عرف التاريخ مجموعة من الصالونات الأدبية لنساء أديبات،منها صالون (كاترين دي رامبويه) أقدم الصالونات الفرنسية وقد ظهر بباريس في القرن التاسع عشرَ،وعاصره صالون آخر هو صالون (مدام دي سيفينيه) بباريس.ثم ظهرت مجموعة من الصالونات في أوربا بعد ذلك وازدهرت.ولا ننسى صالونا نسائيا عربيا مهما ومؤثرا ظهر في بداية القرن العشرين،هو صالون مي زيادة في القاهرة.لكن أقدم صالون نسائي أدبي عرفه التاريخ هو صالون ولادة بنت المستكفي في قرطبة في القرن الحادي عشرَ الميلادي.ولادة ابنة الخلفاء الأُمويين جعلت بيتها منتدى أدبيا وسمريا يرتاده أفذاذ المجتمع القرطبي من أرباب الثروة وسياسيون وأدباء.كانت قرطبة قبل وقت يسير من زمان ولادة عاصمة الدنيا،وعاصمة الخلافة الإسلامية،وهي الآن عاصمة إمارة بني جهور في عصر ملوك الطوائف.
بشرة بيضاء،وشعر كالخمرة الصهباء مسكرٌ،وعينان زرقاوان،وهي نتيجة تمازج عربي أموي وإسباني،فأبوها هو المستكفي على خمول ذكره وقلة شأنه في التاريخ،وأمها جارية إسبانية اسمها سكرى.وهي فوق هذا شاعرة صاحبة ذوق في الشعر وصاحبة رأي في نقده.ويروي ابن بسام في كتابه “الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة” بقوله (زعموا)،أنها خطت هذين البيتين على جهتي ثوبها:
أَنَا واللهِ أَصْلُحُ للمعالي
وَأمْشي مشيتي وأتيه تيهاً
أمَكِّنُ عَاشِقي من صَحْنِ خَدِّي
وَأُعْطِي قُبْلَتِي مَنْ يَشْتَهِيها
فيما يرى المستشرق هونرباش أن البيتين متناقضان،فكيف لابنة الأمويين التي تتيه على البشر أن تبيع نفسها بهذه الطريقة؟ والأجدر أن يكون هذا البيت الثاني ملفقا.
من بين هؤلاء الذين ارتادوا بيت ولادة،ذو الوزارتين الشاعر الأندلسي الكبير أبو الوليد بن زيدون،الفراشة التي ستحترق بمصباح ولادة الوضاء.وهو الوزير الأول في دويلة بني جهور تحت حكم أبي الحزم بن جهور،وكان له دور كبير في قيام هذه الدولة.
وككل البدايات بدأت علاقة ابن زيدون بولادة وطيدةً وكانا يعيشان أياما زاهية غارقين في لذائذ العشق.منها أنهما سهرا طيلة ليلة يتبادلان العشق،حتى إذا تنفس الصبح ودعها قائلا:
ودّع الصبرَ محبّ ودّعكْ
ذائع مِن سرّه ما اِستودَعكْ
يقرع السنّ على أَن لم يكنْ
زادَ في تلك الخطى إذ شيّعكْ
يا أَخا البدرِ سناء وسنى
حفظ اللَه زماناً أطلَعكْ
إن يطُل بعدك ليلي فلكم
بتّ أشكو قصرَ الليل مَعكْ
وقالت هي:
ترقّب إذا جنّ الظلام زيارتي
فإنّي رأيت الليل أكتم للسرِّ
وَبي منك ما لو كانَ بالشمسِ
م تلح وبالبدر لم يطلع وَبالنجم لم يسرِ
لكن الأمور بعد ذلك ستسوء بينهما وتتوتر علاقتهما كثيرا نظرا لمجموعة من العوامل والأحداث.منها أن كانت لها عشق جارية سوداء بديعة اسمها عنبة،وبدا لها أن ابن زيدون مال لها،ويروى أنها كانت تغني أبياتا فسألها الإعادة دون إذن ولادة وأخذ يرمقها بنظرات الإعجاب مما أغضب ولادة.فكتبت له هذه الأبيات التي تقطر غلا وغيرة:
لَو كنت تنصفُ في الهوى ما بيننا
لم تهْوَ جاريتي ولم تتخيّرِ
وَتركتَ غصناً مثمراً بجماله
وجنحتَ للغصنِ الذي لم يثمرِ
ولقد علمت بأنّني بدر السما
دهيت لشقوتي بالمشتري
ومنها ما قاله ابن زيدون فيها،معرِّضا بالوزير ابن عبدوس منافسه على ولادة،يقول:
أكْرِمْ بِوَلاّدَةٍ ذُخْراً لِمُدّخِرٍ
لوْ فَرَّقتْ بَينَ بَيْطارٍ وعَطّارِ
قالوا: أبُو عامِرٍ أضْحَى يُلِمُّ بها،
قلتُ: الفراشةُ قد تدنو من النّارِ
عَيّرْتُمُونا بأنْ قَد صارَ يَخْلُفُنا
فِيمَنْ نُحِبّ وما في ذاكَ مِنْ عارِ
أكلٌ شهيٌّ أصبْنَا منْ أطايبِهِ
بَعْضاً وبَعْضاً صَفَحْنَا عَنهُ للفَارِ
ثم رسالته الشهيرة في هجاء الوزير ابن عبدوس التي كتبها على لسان ولادة،مما أغضب ولادة وأغضب الملك أبا حزم بن جهور،فابن عبدوس من رجال دولته وأية إساءة له إساءة لهيبة الدولة.يقول فيها: “أما بعد،أيها المصاب بعقله،المورط بجهله،البين سقطه،الفاحش غلطه،العاثر في ذيل اغتراره،الأعمى عن شمس نهاره،الساقط سقوط الذباب على الشراب،المتهافت تهافت الفراش في الشهاب.”
وهناك أسباب أخرى لجفاء ولادة لابن زيدون،منها أنها أوقعت ابن زيدون في شراكها ثم هجرته لتعذبه لأن ابن زيدون كان له دور كبير في سقوط خلافة الأمويين وهي من بيت أموي،أي انتقاما منه.وهناك دراسات ذهبت إلى أن ولادة كانت سادية تتلذذ بتعذيب عشاقها،ولكن هذه الدراسات ذات المنهج النفسي على القدماء غير علمية وغير مقبولة.
ويبدو أن ابن عبدوس انتقم لنفسه مزيحا غريمه ابن عبدون،وسيزج بابن زيدون في السجن بأمر من أبي الحزم بن جهور،بتهمة مواطأة المعتضد بن عباد صاحب إشبيلية والميل إليه.وبعث ابن زيدون برسائل عدة إلى أبي الحزم،الرجل الذي عرف بصلاحه وحنكته،إلا أنه لم يستجب له.بعد ذلك هرب ابن زيدون من السجن،ربما بمساعدة صديقه ولي عهد قرطبة.
أرسل ابن زيدون قصيدته النونية الرائعة الشهيرة إلى ولادة مستعطفا،لكن بدون جدوى،فيما ستعيش ولادة ثمانين سنة تحت رعاية ابن عبدوس ولم تتزوج قط.فيما ستؤول قرطبة إلى المعتمد بن عباد ومعه وزيراه ابن عمار وابن زيدون.يقول ابن زيدون في مطلع نونيته المذكورة:
أضْحَى التّنائي بَديلاً عنْ تَدانِينَا
وَنَابَ عَنْ طيبِ لُقْيانَا تجافينَا
مَنْ مبلغُ الملبسِينا، بانتزاحِهمُ
حُزْناً، معَ الدهرِ لا يبلى ويُبْلينَا
أَنَّ الزَمانَ الَّذي مازالَ يُضحِكُنا
أُنساً بِقُربِهِمُ قَد عادَ يُبكينا
الشاعر ابن عمار/المعتمد بن عباد:
هرب ابن زيدون من سجنه إلى إمارة إشبيلية،مستجيرا من الرمضاء بالنار،إلى المعتضد بن عباد ثعلب الجزيرة صاحب إشبيلية،الذي قدمه وجعله وزيره.لم يكن ابن زيدون مسرورا بقربه من المعتضد،لكن لا مناص،وطيلة قربه منه كان كمن يمشي على خيط رفيع جدا.وعندما مات المعتضد سئل ابن زيدون كيف سلم من شر المعتضد،فقال:كنت كمن يمسك بأذني الأسد،لا يتقي سطوته تركه أو أمسكه.ويروى أنه عندما مات قال فيه:
لقد سرَّنا أن الجحيم موكلٌ
بطاغية قد حم منه حمام
تجانف صوب المزن عن ذلك الصدى
ومر عليه الغيث وهو جَهَامُ
في هذه الأثناء التي يجلس فيها ابن زيدون في مجلس المعتضد يقلب الرأي ويمشي فيها على أطراف أصابعه،ولي العهد محمد بن عباد،بعد مصرع أخيه الكبير إسماعيل على يد أبيه،يتجول في مدن الإمارة.فيما ابن عمار،شاعر مغمور،يطوف بلاد الأندلس يمدح البسطاء والعظماء ويستجدي عطفهم،معانيا البؤس والحرمان،إلى أن وصل إلى إشبيلية.في هذا الوقت كان المعتضد بحاجة إلى من يشيد ببطولاته ومآثره،فمدحه بقصيدة استحسنها ومن هنا نشأت علاقة بين ابن عمار والأمير محمد الشاب.ليست علاقة عادية،بل صداقة تعدت كل الحدود،أصبح ابن عمار لدى المعتمد ظلا لا يفارقه،وطرقا معا كل أبواب الأنس والعبث،وأصبحا مضرب المثل في اللهو.
وروى ابن بسام في الذخيرة ،وكذلك عبد الواحد المراكشي في المعجب،قصة عجيبة ونبوءة عن ابن عمار مع المعتمد ستتحقق في النهاية ولو أنها حينئذ أقرب إلى الخيال.بعد مجلس أنس وسمر،لم يجد المعتمد أبا عمار في مجلسه،سأل عنه الحراس لكن لم يره أحد ولا خرج من القصر،وأخذ يبحث عنه في القصر كالمجنون متوشحا سيفه والشمع في يده،”فلما انتهى إلى بعض الدهاليز إذا بحصير مطوي، وابن عمار فيه أغمض من سرٍ خفي،عريان كالأفعوان،فأمر بحمله، وهو قد تعجب من فعله،فلما استقر بالمعتمد المجلس،جعل يبسط جانب ابن عمار ويؤنس،وابن عمار يبكي فيضحك،ويشكو فيشكك،فلما سكن قليلاً،وأفرخ روعه، ورقأ دمعه،سأله عن شأنه فأخبر أنه كلما كانت تأخذ منه الشمول سمع كأن قائلاً يقول:يا مسكين،هذا يقتلك ولو بعد حين.” (الذخيرة،ج2،275). “فضحك المعتمد وقال:يا أبا بكر أضغاث أحلام،هذه آثار الخمار…وكيف أقتلك؟أرأيت أحدا يقتل نفسه؟وهل أنت عندي إلا كنفسي.( المعجب،ص177).
أكثر المعتمد من صحبة ابن عمار،فنهاه المعتضد على خضوعه لابن عمار لكنه لم ينته،فنفى ابن عمار إلى أقاصي الأندلس،وما زال يرسل القصائد والتوسلات حتى أتى الفرج بموت المعتضد.بعدها طلب ابن عمار أن يكون واليا على شِلْب،فوافق المعتمد رغم صعوبة فراق ابن عمار،ودخل والي شلب الجديد إياها في موكب باذخ لم يدخله المعتمد نفسه.وكانت له إسهامات سياسية عديدة في دولة بني عباد،منها ضم إمارة قرطبة.
ويروي عبد الواحد المراكشي قصة طريفة لابن عمار،”ورد (ابن عمار) في بعض سفراته شلبَ،لا يملك إلا دابة لا يجد علفها،فكتب بشعر إلى جل من وجوه أهل السوق،فكان قدره عند ذلك الرجل أن ملأ له المخلاة شعيرا ووجه بها إليه،فرآها ابن عمار من أجل الصلات وأسنى الجوائز.ثم اتفق علت حال ابن عمار…وانتهى أمره أن ولاه المعتمد مدينة شلبَ وأعمالها…فكان أول شيء سأل عنه،الرجل صاحبه صاحب الشعير…فأرسل له بمخلاته بعينها بعد أم ملأها دراهمَ،وقال لرسوله:قل له:لو ملأتها برا لملأناها تبرا.” أي لو ملأتها قمحا لملأناها دنانيرَ ذهب.
هكذا كان ابن عمار مكينا في إشبيلية ومعجبا بنفسه حتى أنه لعب الشطرنج عليها.كان الملك ألفونس السادس على مشارف إشبيلية منذرا بحرب عليها في حرب الاسترداد.لكن أبا عمار،الذي سيسميه الملك ألفونس برجل الجزيرة،سيكون له رأي غير عادي في مواجهة هذه الحرب،أن يلعب مع ألفونس الشطرنج على إشبيلية:إذا ربح ألفونس سيقدم ابن عمار الجزيرة له،وإذا خسر سيعود أدراجه إلى بلاده.”وخسر ألفونس في لعبه مع ابن عمار.وأنقذت دولة المعتمد دون حرب،وبقيت إشبيلية للمسلمين،وعاد ابن عمار من معسكر الأعداء فخورا وخلفه خدمه وأتباعه يحملوه عنه رقعة الشطرنج.” (شمس العرب)
لكن استقلاله بولاية تابعة لإشبيلية،وإعلان نفسه ملكا عليها،وخيانته للمعتمد،ستفقده كل شيء،وستجعل المعتمد يقتله وهو كاره،بعد أن ظفر به وأودعه سجن إشبيلية.وأهم سبب هو هجاء زوجته اعتماد الرميكية،قائلا:
أَرَاكَ تُـوَرِّي بحُبِّ النِّسَـاءِ
وقِدْمًا عَهِدْتُكَ تهْوَى الرِّجَالا
تخَيَّرْتَـهَا مِنْ بَنَاتِ الهِجَـانِ
رُمَيْكِيَّةً ما تُسَـاوِي عُـقَالا
فَجَاءَتْ بِكُلِّ قَصِيرِ العِـذَارِ
لَئِيمِ النِّجَارَيْنِ عَمًّـا وخَالا
سَأَكْشِفُ عِرْضَكَ شَيْئًا فَشَيْئًا
وأَهْتِكُ سِتْرَكَ حَالا فَحَالا
وهجاؤه له ولأبيه المعتضد:
مِمَّا يُزَهِّدُنِي فِي أَرْض أَنْدَلُـسٍ
أَسْمَاءُ مُعْتَمِـدٍ فيهـا وَمُعْتَضِـدِ
أَلْقَابُ مَمْلَكَةٍ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا
كَالْهِرِّ يَحْكِي انْتِفَاخًا صُورَةَ الأَسَدِ
العجيب أن المعتمد سيأمر بغسله وتكفينه، وسيصلي عليه، ويدفنه في القصر المبارك.
دخل ابن عمار حياة المعتمد بأبيات شعر وبخفة ظله، وقد كان واحدا من العامة مُعْدماً لا يملك قوت بغلته، وشاعرا مغمورا يلعق زليج بلاطات أمراء الطوائف وملوكها. ودخول هكذا رجلا من العامة حياة المعتمد، ولي عهد أكبر إمارة أندلسية، شيءٌ بالغ الغرابة والطرافة. لكن شخصية أخرى ستدخلها بنصف بيت فقط، وهي جارية من العامة، وشاعرة، لتغدو بعد وقت أميرة ثم ملكة على ملك إشبيلية. هذه الشخصية هي اعتماد الرميكية السابقة على المعتمد، فهو سينحث لقب الإمارة (المعتمد على الله) من حروف اسم زوجته (اعتماد) غير مبال لما ستقوله العامة.
دأب المعتمد بن عباد رفقة صديقه المثير للجدل الشاعر ابن عمار على الخروج إلى ضواحي إشبيلية للتنزه وترقب الجميلات،فكان يتلذذ بالاختلاس وأفعال العامة بينما ابن عمار يرقب له ويعينه على قضاء نزواته،متخذا قول ابن زيدون “لذَّةُ العيشِ اختلاس” شعارا له في هذه المرحلة من حياته وهو ولي للعهد.
كان محمد بن عباد آنذاك (المعتمد) عند نهر إشبيلية،وهو نهر الوادي الكبير،رفقة صديقه الذي لا يفارقه،الشاعر ابن عمار،وكانت الريح قد جعلت النهر مثل الزَرَد،فقال ابن عباد شطر بيت:صنعَ الريحُ من الماءِ زردْ.فطلب من ابن عمار أن يكمل البيت،لكنه عجز عن ذلك.وكانت فتاة بارعة الجمال ممن يغسلن الثياب بجانب النهر،فردت مبتسمة،بينما ابن عمار والمعتمد يحسران رأسيهما عجزا: “أيُّ درع لقتال لو جمدْ؟ “
أمر كهذا سلب لبَّ المعتمد،علاوة على أنه يحب الشعر وناظميه،فالتي أكملت البيت الذي عجز ابن عمار عن إكماله،حسناءُ خفيفة الروح انشرح لها قلبه وأحبها من النظرة الأولى.فإذا ضم ابن عمار وقد كان في تلك الحالة التي يرثى لها فكيف لا يفتتن بهذه الحسناء الشاعرة؟ فسألها ما إذا كان لها زوج،فأجابت بالنفي.
“أرسل المعتمد هذه الأبيات،التي تكون حروفها الأولى اسم زوجته المستقبلية اعتماد إليها.وذيلها بهذه الكلمات (سأراك قريبا إن شاء الله وشاء ابن عمار).” تقول الأبيات:
ا غائبةَ الشَّخْصِ عن ناظري
وحاضرةً في صميم الفؤادِ
ع ليك السلام بقدر الشجون
ودمعِ الشؤون وقدر السهادِ
ت ملكتِ منيَ صعب المرام
وصادفتِ ودِّيَ سهل القيادِ
ا قيمي على العهد ما بيننا
ولا تستحيلي لطول البعادِ
د سست اسمك الحلو في طي شعري
وألفت فيه حروف “اعتمادِ”
وما برح محمد بن عباد حتى بعث إلى الرميك بن الحجاج مولى اعتماد بمهرها وبالهدايا الثمينة،وحُملت إليه زوجةً فعقد القاضي لهما.كان بوسعه اتخاذها جارية كما أشار صديقه ابن عمار،لكنه أبى.ليغدو في قصر أكبر إمارات الطوائف خمسة شعراء بارزين منهم اثنان من العامة.
وتمر الأيام،ويغدو المعتمد ملكا واعتماد ملكةً على قلبه أكثر سلطة بعد كل يوم يمر.وهنا لا يمكن ألا نتحدث عن يوم الطين،أحد أيام الرومانسية المشهودة في التاريخ،فيما يراه آخرون عملا أحمقَ لأنه يروى أن المعتمد أنفق على هذا اللهو 20 ألف دينار.
“تملك اعتمادا حزن شديد حين رأت نساء من العامة يغصن بأقدامهن في الوحل مرحاتٍ يعددنه لصنع قوالبَ من الطوب،وقالت لزوجها متحسرة: – أنا تعسة،أعيش مسجونة في القصر ولا أستطيع أن أغوص بأقدامي العارية في الوحل كهؤلاء النسوة.
وضحك زوجها عاليا وأمر بإحضار كمية كبيرة من القرفة والمسك والطيب ورش عليها ماء الورد ثم عاد إلى زوجته ليخبرها أن العجيبة تنتظرها لتغوص فيها بأقدامها عابثة.” (شمس العرب،ص 118)
وفي أحد أيام شهر فبراير دخل المعتمد الحجرة فإذا باعتماد تطل على النافذة والدموع نهران على خديها.ولما سألها عن السبب أخبرته:” إنك طاغية جبار غشوم، انظر إلى جمال ندف الثلوج البارقة اللينة العالقة بغصون الأشجار، وأنت أيُّها الناكر للجميل لا يخطر ببالك أن تُوفِّر لي مثل هذا المنظر الجميل كل شتاءٍ ولا تصحبُني إلى بلدٍ يتساقط فيه الثلج كل شتاء”. ضحك المعتمد كالعادة،وقال: “لا تحزني ولا تستسلمي لليأس يا سلوة النفس ومنية القلب، فإنِّي أعِدُكِ وعداً صادقاً أنك سترين هذا المنظر الذي أدخل على قلبك السرور كل شتاء” ثم أمر بزرع أشجار اللوز على جبل قرطبة، لتظهر عند طلوع أزهارها كأنها مُغطَّاة بالثلوج.(المعتمد بن عباد،علي أدهم).
وذات يوم غضبت اعتماد من المعتمد،فقالت له: والله ما رأيت منك خيرا قط ! فقال لها: ولا يوم الطين …؟ ثم سارت مثلاً هذه الجملة.وقال الشاعر:
ولا يومَ طينٍ يا رميكية الهوى
وَقَدْ كَانَ طِيني طِينَةَ الفَخْرِ والجودِ
وَمَنْ يأمنِ الأنثى فيا شرَّ يومه
كَمَا فعلتْ أنثى بطينِ ابن عبُّودِ
كانت اعتماد الآمرة الناهية في القصر،واستطاعت التخلص من ابن عمار شريكها في المعتمد بمساعدة طمعه،وساهمت في أن يكون المعتمد مستهترا ماجنا يعطل صلاة الجماعة،مما أوغل عليه صدر العامة واستنصر فقهاء إشبيلية بيوسف ابن تاشفين.لكنها ربت أبناءها تربية حسنة وأدبتهم جيدا كما يليق بالأمراء.
لم تظل الأمور صافية للمعتمد واعتماد بعد دخول المرابطين للأندلس للمرة الثانية وعبورهم للبحر،ونكبتهم على يد يوسف بن تاشفين،الذي سيفرض عليهم الإقامة الجبرية في بيت من طين في أغمات. وتموت اعتماد والمعتمد بعدها بقليل ويدفنان معا في ضريح في أغمات قرب مراكش، لا زال حتى اليوم مزارا للناس.
ويمكن تلخيص اعتماد في قولة القائل، وهي قولة جامعة مانعة: “ارتفعت من جارية إلى أميرةـ، ثم ملكة …وشاطرت زوجها ملكه وسلطانه واعتقاله ونفيه … وقبره!” (مج الهلال،ع12،1958).
وإذا سألنا عن الخيط الناظم بين هذه الثلاثية الفريدة،سنجده هو الشعر. الشعر خرب علاقة ابن زيدون بولادة، وأبيات من الشعر ضمنت لابن عمار صحبة المعتمد والشعر أيضا في هجاء المعتمد وزوجته ساهم في موته، ونصف بيت من الشعر ضمن زواج اعتماد من المعتمد. زد عليه أن هؤلاء الخمسة شعراء يتقنون الشعر وينظمونه وينقدونه.