ضِدَّ الْمَوْتِ

خاص- ثقافات

غُونْثَالُو رُوخَاسْ*/ ترجمة: الدكتور لحسن الكيري**

إهداء المترجم

“أهدي هذه الترجمة إلى الدكتور محمد أسليم الأستاذ بمركز تكوين مفتشي التعليم بالرباط و أشكره على جهوده العلمية في سبيل تطوير البحث العلمي الرصين و نبل أخلاقه متمنيا له دوام الصحة و العافية”.

أُجِيلُ النَّظَرَاتِ فَأَفْقَأُ عَيْنَيَّ فِي كُلِّ يَوْمٍ يَنْقَضِي.

لَا أُرِيدُ، بَلْ لَا أَسْتَطِيعُ! أَنْ أَرَى النَّاسَ يَمُوتُونَ كُلَّ يَوْمٍ.

أُفَضِّلُ أَنْ أَكُونَ مَقْدُودًا مِنْ حَجَرٍ، أن أَكُونَ غَيْرَ مُتَجَسِّدٍ،

عَلَى أَنْ أَتَحَمَّلَ قَرَفَ التَّلَيُّنِ مِنَ الدَّاخِلِ وَ أَبْتَسِمَ

يَمِينًا وَ شِمَالًا مِنْ أَجْلِ أَنْ أَنْجَحَ فِي مَشْرُوعِي.

***

لَا مَشْرُوعَ لِي غَيْرَ أَنْ أَقُولَ الْحَقِيقَةَ هُنَا

فِي وَسَطِ الشَّارِعِ وَ فِي اتِّجَاهِ كُلِّ أَنْوَاعِ الرِّيَّاحِ:

حَقِيقَةَ أَنْ أَكُونَ حَيًّا أُرْزَقُ، فَقَطْ حَيًّا أُرْزَقُ،

بِرِجْلَيَّ عَلَى الْأَرْضِ، وَ الْهَيْكَلُ حُرٌّ فِي هَذَا الْعَالَمِ.

***

مَا الَّذِي سَنَجْنِيهِ مِنَ الْقَفْزِ حَتَّى حُدُودِ الشَّمْسِ بِآلَاتِنَا

السَّرِيعَةِ سُرْعَةَ التَّفْكِيرِ، تَبًّا: مَا الَّذِي سَنَجْنِيهِ

بِالطَّيَرَانِ فِي مَا وَرَاءَ الْمُطْلَقِ

إِنْ كُنَّا مُسْتَمِرِّينَ فِي الْمَوْتِ مِنْ دُونِ أَمَلٍ فِي الْحَيَاةِ

خَارِجَ الزَّمَنِ الْقَاحِلِ؟

***

اَلرَّبُّ لَا يُغْنِينِي. لَا أَحَدَ يُغْنِينِي فِي أَيِّ شَيْءٍ.

لَكِنَّنِي أَتَنَفَّسُ، أَجَلْ وَ حَتَّى إِنِّنِي أَنَامُ

وَ أَنَا أُفَكِّرُ فِي أَنَّهُ تَبَقَّتْ لِي عَشَرَةُ أَعْوَامٍ أَوْ عِشْرُونَ عَامًا كَيْ أَرْحَلَ،

مُنْبَطِحًا، كَبَاقِي النَّاسِ لِأَنَامَ فِي مِتْرَيْنِ مِنَ الإِسْمَنْتِ هُنَاكَ فِي الْأَسْفَلِ.

***

لَا أَبْكِي، لَا أَرْثِي نَفْسِي. كُلُّ شَيْءٍ يَجِبُ أَنْ يَحْدُثَ كَمَا يَجِبُ أَنْ يَحْدُثَ،

لَكِنَّنِي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرَى نُعُوشًا وَ نُعُوشًا

تَمُرُّ وَ تَمُرُّ وَ تَمُرُّ وَ تَمُرُّ كَلَّ دَقِيقَةٍ

مَمْلُوءَةً بِشَيْءٍ مَا، مَحْشُوَّةً بِشَيْءٍ مَا، لَا أَسْتَطِيعُ

بَعْدُ أَنْ أَرَى الدَّمَ سَاخِنًا فِي النُّعُوشِ.

***

أَلْمُسُ هَذِهِ الْوَرْدَةَ، أُقَبِّلُ تُوَيْجَاتِهَا، أَعْشَقُ

الْحَيَاةَ، لَا أَتَعَبُ وَ لَا أَنْصَبُ مِنْ حُبِّ النِّسَاءِ: أَقْتَاتُ عَلَى

فَتْحِ الْعَالَمِ فِيهِنَّ. لَكِنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ دُونِ جَدْوَى،

لِأَنَّنِي أَنَا بِنَفْسِي رَأْسٌ مِنْ دُونِ جَدْوَى

مُتَأَهِّبٌ لِلْقَطْعِ، مِنْ دُونِ أَنْ أَفْهَمَ مَا مَعْنَى

 انْتِظَارُ عَالَمٍ آخَرَ بَعْدَ هَذَا الْعَالَمِ.

***

يَتَحَدَّثُونَ لِي عَنِ الرَّبِّ أَوْ عَنِ التَّارِيخِ فَأَضْحَكُ

مِنْ أَنْ أَذْهَبَ بَعِيدًا جِدًّا لِلْبَحْثِ عَنْ تَفْسِيرٍ لِلْجُوعِ الَّذِي

يَفْتَرِسُنِي؛ جُوعُ أَنْ أَعِيشَ كَالشَّمْسِ فِي حِضْنِ الرِّيَّاحِ إِلَى الْأَبَدِ.

*القصيدة في الأصل الإسباني:

Contra la muerte

Me arranco las visiones y me arranco los ojos cada día que pasa.
No quiero ver ¡no puedo! ver morir a los hombres cada día.
Prefiero ser de piedra, estar oscuro,
a soportar el asco de ablandarme por dentro y sonreír
a diestra y siniestra con tal de prosperar en mi negocio.
***
No tengo otro negocio que estar aquí diciendo la verdad
en mitad de la calle y hacia todos los vientos:
la verdad de estar vivo, únicamente vivo,
con los pies en la tierra y el esqueleto libre en este mundo.
***
¿Qué sacamos con eso de saltar hasta el sol con nuestras máquinas
a la velocidad del pensamiento, demonios: qué sacamos
con volar más allá del infinito
si seguimos muriendo sin esperanza alguna de vivir
fuera del tiempo oscuro?
***
Dios no me sirve. Nadie me sirve para nada.
Pero respiro, y como, y hasta duermo
pensando que me faltan unos diez o veinte años para irme
de bruces, como todos, a dormir en dos metros de cemento allá abajo.
***
No lloro, no me lloro. Todo ha de ser así como ha de ser,
pero no puedo ver cajones y cajones
pasar, pasar, pasar, pasar cada minuto
llenos de algo, rellenos de algo, no puedo ver
todavía caliente la sangre en los cajones.
***
Toco esta rosa, beso sus pétalos, adoro
la vida, no me canso de amar a las mujeres: me alimento
de abrir el mundo en ellas. Pero todo es inútil,
porque yo mismo soy una cabeza inútil
lista para cortar, pero no entender qué es eso
de esperar otro mundo de este mundo.
***
Me hablan del Dios o me hablan de la Historia. Me río
de ir a buscar tan lejos la explicación del hambre
que me devora, el hambre de vivir como el sol
en la gracia del aire, eternamente.

* ولد غونثالو روخاس عام 1917 في مدينة بويرتو ليبو عاصمة محافظة أراوكو التي اشتقت اسمها من اسم نهر ليبو الذي يقول فيه: “أرى نهراً متدفقاً يلمع كالسكين، ويقطع ليبو شطرين من عطر”.
في تلك المدينة (ليبو) قضى غونثالو روخاس أيام طفولته وبنى ميثولوجيته الذاتية. وثمة ثلاثة فصول أو مشاهد على الأقل تميّز ذلك الماضي، أولها مشهد الأب العامل في المنجم الذي توفي قبل أن يتجاوز الأربعين سنة ولم يكن عمر الشاعر آنذاك يتجاوز الخمس. وقد ترك الوالد هدية تذكارية لكل واحد من أبنائه الثمانية، وكان من نصيب غونثالو روخاس مهراً أحمر كان يرعى في الإسطبل مقابل نهر ليبو. وكان الشاعر يتأمّله بإمعان يوماً إثر يوم كما ولو أنه يستحضر على مطيته صورة وذكرى والده. وجاء يوم سرقوا فيه ذلك الحصان !!. ويقول روخاس: “بانتزاعهم إياه مني شعرت بأنهم اقتطعوا والدي بالفعل من جسدي، وبسرقة ذلك المهر سرقوا مني الطفولة، سرقوا العالم، سرقوا الوجود…”. في قصيدته المشهورة “الفحم” يحاول غونثالو روخاس استحضار ذكرى والده حيث يظهر الوالد كالشبح على بوابة الدار تحت وابل المطر برائحة الحصان المبلل                                .
أما الفصل الثاني من حياة الشاعر فيظهر على إثر تلك الليلة الملبدة بالغيوم والمشحونة بالعواصف الهوجاء، وذلك عندما كان عمره يتراوح بين خمس وست سنوات، فقد شقّ شعاع من البرق حجب الظلام الدامس المخيّم على مدينة ليبو، عندها صرخ أحد أشقائه الصغار قائلاً: “إنه البرق!!” ، ويقول الشاعر روخاس: “كان ذلك أشبه بنزول وحي ملتهب كامن في الكلمة، فالإحساس بشعاع البرق في الكلمة التي سمعتها وأدركت معناها كان أعظم من الإحساس بشعاع البرق الفعلي”.
أما الفصل الثالث المؤثر في حياة الشاعر فيتجسد في شارع أورومبيجو في حي كونسبسيون حيث انتقل إليه عام 1926 برفقة أسرته التي كانت آنذاك على عاتق والدته، وقد اضطر غونثالو روخاس للعيش في مدرسة داخلية، وكان يدرس بفضل منحة تمكن من الحصول عليها. وقد كان الجو في تلك المدرسة عدائياً، وكان هو مهيض الجناح، يتيم الأب، وبعيداً عن مسقط رأسه ليبو، بل وما لبثت أمه أن ابتعدت عنه أيضاً. ومن هنا ينبثق شعوره المبدئي بالرثاء ، وتنبثق شخصية “اللا مولود” أو “المولود المرتجع”. ويتحدث بعد بضع سنوات عن ذلك الوضع قائلاً: “أرجو أن لا يقال بأنني أحببت سحب كونسبسيون، أو أنني شعرت خلال إقامتي في بلدة بيو المتخمة بالسحالي السامة بأنني مقيم في بيتي، فذاك لم يكن بيتي إطلاقاً، وقد عدت إلى صخور أوريمبيجو القذرة كمعاقب بعد أن جبت العالم بأسره”.
من خلال الفصول أو المشاهد الثلاثة السابق فهم غونثالو روخاس معنى الرثاء والتأرجح بين الموت والحياة، وبدت أشعاره كتكامل وكدوران في حلقة مفرغة بين الفناء والخلود، حيث يكتب حول الموت ليقف ضد الموت ، فيقول:  كل حقبة من الزمن أعود وأخرج من جذوري/ من طفولتي/ وأطير باتجاه أقصى النجوم، فأنا من الهواء، وأدخل معه إلى كل جميل على وجه الأرض”. كان غونثالو روخاس يتلعثم في كلامه، ومع ذلك فقد كانوا في المعهد يفرضون عليه القراءة بصوت مرتفع، في الوقت الذي كان فيه زملاؤه يتلقفون بعض روايات فيرني أو سالغاري. ولكثرة ما كابد من ذلك الأمر تعلم استبدال الكلمات التي يتلعثم بها بكلمات لا تشمل حرف الباء أو الكاف. في عام 1938 انتمى غونثالو روخاس إلى مجموعة ماندراغورا التي كانت تضم أيضاً كل من تيوفيلو سيد، وبراوليو أريناس، وإنريكي غوميث كوريا، وعن طريق تلك المجموعة اقترب من الحياة الأدبية ومن المدرسة السريالية، ولكنه في الوقت نفسه أعجب وانبهر بديوان “إقامة في الأرض” لبابلو نيرودا، وديوان ” تالا ” لغابرييلا مسترال. وتعرّف شخصياً على بابلو روكها، وبسينتي هويدوبرو الذائع الصيت.
وفي حقبة الأربعينات وقبل وفاة والدته بفترة قليلة كان روخاس يعيش في شارع رينجينو في غرفة فيها طاولة خشبية يضرب فيها سكيناً فولاذية، ويقول أنه لم يكن ليستطيع الكتابة إلا عندما يرمي تلك السكين فتغرس في الطاولة وتهتز مصدرة رنينها الملهم”. فالكلمة تنزل عليه كالوحي أثناء طنينها في الهواء، وهو يؤكد دوماً ”  صلة الكلمة بالإيقاع والرنين                                               . “!!
درس روخاس الحقوق لبضع سنوات وبعدها غادر إلى العاصمة سانتياغو، وهناك تعرّف على ماريا التي كانت تبلغ من العمر 18 عاماً، وبعد زواجه منها أنجبت له ابنه البكر. وغادرا معاً أرض “اللا أعرف ماذا!!” إلى جبال دوميكو وثلوج أتاكاما حيث زاول عدة مهن، كما كان يعلّم عمال المناجم القراءة والكتابة. وقد ابتعد قليلاً عن السريالية في تلك المرحلة فاتهمه أعضاء مجموعة ماندراغورا لدى هويدوبرو بأنه “نصّاب الشعر.. فكان جواب هويدوبرو: “دعوه.. إن غونثاليس مجنون بحاجة إلى قمة!!”. بالرغم من أن اقترانه بماريا لم يدم طويلاً فإنه أثر على أشعاره، فقد جسّدت المحطة الأنثوية الأولى، وكانت واحدة من الجميلات اللواتي حفلت بهنّ أعماله الأيروتيكية. بعد مرور بضع سنوات تعرّف روخاس على هيلدا ماي رفيقة دربه الأخيرة ووالدة ابنه الثاني غونثالو. وقد توفيت هيلدا عام 1995 بعد صراع مع مرض عضال، ويقول عنها في إحدى قصائده: “إنها تلك.. التي تنام هنا / إنها المقدّسة.. التي تقبلني، وتسبرني، إنها الشفافة/ العزيزة/ المولعة/ القيثارة/ الفارعة.. .                           إن الإيروتيكية بالنسبة لروخاس ليست مجرد إحساس جسدي، بل نموذجاً لعالم وكون يلتقي فيه المقدّس بالمغري، وتنصهر فيه التناقضات، وقد كان ديوانه الأول “ابتذال المرء” بمثابة انفجار مدوّ في عالم الشعر التشيلي حيث أصبح غونثالو روخاس إلى جانب نيكانور بارّا (1914) حلقة الوصل مع أقطاب ومؤسسي المدرسة الشعرية التشيلية مثل غابرييلا مسترال، وبسينتي هويدوبرو، وبابلو روكها، وبابلو نيرودا، وإنريكي ليهن، وخورخي تايليير، وإدواردو أنغيتا، وأوسكار هان، وغونثالو ميليان، وراوول ثورّيتا، وإلبيرا إرناندس، ودييغو ماييرا                                         .
وحول تأثره بأولئك الشعراء والأدباء يقول غونثالو روخاس: “إن واحدنا يتغذّى بهم ، ولكن يجب أن يفعل ذلك بحذر شديد كي لا يصاب بعسر الهضم، فروحي تستحضر وتستلهم وتحاور أربعة قمم في الشعر وهم، بابلو روكها، وبابلو نيرودا، وغابرييلا ميسترال، وبسينتي هويدوبرو، ومع ذلك فإن الأخير هو الذي أعتبره الأكثر تحدّياً إذ لم أعرف أحداً تمكن من زرع الحرية في رأسي مثله” ويضيف غونثالو روخاس بأن “لنيرودا أيضاً تأثيره عليّ بالرغم من تلوناته وإيماءاته الشعرية”. وبالطبع فإن غونثالو روخاس لم يتأثر بالشعراء التشيليين والأمريكيين اللاتينيين فقط وإنما تأثر أيضاً بشعراء عالميين مثل أندريه بروتون، وسيسار بايخو، وآلان غينسبرغ، بل وبماوتسي تونغ الشاعر أيضاً. لقد حفلت حياة غونثالو روخاس بالترحال، ومارس خلالها تعليم الأدب في المعاهد والجامعات، وفي عام 1953 سافر إلى باريس وتعرّف على بروتون، وبيريت. وسافر أيضاً إلى الصين عام 1959 وتحدّث مطوّلاً مع ماو تسي تونغ حول الشعر، وفي عام 1965 سافر إلى كوبا واجتمع مع ليثاما ليما، وبينا غارثيا مارّوس، وسنتيو بييتر، وألسيو دييغو                                                 .
وقد عانى غونثالو المنفى أيضاً ففي عام 1970 عينه الرئيس الراحل سالبادور أليندي ملحقاً ثقافياً في الصين ثم قائماً بأعمال سفارة تشيلي في كوبا. وكان يشغل المنصب الأخير عندما أقدم الدكتاتور أوغوستو بينوتشي عام 1973 على الانقلاب العسكري الدموي ضد الرئيس سالبادور أليندي، وعلى إثر ذلك أمرت الحكومة الدكتاتورية بطرده من كل الجامعات وسحبت منه جواز السفر الدبلوماسي. ويقول روخاس في ذلك: “لقد تلقيت فجأة ضربتين قاصمتين، كانتا بمثابة طلقتين موجهتين من موقعين متضاربين ضد هدف واحد، فمن جهة أولى تلقيت خبر حرماني من جامعة كانت بمثابة الحياة لي وذلك تحت طائلة مزاعم عديدة، ومن جهة ثانية تلقيت ضربات بعض القطاعات الأدبية التشيلية المغالية في المنفى التي اتهمتني بالعداء للشعب”.
قضى غونثالو روخاس السنوات الأولى لمنفاه في ألمانيا الشرقية ولكنه لم يتأقلم مع نظام الحكم القائم فيها والذي كان يشكك بانتماء غونثالو اليساري، وكان يقول: “لقد كانوا يعاملوني كبروفسور ومع ذلك فلم أكن لأستطيع إعطاء الدروس نظرًا لأني اقترحت تدريس خورخي بورخيس وأدباء آخرين لم يكونوا ليروقوا للسلطة” .بعد مروره بألمانيا توجه غونثالو روخاس إلى بنزويلا حيث نشر عام 1972 واحداً من دواوين شعره الأساسية “المعتم” وذلك بعد 13 عاما من صدور ديوانه المعروف “ضد الموت” عام 1964. وبالرغم من آلام المنفى فإن غونثالو روخاس كان يعتقد بأن مشكلته أقل من مشكلة غيره؛ فقد كان دوماً يعتبر أنه من الجنسية الأمريكية اللاتينية قبل أن يكون من الجنسية التشيلية فقط، كما أن انتماءه اليساري خفف عنه مشاكل التأقلم مع الإيديولوجيات اليسارية السائدة في العديد من البلدان التي أقام فيها. ويقول بهذا الخصوص: “بالنسبة لوضعي الخاص لم يكن المنفى مأساويًا بالدرجة التي عاناها بقية الشيليين، فقد كان منفاي جميلًا، إذ كنت أتواجد كدبلوماسي في كوبا، وذهبت إلى ألمانية الشرقية بعدها”. في وقت لاحق ولدى بلوغه الستين عاما تلقى منحة غوغنهام ودرّس في الجامعات الأمريكية والأوروبية، وأخذت شهرته تجوب الآفاق، وتلقى الكثير من الجوائز وأصدر دواوين عديدة مثل: “عن البرق” عام 1981، “المستنير” عام 1988، “القارئ العاطل عن العمل” 1990، “ريّو توربيو” عام 1996، “حوار مع أوفيديو” عام 2000، هذا فضلاً عن الكثير من الأبحاث والأعمال الأدبية. وفي عام 1979 عاد روخاس إلى تشيلي، حيث أن الكتابة في المنفى كانت قد أضحت أمراً عسيراً، ويقول في هذا الشأن: “لقد كانت الكتابة في المنفى عسيرة جداً، وأنا لم أشتق للجبل، ولا للبحر، ولا لشيء من هذا القبيل، ولم يكن يؤرقني إلا عدم سماع كلام ولهجة مواطنيّ، ولذلك فما إن عدت حتى انطلقت متجولاً في الأسواق لسماع حديثهم العذب!!”.

**كاتب، مترجم، باحث في علوم الترجمة ومتخصص في ديداكتيك اللغات الأجنبية – الدار البيضاء -المغرب.

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *