إسهامات الفكر الإسلامي في العلوم النفسية والتربوية
يناير 22, 2017
خاص- ثقافات
*ألفت عبدالسميع الحلبي
ابن سحنون، البُلْدي، ابن سينا، ابن حزم، ابن العربي، ابن رشد وابن خلدون؛ سبعة من أعلام الفكر العربي الإسلامي، جمع بينهم النبوغ العلمي، وإن اختلفت عصورهم وبلدانهم التي عاشوا فيها، وكذا مجالات اشتغالهم واهتمامهم العلمي. هؤلاء العلماء الأعلام كانوا موضوع كتاب صدر عن دار العلوم العربية بالقاهرة في بحر سنة 2016 ألفه الدكتور الزبير مهداد، عنوانه (إسهامات الفكر الإسلامي في العلوم النفسية والتربوية).
أشار المؤلف في مقدمة الكتاب إلى فضل حركة الترجمة التي قربت إلى العرب علوم وثقافات الحضارات السابقة والمعاصرة لهم. فانتفعوا بها وأغنوها بإضافاتهم التي تركت بصمة قوية عليها، فأضحى العلماء المسلمون سادة الميدان العلمي المتحكمين في العلوم المالكين ناصيتها.
ويؤكد الكاتب أن موضوع الإسهام العربي في الحقول النفسية والتربوية ما زال مجهولا، وأكثر ما نشر يكتفي باستقراء بعض الجوانب والكشف عن بعض الخبايا وراء تعبيرات وأساليب المصنفين ومصطلحاتهم، على الرغم من وجود ركام علمي ضخم خلفه بعض العلماء الأعلام، ما يؤهلهم ليكونوا (في مصاف المفكرين العظام في ميادينهم، بفضل ريادتهم العلمية وحصافة ذهنهم، وحيازتهم فضل السبق باكتشافاتهم السيكولوجية). وتقريبا للقارئ من تراث علماء العرب المسلمين، وضع المؤلف كتابه للتعريف بإسهامهم في حقول العلوم النفسية والتربوية.
أول هؤلاء الأعلام الفقيه القيرواني ابن سحنون الذي كان رائدا لفقه التربية، بسط في كتابه “آداب المعلمين” القوانين والتشريعات لضبط العلاقة بين المربي والمجتمع. ألف ابن سحنون الرسالة ليبين للمعلمين والآباء أحكام التعليم، ويجيب على تساؤلاتهم ويفتي في النوازل التي كانت تحصل حول هذا الموضوع الهام. إجاباته كانت تضع الحلول لأمور حاصلة بالفعل سئل عنها، أو أمور ممكنة الوقوع، ليقضي على ما كان يحصل من مخاوف ومحاذير. تطرق للمنهاج التعليمي والعقاب البدني وتعليم الإناث، وقضية الأجرة وتفرغ المدرس للتعليم وقضايا كثيرة. وآراء ابن سحنون في فقه التربية تكتسي أهمية مرجعية في الفكر التربوي الإسلامي، لأنه كان حريصا على إزالة اللبس عن كثير من القضايا التي تعتبر من صميم العملية التعليمية، وقضى على أسباب كثيرة كانت تحول دون إقبال الناس على تعليم أبنائهم، أو فهومات خاطئة لا تشجع المعلمين على التفرغ لتعليم الصبيان وتأجير خدماتهم للجماعة الإسلامية.
ثم تطرق المؤلف للطبيب العراقي أبو العباس البُلْدي الذي كان له الفضل والريادة في دراسة مراحل نمو الطفل السيكولوجية والبدنية والاجتماعية. ذكر البُلْدي آراء عدد من الأطباء الذين حاولوا تقسيم مراحل نمو الطفل وتحديد خصائصها، وحسما للخلاف بين الآراء، ربط البلدي مراحل النمو بتطور الخصائص البدنية، وقسمها إلى ثلاث مراحل: المرحلة الأولى: من الميلاد إلى السنة السابعة؛ المرحلة الثانية: من السابعة إلى الرابعة عشرة؛ ثم المرحلة الثالثة: من الرابعة عشرة إلى سن الواحدة والعشرين. فالمراحل تتحدد بالتطورات البارزة للمهارات الحسية الحركية في كل منها. محددا التغيرات التي تلحق جسم الصبي في كل مرحلة، وتأثير عوامل الوراثة والبيئة والتعلم. مبرزا أثر العوامل الاجتماعية في التطور النفسي. لذلك يعد كتاب “تدبير الحبالى والأطفال” أهم ما خلفه العرب في طب الأطفال، وقمة ما وصل إليه الطب العربي في هذا الحقل المهم، أبان عن دقة ملاحظاته السيكولوجية والبدنية، وذكائه الوقاد، وسعة معرفته بمجال تخصصه، وكثرة قراءاته. لم يقتصر في صناعته على الحد الأدنى، بل تحمل مسؤولية تطوير الصناعة، وإثراء المسيرة الإنسانية بعمل جديد لا يخلو من إبداع وابتكار.
أما ابن سينا ففي “رسالة السياسة” و”كتاب القانون” أولى سيكولوجية التعلم اهتمامه، فقد نبغ فيها بما سجله من ملاحظات تكتسي أهمية بالغة في دراسة التعلم؛ وهو وإن لم يبدع نظاما شاملا للتربية، فإن آراءه في تدبير الطفولة وتعليمها والعناية بها تستحق الاهتمام، فهي تشكل معالم فكر تربوي متميز وذكي، يبرهن على ذكاء هذا المفكر التي رغم مرور كل هذه القرون الطويلة على وفاته، فإن فحصها على ضوء نتائج البحوث الحديثة في علوم النفس يبين وجاهتها وقوتها. فقد كان حريصا على تدعيم آرائه في التربية بمعرفته السيكولوجية والفيزيولوجية، فأبان عن عمق وسعة معرفته بالفلسفة اليونانية والهلنسية، وبعلم الطب وتأثير الأدوية، وبإلمامه بسائر علوم عصره.
في بلاد الأندلس بزغ نجم ابن حزم الأديب الفقيه والطبيب، في كتابه الشهير “مداواة النفوس” اكتشف أهم القواعد الناظمة لعلم النفس، تحدث عن الإيجابية، وحدد أسباب الهم في الشعور بالذنب وبالعجز، والنبذ والإقصاء، والاستجابة للخسارة. وبحث في السلوك وخفض القلق، وكذلك في التسامي بالإيمان: العلم، العمل والإنتاجية، مساعدة الناس والجود، الزهد والقناعة. وشرح ابن حزم كيف أن القلق يعد دافعا رئيسا للسلوك الإنساني، فحدد مصادر القلق النفسي، ووصف أشكال التسامي التي يمكنها أن تخفف من مشاعر القلق وتحيلها إلى إنجازات اجتماعية إيجابية. فالسلوك الإنساني هدفه خفض التوترات والأعراض الناشئة عن سوء التكيف الذاتي والاجتماعي الذي يتولد عن شعور بالعجز أو الذنب أو الإقصاء والنبذ. وفي سعيه لعرض ما يعتبره علاجا للقلق يرسم ابن حزم معالم وصفات الشخصية السوية، وهي الاشتغال بالعلم والتخلي عن الأنانية وبناء سلم القيم لضمان تفاعل اجتماعي وتكيف سليم. وبذلك أسهم ابن حزم في بناء علم النفس الحديث منذ القرن الرابع الهجري.
ومن الأندلس أيضا يبزغ نجم أبي بكر بن العربي المعافري الذي يعد رائدا للتربية المقارنة، في “رحلته” أولى اهتماما بالغا لمقارنة الأساليب التربوية والمناهج التعليمية بين المغرب والمشرق؛ هذا العالم الفذ المجتهد تحلى بنظرته الواقعية المنصفة الإيجابية لنظم وتقاليد النظام التربوي الذي وقف عليه عند زيارته للمشرق. وقام بدراسات مقارنة، وعرض حلولا لمشاكل تعليمية متنوعة.
ودائما في الأندلس ينتصب ابن رشد الذي يحوز الفضل في وضع قواعد للحوار الثقافي والحضاري، وتقدير حق الناس في الاختلاف. فابن رشد فيلسوف كبير أثرى حياتنا بعطائه الفلسفي والفقهي، وأثر بآرائه في كثير من المفكرين الذين استغرقهم هم تجديد العقل المسلم وشحذه وتثقيفه. وقد عبر ابن رشد عن تصور جديد لاختلاف الآخر المخالف لنا في العقيدة. تصور ناتج عن احتكاك ابن رشد بمجتمعات معاصرة له، مختلفة تماما، وأخرى قديمة خبر أحوالها من خلال تراثها الذي اطلع عليه.
كان فيلسوفا مسلما كبيرا ذا إيمان قوي. بذل جهده في الدفاع عن العقل والفلسفة والتقريب بينهما وبين الشريعة. وبرهن على أن الوحي والعقل لا يتعارضان. وحاول النهوض بالعقل المسلم وتجديده. ووضع خطة لتربية الناشئة تربية عقلية مؤسسة على الإسلام، تحقق معرفة بشرية طبيعية تمكن من فهم قوانين الطبيعة والاقتراب من قوانين الوجود، تحترم العقل وتقدره وتراعي القواعد الشرعية في التفكير والحكم.
ويختم الكاتب رحلته الشيقة بالوقوف عند عبد الرحمن بن خلدون الذي أبدع في كتابه “المقدمة” في تحليل البنيات المجتمعية العربية، ووضع قواعد ومناهج علم الاجتماع. فبحث في التربية من زاوية النظر الاجتماعية، وأكد ارتباط التعليم بالعمران الإنساني والتناسب الطردي للعلم والحضارة، وأثر البيئة الاجتماعية في التعليم، كما بحث في التفاعل التربوي الاجتماعي، والتفاعل بين المدرس والمتعلم، مبرزا أن العنف التربوي تفاعل سلبي له نتائج وخيمة على الفرد والمجتمع، وغير ذلك من المباحث التي عالجها بمهارة وذكاء نادرين.
فصول الكتاب تستمد طرافتها من تنوع مضامينها، واختلاف مباحثها، وتؤكد بشكل قوي أن مثقفينا، فقهاء وفلاسفة وأطباء ومؤرخين وغيرهم، كانوا متفاعلين أشد التفاعل مع قضايا مجتمعاتهم، حريصين أشد الحرص على الإسهام الفعال في ترشيد مسيرة التنمية ورفع التحديات السياسية والثقافية التي تحول دون الارتقاء بأحوال مجتمعاتهم، باذلين كل الجهد الصادق المخلص في البحث عن إجابات وافية شافية للأسئلة المؤرقة المقلقة التي راودت الإنسانية منذ قديم، والتي تبرز أهمية وقيمة مساهمة هذا الفكر في بناء الحضارة الإنسانية.