إن مفهوم الراهن يقع أو يتوسط ما هو منتسب للماضي وما هو منفتح على المستقبل، لذلك أحببت أن أخصص هذه السطور المحدودة لمسائلة هذه الأزمنة التي يسافر عبرها ومن خلالها السؤال الفلسفي. لذا فهذه الورقة قد تكتسي صبغة ابستمولوجية ونقدية، تحاول استقراء مفهوم الراهن من داخل نسق المعرفة الفلسفية في حد ذاته، كما قد تلتبس طابعا تجريديا لا هو بمحايث أو ترسندنتالي. وهذا لا يعني الإغراق في التأمل النظري وإتلافا للحلول العملية واليومية المباشرة الخاصة بجدليات الراهن والحاضر، كما تدعو إليه تيمة الموضوع، وإنما هي محاولة لتفتيق معالم رؤيا نقدية للراهن، والذي استبدله في هذه الورقة بمفهوم الحاضر، طالما أن الراهن لا يتمتع بالشحنة الفلسفية اللازمة لمفهمته ضمن نسق المعرفة الفلسفية.
يعدّ السؤال الفلسفي سؤالا ذو خصيصة مرتحلة عبر ثنايا الأزمنة كما نعلم، وهو لا يستكين إلى التحديدات الجغرافية، ولا إلى لغة الحدود، أو حتى قيود المسافات والمساحات المخطوطة سلفا لتساؤلات العقل. وبهذا الشكل فيمكن للفيلسوف أن يمارس “فن الترحال” من مكانه – مقتبسا المصطلح من لسان جيل دولوز الملقوب بفيلسوف الاختلاف – دون الحاجة إلى أن تطأ قدماه العوالم المائزة التي يهاجر إليها تفكيره ويدشنها قلمه الخصوب، راغبا؛ عاشقا في الاستكشاف؛ في المعرفة؛ في الحكمة أو محبتها على الأقل. كما لو أن هناك مدّ سانكروني ودياكروني يحمل السؤال الفلسفي إلى أن يكون فوق الزمن “au de la du temps” .
وبهذا يصعب القول أن الفيلسوف يستحضر الراهن بشكل مفصول عن الماضي والمستقبل، خاصة إذا تعلق الأمر بملامسة إشكالية فلسفيةproblématique philosophique ، لأن الإشكالية وكما لا يغيب عنا تختلف عن الإشكالproblème . فإذا كان هذا الأخير موصول بموضوع معين ينكب عليه تفكير الفيلسوف، نجد الإشكالية تنسحب على تاريخ الفلسفة برمته وتجرّ معها أثقاله وأمتعته النظرية. فمثلا إذا أخضعنا مفهوم الحقيقة للتفكير الفلسفي، تماشيا مع تيمة الموضوع، فهل هناك راهن للحقيقة ؟ بمعنى آخر، هل تؤسس الحقيقة شرعيتها انطلاقا من الراهن؟ أم أن »نظام الخطاب « هو من يعبّئها بمفاعيل النسق، كما أفرد مشروعه الفيلسوف ميشال فوكو.
أيّ أن المتفلسف يجد نفسه مضطرا إلى الغوص في الزمن الفلسفي، ماضيه وحاضره، وربط السابق باللاحق من أجل تأسيس أسئلته بشكل ممتد ومتمفصل بغية ردم تلك الفجوات الموجودة بين القضايا الإشكالية التي يعالج، ويرمي بعقله في معتركها. كما لو أن الأمر أشبه ما يكون بمراحل نمو الجنين في بطن أمه، فهو يتغدى عبر حبل المشيمة قبل أن يكتمل نموه بشكل تدريجي ويخرج إلى العالم، ليحقق بعدها نوعا من الاكتفاء الذاتي. وأجد نفسي في غنى عن البيان بضرب أمثلة فيما يخص هذا الشأن: كأن نتحدث عن إشكالية الدين والفلسفة أو الحرية والحتمية أو الذات والموضوع (…) الخ. فهي إشكالات لا يمكن للسؤال الفلسفي أن ينطلق فيها من نقطة الحاضر أو الراهن كما ذكرنا توا، بل هو مدعو إلى خلق وافتعال حوار جاد مع الفلاسفة رغم بعد المسافات الفاصلة بينه وبينهم.
إن أهم سؤال استشكالي غمر بشكل فياض تاريخ الفكر الفلسفي كتيار جارف لا يعرف الانقطاع، هو سؤال الوجود، وهذا الأخير لم نشهد عليه يوما أنه اعتكف في البعد الراهن للتجربة الوجودية، بحيث قد شكل الانشغال بالوجود والانخراط في مجهوله وغموضه بيت القصيد في الفلسفة اليونانية، وبالنظر إلى هذا الاكتساح الذي مارسه السؤال الفلسفي مع اليونان اتجاه قضايا العالم والإنسان، فإنه بذلك قد وضع البصمات الأولى على صفحة الخلود التاريخي المتجاوز لزحف الزمان. إن المهم مع الفلاسفة الأوائل ليس هو إجابتهم وإنما هذا النداء الأبدي المستفز لمساءلة وجودنا وإضفاء المعنى على ملابساته. (الفلسفة فكر وبيداغوجيا، 32). كما سبق أن أكد نيتشه هذا المعطى بقوله: إن الجبابرة يتخابطون عبر مسافات التاريخ المقفرة، ويستمر حوارهم الرفيع بين الأفكار دون أن يعكر صفوة الأقزام المستهترون والصاخبون الذين ما يزالون يزحفون تحتهم (ف. نيتشه، الفلسفة في العصر المأسوي الإغريقي، ص 42).
إن وضعية الكائن البشري في الوجود هي وضعية سؤال وليس جواب، وبالتالي فتلك الأجوبة التي يبحث عنها السائل، ربما قد لا تجد أسئلتها أو على الأقل منطلقاتها الاشكالية في الحاضر / الراهن، وأستشهد بنيتشه تارة أخرى في هذا السياق عندما أعرب قائلا: لا ينبغي القفز على الأشياء دون معرفة ماهية ما تم القفز عليه. ففي تعاطينا مع تيمة الراهن ينبغي التمييز بين فعل التأسيس والذي يرصي بنيانه على أنقاض ما سبق، وفعل التدشين أو السبق الفكري. أي الإتيان بجديد لم يسبق أن عانقه السؤال الفلسفي من قبل.
يبدو لنا ومنذ الوهلة الأولى أن العنوان الذي وقع عليه الاختيار لهذا الورقة، يكتنف دلالات غزيرة ويفيض بمعاني متناثرة تلتف حول مفاهيم مشبوكة به من قبيل: الزمن – التاريخ – الموروث. إن مفهوما بهذا الرحاب والعمق يستجوب منا أولا وقفة تأملية نستجدي منا مساءلته من زوايا نظر فسيفسائية إذا جاز التعبير. فإذا ما عمقنا النظر في مفهوم ” الراهن” فقد نواجه كما أسلفنا الذكر، إشكالات لاسعة لازمت بدون أدنى شك الصيرورة المتموجة لتاريخ الأفكار الفلسفية.
فإذا كان المقصود بالراهن ذلك الحاضر الصرف، فسنكون منذ البداية قد سلمنا بأن السؤال الفلسفي يحتكم إلى دقّات عقارب الساعة بتجريده من أبعاده الأنطولوجية والتاريخية. ولذلك ومن أجل تعميق أغراض السؤال، نطرح بعض الإشكالات في قالب تساؤلي كالتالي:
ما المقصود بالراهن: هل هو الحاضر، أي باعتباره خاضع الى احداثيات زمكانية أو لحظية تحنّطه في عقارب الساعة ؟ أم ذلك الراهن الذي يتقاطع مع الزمن المخلوط ببقايا الماضي المتسرب شأنا أم أبينا في تلافيف الحاضر؟ أم هو ذلك الراهن الذي يتطلع إلى استشراف المستقبل ويحمل في طيّاته بعدا استباقيا لما سيؤوب إليه القادم من الزمن؟ بما أن الفيلسوف دائما ما يسعى إلى استباق منطق عصره، ويمتدّ تفكيره القلق واللامهادن إلى مساءلة قضايا قد يعصف بها القادم من الزمن تماشيا مع مقولة فريديريك هيجل الخالدة »الفلسفة تكون لما لا يوجد « .
فمن ضمن ما تفترضه هذه العبارة من التأويلات الممكنة: مقدرة الفلسفة الخلاقة على تخطي الزمن نفسه، واختراق هذا الراهن الذي يحبّ أن يعتكف فيه إله الزمن كرونوسCronos . ثم هل هناك من راهن خالص يستطيع أن يقوم بذاته، وأن يتنصل من الزمنيةtemporalité ، دون حاجته إلى هذه إقامة هذه التمفصلات المشار إليها. ذلك أنه إذا كان الراهن يطلب الحضور ويعلنه بما هو في ضيافة الوجود في بعده العيني والمادي والملحوظ، فهل هذا يعني أن السابق والفائت أصبح في طيّ النسيان والكتمان والعدم؟
إن خطأ الفلسفة التاريخي هو سوء فهمها للزمن وتأويلها القاصر لتمظهرات الكينونة عبره. ولعل مجيء كتاب الوجود والزمن “Sein und Zeit” لصاحبه هايدغر، هو من أبرز المحاولات الجادة، بل الاستثنائية لتصحيح مسارات التفكير الفلسفي لهذه الإشكالية التي تعتبر بؤبؤ الانشغال الفلسفي بسؤال الكائن الدازيني.
لا مندوحة أن القضايا التي يحفل بها العصر الحالي في راهنيّته، تساؤل الفلسفة بإلحاح وحرقة مادامت “الفلسفة هي الخلاصة الروحية لعصرها”، ساحبا المقولة من لسان كارل ماركس، لكن هل هذه الحكمة الصادرة من أفواه فلاسفة عظام تؤشر على إقبار للماضي وتجاوزه وطيّه كطي السجل للكتاب بدون أدنى نظرة استذكارية متفقّدة للوراء. كجواب مفترض، لا نعتقد قطعا ذلك، فل نتذكر الدرس الهيراقليطي وما جاد به في هذه الموضوعة. فالإنسان عند هيراقليط نموذجان: نموذج ضائع ومغترب، وآخر أصيل ومتجذر في الوجود ومرتبط بذاته.
إن مفهوم الراهن سيكون تعسفي لو كان المراد منه استنبات إشكالات تهمّ الفلسفة من صميم الحاضر، وذلك لعدة أسباب نقتطف منها ما يلي: ثورة الفلسفة عن نفسها، أو ما يصطلح عليه في الدوائر الفلسفية الغربية وفي سناء الفكر المعاصر: بالفلسفة المضادةanti-philosophie ، وخير من اجتهد في هذا المضمار نجد الفيلسوف الفرنسي آلان باديو alin badieu، من خلال تقديمه عدة ورقات حول استيضاح معنى في أن تكون فيلسوفا مضادا.
إن الفلسفة في الوقت الراهن تعيش مرحلة حرجة من تاريخها. لا يحمل الكلام هنا في طياته نزعة تشاؤمية أو تبنّي مقولة موت الفلسفة، بل بالعكس من ذلك، ففي كل إحراج ونهاية يتولد أفق جديد. كذلك لا يفوتنا التنبيه إلى عدم براءة الصيرورة ومسألة حياد الفلسفة وتاريخها، وهذا ما يستدعي دوما إعادة قراءة وتمحيص تاريخ الفلسفة ومساءلته من زوايا نقدية لا تخلو من تفكيك لما مضى لحسن فهم ما هو راهن، في سبيل عدم تلطيخ براءة الصيرورة بالأوهام الذاتية.
إن في تعاطينا الفلسفي مع الحاضر، دعوة الى العودة الى الماضي وهذا لا يعني بالبتة تعبّدا دوغمائيا في محرابه، كما لو أنه ذلك الخزان الذي يغذي الفلسفة ويمطرها بالأسئلة الإشكالية لكي تستأنف حضورها وتواجدها في الحاضر. أو باعتباره ذلك المصل الذي يضمن مناعتها واستمراريتها ضدّ كل أشكال الزيف والانحراف عن المسارات التي من الحري بها أن تسلكها وترتديها، بل هي عودة مشكاكة وريبية تكشف عن كيفيات حضور الماضي في الحاضر بغية التحرر من أثقاله.
فمادام الراهن ينحت وجوده في مدارات الزمن، فلا ينبغي ان تفوت عليه الدلالات التركيبية لهذا الأخير، ولا نقصد هنا البنيات النحوية أو اللسنية للخطاب، بل ما هو مرتبط بالزمن كامتداد يستوعب القول الفلسفي في رجوعه إلى الوراء أو تقدمه الى الأمام أو سكنه في الحاضر. فلكي توطن الفلسفة علمها في أرض الحاضر وتمتلك الأحقية الشرعية والوجاهة التاريخية للتحدث عنه والتقول حول إنسانه ينبغي عليها أن تحرث تربة الماضي بشكل يضمّن بذور يمكن تخصيبها في أفق الحاضر، أي ذلك الراهن.
ونعرّج ولو بإيجاز شديد في هذا المنوال على المشروع الهايدغري المنكب على تقصي مسألة انبجاس الكينونة في عالم متوتر تقدم فيه الوسائل على الغايات وعلى رأسها التقنية. ففي عودة هذا الأخير إلى الأسئلة المؤسسة للسؤال الفلسفي الوجودي، لا يتعلق الأمر في متونه بعودة من أجل الاغتراب، وإنما هي عودة للماضي من أجل استشراف الحاضر، إنها عودة من أجل فهم الإشكال الذي ظلت تتخبط فيه الأنطولوجيا الكلاسيكية، أي مشكل نسيان الكينونة، من أجل تفكيكها وبالتالي طرح سؤال الكون، وبعبارة أخرى إنها عودة يواجه فيها التفلسف الحاضر ذاته. والحال أن التفكيك عند هايدغر لا يعني تقويض الماضي، بل نسف أشكال حضور الماضي في الحاضر. وهذا المراد بالأساس ما حفز فيلسوف الغابة على إعادة قراءة تاريخ الفلسفة. فالفلسفة ككل هي عمل انساني مطبوعة تاريخيا، لكنها تجعل هذه التجربة مفردة ولازمنية مصاغة بواسطة مفاهيم، يتعلق الأمر هنا بنسبية لا تقصي إمكانية أن يعود الخطاب الفلسفي العميق والقوي في زمن غير زمن انبثاقه.
إن مهمة الفيلسوف هي توحيد زوايا الرؤيا، مادام هو كمركز اشعاع تتلاقى عنده العقول ويتحقق عبره ضرب من الوصال الفكري يتيح للآخرين أن يرون من خلاله أكثر مما يراه كل واحد منهم بمفرده، ولكن هو أيضا مطالب بتوحيد تخالجات الزمن الفلسفي في تراوحاته اللامحددة بالفضاء أو المكان. إن في هذا القول تكسير للقاعدة الفيزيائية التي تجمع بين الخاصيتين لكي يقوم علم بحقيقة الحدث، في حين ينزلق الراهن المنظور إليه من زاوية فلسفية عن هذه القاعدة ويشدّ عنها. ولعل فعل الترجمة مثلا للنصوص الفلسفية كأقرب نموذج لاستيضاح ما جاء ذكره، إذ القول المتفلسف المترجم يبطن خاصية تنشد الكونية وتقلص المسافات والحدود الوهمية بين تاريخ البشر، وتطرح امكانات لخروج الإنسان من عزلته الانطولوجية وترسم له عوالم أخرى جديدة ومغرية تستهويه لارتيادها طالما هي طرق أو مساحات مجهولة تمنحه امكانات وافرة للسفر أو حتى الفرارعبر الزمن لم تكن متاحة له من قبل، عوض أن يظل سجين ظلمة الكهف بكل ما تحمله الكلمة من استعارات.
يطيب لنا ختم هذه الورقة بسؤال جد محرج تطرحه الفلسفة على نفسها: هل أنا مخلوقة في زمن الماضي، بما أني أحمل أثقال تاريخي – وهو ما نسميه بتاريخ الفلسفة، المحكوم بأنساق – مذاهب – تيارات – نزعات (…) الخ، أم أن مهمتها تقتصر على التنظير لما هو موجود في الراهن والقبض على منطق عصرها الذي تنوجد فيه، أو أن هدفها الأسمى هو استشراف المستقبل واستباقه لكي تمنح الانسانية مصل الشفاء مما ينتظرها من مآزم وشرور وتيه وفقدان دائم للأصل؟ فالفلسفة لا زالت تريد أن تتكلم مع هذا الكائن الأصم، لكن من هو المستعد للإنصات إلى قولها المجرّح لكن الشافي في نفس الوقت، فالفلسفة هي في آخر المطاف وصفة للعيش معا أو علاج من أسقام الوجود، تماشيا مع مضامين المؤلف الذي صدر مؤخرا، تحت عنوان: العيش بالتفلسف: تجربة فلسفية، تمارين روحية وعلاجيات النفس، لصاحبه Jean Greisch. ومادامت الفلسفة تضطلع الى لعب هذا الدور العلاجي، فلا يمكنها أن تتنفس من رئة الحاضر وحده، وإلا أفلح الزمن في خنقها وتقليص وجودها.
______