مقطع من رواية (صمت الفزّاعة)

 

خاص- ثقافات


*مصطفى ملح

تقدّمت نحو العمّ ميمون، ولجتُ الدّكّان وحلقتُ. نفحته بما جاد به الجيب وقبل المغادرة ناديتُ النّادل من المقهى المجاورة ورجوته أن يصنع شايا فاخرا ودفعتُ الثّمن. كانت هذه خطوتي الأولى لشراء صداقة الحلّاق. وتكرّرت الزّيّارات إلى أن صرتُ وجها مألوفا في الدّكّان، وصار كلُّ مرتادٍ له شبهَ صديق..

صوت رخيم حادّ ينبعث من دكّان بائع الأشرطة. لست أدري أكان صوت مهيار الدّيلمي، أم صوت صباح فخري، أم صوت الزّمن:

ماذا فعلتِ بناسكٍ متعبّدِ

قلْ للمليحةِ في الخمارِ الأسودِ

حتّى خطرتِ لهُ ببابِ المسجدِ

قدْ كانَ شمّرَ للصّلاةِ ثيابهُ

لا تقتليهِ بحقِّ دينِ محمّدِ

ردّي عليهِ صلاتَهُ وصيامَهُ

وسألته عن الرّجل، وكشفتُ عن أوصافه دون أن أعترف بعلاقتي به. وأسهب الرّجل في الحديث: كنت أعرفه منذ سبع سنين، كان رفيقا لإحدى المغنّيات في فرقة شعبيّة تُقيم الأفراح والأعراس، وقد سبق لي أن حضرتُ بعض اللّيالي التي كان يحييها، وكانت أيّاما لا تعوّض يا بنيّ.. أيّام الحصاد والغلال والثّمار وحسن النّيّة.. وماذا حدث يا عمّ؟ سعل ومسح بقايا اللّعاب وواصل: بعد ذلك حدث شجار بينه وبين رفيقته، ضربها وجرّها من شعرها كما يُجرّ التّيس عند الذّبح، فلم تتحمّل الإهانة وصمّمتْ على الانتقام، وصارت تتفاداه علنا وتكيل له الشّتائم، محتمية بأحد أفراد الفرقة الذي صار رفيقها الجديد. بل إنّ الأمر استفحل، ففي ليلة لعبت الكأس برأسه فضربها، فصرخت، فهبّ رفيقها الجديد حاملا عصا غليظة وانهال عليه ضربا إلى أن فقد صوابه وبعض أسنانه، ومنذ ذلك الوقت ترك الفرقة وصار شريدا، وبدأت حاله تتدهور، وصحّته تنهار، فلم يكن يجد المأوى والمأكل، ولكنّ كثيرا من النّاس ممّن عرفوه في أيّام عزّه تعاطفوا معه فقدّموا له النّزر القليل.. وأين يُقيم الآن يا عمّ ميمون؟.. في أرض الله الواسعة. ينام أينما شاء. إذا حلّ اللّيل وسقطت العتمة وأصابه الإعياء يمدّ رجليه الخائرتين وينام. قرب مسجد، تحت باب دكّان، في مرآب، في مغارة، في أيّ مكان. ألم يحدّثك عن أسرته يا عمّ؟.. القصّة تطول، والحزن يخيط فصولها بالدّم يا ولدي!.. وتقدّم زبون للحلاقة. ودّعتُ الشّيخ مصمّما على العودة..

وحدث ما لم يكن في الحسبان. المدينة المنشغلة باليوميّ تنهض ذات يوم على انفجار كبير. هرع النّاس شبه نيام إلى عين المكان مذعورين متسائلين. كان الدّخان يرتفع صانعا خيوطا مخيفة تلتفّ حول الأعناق والقلوب المضطربة. أيمكن أن تكون قارورة غاز؟ أم عطب بأسلاك الكهرباء؟ والمثير أنّ الانفجار حدث في حيّ راقٍ حيث الأمن متوفّر والسّكّان أكثر يقظة وحذرا. الكلّ يتساءل. ارتفعت الأعين إلى الأعلى فتبيّنوا الدّمار المهول الذي أصاب أحد الفنادق المصنّفة. ولم يدرِ أحد ماذا يحدث؟

أدخنة سوداء كثيفة تحتلّ الفضاء. صمت المدينة أقسى وأشدّ من لغطها. كأنّه الصّمت الخادع الذي يسبق النّفخ في الصّور. يوم القيامة طويل، والنّاس تشرئبّ أعناقهم إلى البناية التي هوتْ. سبع طبقات أو أكثر. اختلط زجاج النّوافذ بغبار الحجارة المفرومة، بدخان الانفجار، بركام الأشياء المفقودة، بحطام الأدوات والكراسي والأسرّة، بدم الضّحايا، وبخوف العابرين والعابرات.

بعد ذلك تناقلتْ وكالات الأخبار النّبأ الفاجع. هجوم إرهابيّ تبنّته إحدى الجماعات. واستنفرت الشّرطة والصّحافة والنّاس. وانشغل التّلفزيون بالتّعليق والتّحليل، واستُدعي متخصّصون لمناقشة المسألة، وتُليتْ برقيات التّعازي، إذ مات أكثر من مئة شخص إضافة إلى المعطوبين والجرحى..

وقال عبد الجليل: ماذا يريد هؤلاء النّاس؟ وانتشر نقاش عمّ جميع فئات المجتمع. ملتحون يخفون تحت جلابيبهم أحزمة ناسفة ويفجّرون أنفسهم طلبا للجنّة!.. من غسل أدمغة أولئك المغرّر بهم؟  من باعهم صكوك الغفران المعاصرة؟ كيف سمحوا لأنفسهم بقتل الأبرياء بدعوى أنّهم يحاربون الكفّار؟ أليس لهم عائلات؟ أليس لهم قلوب ومشاعر؟

وازداد إيماني بأنّ الدّين هو المحبّة، وكلّ عدوانيّة وحقد مجرّد رماح سامّة تنغرز في جسم الدّين. ومع مرور الأيّام بدأ النّاس يتناسون الفجيعة، وانشغلوا بالحياة وأسئلتها البسيطة، كالبحث عن الخبز اليوميّ، والقيام بواجبات الأسرة، وزرع المدينة الواسعة ببعض الأمل ليكون هناك متّسع كي تشرق الشّمس من جديد..
___
*كاتب مغربي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *