أحجية اللّوح اللّاتيني

خاص- ثقافات

* جابر السّلامي

في مكان قصيّ على سطح البسيطة . بعيدا عن منطق البشر و فلسفتهم , تكوّنت فكرة و استقرّت بين براثن أجمة مستترة من النّباتات الإستوائية المثيرة لهوس التّأمل و التّمعّن . كتابة لاتينيّة محفورة في لوح كساه النّدى و الفصول بغطاء لزج من خضرة داكنة . مكان لا تطاله يد البشر أو هكذا يخيّل إلى الرّائي لمّا تطأ قدماه الجزيرة النّائية الوحيدة كجسم غريب انبثق من سراب.

خرجت من ذلك المكان . تجاوزت صخورا محدّبة و قواقع فوسفوريّة . ها أنا أهمّ بزرعها الواحدة تلو الأخرى . آثار الحذاء الجلديّ العتيد في ذلك المسلك الوعر تختفي أمامي بلا سبب . أنظر إلى الخلف و أقرّر المضي قدما.

قبيلة أفرادها متوحّشون لكنّهم لطفاء . في لطفهم خشونة و بدائيّة مفرطة . طاب لي المقام بينهم أيّاما . أقتات من أسماك النّهر عند انبلاج الصّباح . أحتفل معهم و أرقص متعمّدا بضوء قمريّ جليّ و طفقت أساير هذه الحياة الغريبة بشغف يشي بالحذر . كنت أروم المغامرة النّبيلة , تلك المعفّرة بروح الشّباب. بعيدا عن نمط مقزّز . و الحال أنّني قد وجدت ضالّتي هنا . أشوي حبّات الكستناء و رأسي يتمايل ولعا بأسرار الجزيرة التي منحتني وقارا إستوائيا و عنفوانا بهيجا . أتسلّق أشجار الباوباب و أوثّق صيد الأفاعي برسومات مستعملا دماء طريدة ما لأخطّ ما يحلو لي من مشاهد.

علّمت سكّان القبيلة لعب كرة القدم . بدا لي أّنّ بعض أفرادها قد أظهروا ملكة تعلّم سريعة ناهيك عن توفّر المكان المناسب لممارسة نشاطهم . كانت الكرة جلد ظبي ملفوف بشكل دائري . اللّاعبون حفاة و نصف عراة . نسوتهم يشجّعنهم على جانبي الملعب برؤوسهنّ الحليقة اللّامعة و رقابهنّ المحسورة بلولب من أغصان طريّة . و مع كلّ هدف … كان الصّياح يضجّ المكان ضجّا و فرحة عارمة تهزّ الجميع.

لم يخطر لي أبدا أن ينظر إليّ أفراد القبيلة شزرا ذات صباح . لم أكن أضمر شرّا أو أناصب عداء لفتاة ملكهم . بل لم أكن أدري أنّها ابنة الملك . صوّبوا نحوي الرّماح و النّبال . قدموا فرادى و جماعات . عويل و زعيق لم أفقه ماهيته . كان كلّ شيء أشبه بكابوس . الواقع أنّني هممت بسؤال فتاة تملأ قربة ماء من النّهر حول أقرب طريق للخروج من الدّغل . ولمّا كان ما كان من سؤال . تمتمت بكلمات غير مفهومة و ولّت هاربة.

لا أهتدي إلى طريق الخروج من هذا الدّغل الكثيف . هذا كلّ ما في الأمر . و غرابة هذه الجزيرة تكمن في مفاجآتها بمعنى أنّها جزيرة مشوّقة على نحو ما . وقفت لا أبدي حراكا بين هؤلاء المتأهّبين لطمري بالرّماح . كنت كمن أصيب بصدمة . أردّد صلواتي بلسان متلعثم ثقيل و أنا أحاول استحضار ما درسته عن حقيقة الموت و حبّ الحياة . و ما لبثوا أن انسحبوا الواحد تلو الآخر و عادت تلك الفتاة لملئ قربة الماء . مدهوشا بنجاتي … التفتّ ورائي و مضيت قدما .

كنت موقنا بأنّ نهاية ما تحاصرني كسياج شائك . تلتفّ حولي ظلمة فاترة فلا أرى شيئا مثل تائه أعمى في سهول اللاّإدريّة . استحضرت فكرة من هول المأزق وهي أنّ النّهايات التي انتهت بها جلّ قصص و حكايات العالم لا تشبه النّهاية المحيطة بي . وهذه الفكرة قد جعلت ما أنا فيه لعنة على المقاس . لا أتحرّك. لا أرى . بيد أنّ سمعي بخير . صوت أنفاسي المختنقة  يتردّد في أرجاء الهوّة العميقة .  أمر رائع أن نكتشف حقيقة جديدة خلال مصيبة تحلّ بنا . لقد اكتشفت للتوّ أنّي عالق داخل هوّة ترابيّة باردة تفوح منها رائحة الرّطوبة العطنة . و لبثت أتحسّس جدرانها الملساء نابشا بأصابعي ما يخيّل لي أنّها نتوءات أو تشقّقات بغية التّشبّث بها.

وجدت صعوبة في الوقوف على قدميّ بعد السّقوط المفاجئ . كتفاي يؤلمانني و كفّ يدي اليمنى مجبول بخدوش دامية . لم تعوزني الإصابة من البحث عن خروج آمن . دخل خيط رفيع من النّور عبر أوراق تأكّدت بعدها أنّها لشجرة قيقب . المربك هنا أنّ الأشجار عادة ما تبدي لنا حنانا ملائكيّا كأن نحتمي بظلالها من قيظ شديد أو أن نختبئ تحتها من مطر منهمر . لكنّها الآن تعقّد مسألة خروجي من الهوّة و تحجب عنّي الضّوء و دون تردّد اعتبرتها لعنة رائعة من ضمن أخريات .

وصادف أن تتّخذ الشمس مكانها وسط السّماء لتتّضح الرّؤية و أتسلّق غصنا منسدلا و الرّطوبة ما تنفكّ تحرق أنفي . وقفت لاهثا من التّعب أمام حفرة دائريّة غائرة في الأرض . شيء ما كساها بأغصان و أعواد مختلفة حتى اختفت تماما . و مثل من صدم إثر فرح . التفتّ خلفي و مضيت قدما.

السّاعة الآن … لا أدري تماما . أذكر أنّني جدّفت بالقارب أواخر اللّيل حتى وصلت إلى ساحل صخريّ مع انبلاج خيوط الصّباح الأولى . لم أعر الوقت أدنى اهتمام عدا إحساسي بالجوع . ومردّ ذلك أنّني لم أتناول العشاء في اللّيلة الفارطة . كنت أنظر إلى المياه المتلاطمة من الباخرة و أنا أستعدّ للتسلّل إلى الجزيرة في غفلة من الجميع. اتخّذت لي مكانا مكشوفا و افترشت رمالا خشنة جالسا قبالة القارب الخشبيّ اللاّمع آكل وجبة الفطور . هجمت على المكان قردة خارجة من الدّغل . هربت . ليس من خوفا من الموت غريبا في جزيرة مهجورة . بل استمرارا في سرد الحكاية . كنت مختبئا خلف جذع نخلة مرميّ على الشّاطئ . رأيت قردا ينبش في حقيبتي و يأكل ما تركته من فطوري . قردان آخران ذهبا إلى القارب . و رابع يصيح ويقفز و كأنّه ينبّههم إلى ذلك الآدمي الذي لا يزال قريبا ولم يبتعد . فكّرت هنيهة. كم فظيع أن ينتهي إنسان وجبة لقردة متوحّشة . الأمر يتوجّب الهرب حتما . المشكلة أنّني لا أفقه دروب المكان و أربعة قردة تترصّد بلا هوادة إنسيّا اقتحم مجالهم فجأة. و مهما يكن من أمر فقد ركضت باتجاه الدّغل و تهت في الغابة.

لم أستشنع أمر تسلّلي من الباخرة دون إذن من الرّبان رغم أنّ القانون يقضي باحترام الشّروط المعمول بها في الرّحلات الدّراسيّة . نظرت إلى قمّة الجزيرة ثمّ إلى الباخرة . حملت حقيبتي و عدت إلى القارب . جدّفت حتى كلّت يداي ووصلت إلى الباخرة . الغريب أنّ الجميع لم يخلدوا إلى النّوم . ألفيتهم مثلما تركتهم.صاخبين متنعّمين بجوّ استوائي دافئ . هتفت لي زميلتي … ” أين كنت ؟ لقد غبت عن ناظري للتوّ . في الواقع كنت أدعوك لنلتقط صورة جماعية مع الأستاذة ” . غمغمت  قائلا ” أجل أجل … أعلم . لا تشغلي بالك … أنا قادم “.تحسّست حقيبتي ثمّ فتحتها و أخرجت لوحا قديما نقشت فيه كتابة لاتينية . نظرت إلى الجزيرة و خيّل إليّ عبر الضّباب أنّ قردا يلوّح إليّ مخمّنا . ” أيّها الآدميّ أعد إليّ لوحي و خذ سجائرك ” و تذكّرت السّجائر ففتّشت عنها و لم أجدها .

___
بوسالم – تونس

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *