا كهذا يستحيل أن يبقى سرا..تسرب الخبر أخيرا..كتبت بعض الصحف الداخلية منتقدة.. انتقل الخبر إلى الصحف الخارجية ومختلف القنوات الفضائية..

الرد كان سريعا..عوقب بعض المدراء بتنزيل رتبهم..وحوكم مدراء الصحف الداخلية التي كتبت.. وسارعت تلك الصحف إلى الاعتذار عما اعتبر خطأ ، وبالبنط العريض على أولى صفحاتها..قالت بأنها إشاعات مغرضة نشرها أعداء الداخل وأعداء الخارج ..أهدافهم واضحة..إنها محاولة لزعزعة استقرارنا الداخلي وسلمنا الاجتماعي..وقد أفشل مجتمعنا بوطنيته العميقة ووعيه المتقدم تلك المحاولة اليائسة..

***

كل مدير يجمع تبرعا أكثر يرتقي ويكرم..كل مدير يكون ما جمعه من تبرع قليلا يوجدون له المبررات التي بها يقيلونه أو ينزلون من رتبته..

تنافس المدراء في جمع التبرعات..يرسلون قائمة المتبرعين ومقدار ما تبرعوا به كل شهر إلى من هم أعلى منهم..تبرعوا هم أنفسهم بالكثير من المال ليحافظوا على مناصبهم ..تنافس العمال والموظفون في تبرعاتهم طمعا في الارتقاء..

سلوكا عاما صارت ظاهرة التبرعات..عادية صارت..لم يتورع بعض المديرين عن وضع بعض المتبرع به في جيوبهم..التلاميذ في مختلف المؤسسات التعليمية صاروا يتبرعون سرا لأساتذتهم من أجل الارتقاء إلى الأقسام الأعلى ..المرضى في المستشفيات فعلوا مثلهم.. في مختلف الإدارات التي تتعامل مع الجمهور مباشرة ..كل الناس، وفي كل المستويات والقطاعات، صاروا يتبرعون لقضاء حاجاتهم..لم يكونوا يسمون ذلك رشوة..كانوا يسمونه تبرعا، تارة، وتضامنا، تارة أخرى..بعضهم سموه قهوة..

ادهن السير يسير..ادفع ترفع..هكذا صاروا يقولون لبعضهم البعض، وبعلانية تامة..

من لا يدهن ،من لا يدفع،يقولون عنه معلقين مستهزئين: ذاك جايح..

***

حدث ذلك في العام 2017 وما قبده..

حدث ذلك في عالمنا العربي وما مثله

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ                                                   

الملِئيس: الملك الرئيس..كلمة تحيل إلى عامنا العربي، حيث لا فرق بين الحكام ملوكا ورؤساء، كلهم مستبدون، وكلهم يتعامل مع الوطن وكأنه ملكية خاصة، ومع شعبه وكأنهم عبيد له..وكلهم لا يغادرون كرسي الحكم إلا بالموت ..                                                       

قبْده: كلمة تعني قبله وبعده

_________

*أديب جزائري 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *