المثقفون وأبوية المؤسسة

*محمد العباس

ما أن وُزعت بطاقات الدعوة لحضور مؤتمر الأدباء الخامس في الرياض، في الفترة ما بين 27-29 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، حتى تعالت الأصوات محتجة ورافضة لمبدأ التهميش والإقصاء لبعض الأسماء التي لم تحظ بفرصة المشاركة في المؤتمر. وسط صيحات تتهم القائمين على توزيع الدعوات بالمحاباة والإقصاء والتآمر. وهذه ليست المرة الأولى، التي يعبر فيها بعض المثقفين عن سخطهم، ولن تكون الأخيرة في مثل هذه المناسبات.
إذ من المتوقع أن تهب عاصفة المحتجين مرة أخرى أثناء وبعد معرض الكتاب في جدة، حيث يستشعر فصيل من المثقفين وجوده ضمن قائمة من قوائم المسقطين من حساب المؤسسة الثقافية ليس في مؤتمر الأدباء وحسب، بل في مختلف المناشط التي تشرف عليها وزارة الثقافة والإعلام. وهو إحساس طبيعي لدى المثقف الذي ما زال يعتقد أن من حقه على المؤسسة الثقافية أن تستضيفه بين آونة وأخرى، في رحلة طيران على درجة رجال الأعمال، وفي فندق فاخر من فنادق الخمسة نجوم، مع إعاشة ترفيهية كاملة.
هذا الإحساس ونقيضه لم يتأتيا من فراغ، إذ يشعر بعض المثقفين بالفعل أن المؤسسة الثقافية هي المسؤولة عن رعاية وتدليل المشتغلين بالثقافة، أي أن تُبدي من الأبوية الثقافية ما يؤكد التزامها بحمايتهم والتعامل معهم ككائنات مختارة. وهو الأمر الذي يؤدي إلى شعور مضاد يتمثل في رضا المؤسسة عن أسماء بعينها، واطمئنانها لأدائهم ومواقفهم الثقافية، وعدم اهتمامها بأسماء تجد في نفسها الجدارة والأحقية. وهو ما يعني وجود قائمة بأسماء مغضوب عليها، لا تشملهم الرعاية المؤسساتية، ولا يدرجون في قائمة العطايا، إلا أن هذه القائمة ليست ثابتة ولا يتم العمل بها كمسطرة في كل المناسبات. فهناك قائمة لمعرض الكتاب، وقائمة للأسابيع الثقافية، وقائمة لنشاطات الملحقيات الثقافية، وقائمة لمناسبات اليونيسكو، وقائمة لفعاليات السفارات وهكذا. وكل قائمة من هذه القوائم لها نجومها المرضي عنهم، المرحب بهم كضيوف دائمين، مقابل أسماء المنسيين المطرودين من نعيم المناسبات الثقافية.
ويبدو أن المشهد الثقافي المزدحم بأشباه المثقفين، يُراد له أن يضبط نفسه بنفسه على طريقة السوق الاقتصادي، فهناك مثقف للاستهلاك الداخلي مقابل مثقف للدعاية الخارجية، بمعنى أن هناك مثقفا تقع عليه مهمة إنتاج الخطابات وتوليد القضايا الثقافية الجدلية الساخنة، مقابل مثقف في منزلة سائح يتجول في العالم تحت عنوان الثقافة. ومن يتأمل الأسماء والأداءات خلال العقود الماضية سيصل إلى هذه النتيجة، حيث سيلاحظ بمنتهى الوضوح أن المناسبات المُعلن عنها كانت حكراً على أسماء محددة، وأن بعض المثقفين الجادين والفاعلين لم ينالوا شرف تمثيل الوطن خارجياً. بمعنى أن المثقف السائح المتبطّل كان وما زال هو العنوان الثقافي للوطن، بسبب وجود أشخاص لا يتعاملون مع الثقافة إلا كغنيمة أو هبة، ولا يعرفون أهمية المثقف كمنتج وطني جدير بالتصدير، والحضور في الخارج كسفير لعقل ووجدان هذه الأرض.
هذا هو بالتحديد ما هبط بالمناسبات الثقافية الداخلية إلى مرتبة متدنية، فالملتقيات الثقافية الموسمية صارت أقرب إلى حفلات التسمين، حيث يجتمع فصيل من المثقفين المتبطلين لأيام وهم يثرثرون في الهوامش على إيقاع موائد الطعام الباذخة وأنهار الشاي والقهوة، دون أن يقدموا أي طرح جدي يتناسب مع دورهم أو المهمة الموكلة إليهم. والأكثر غرابة هو مطالبتهم الدائمة بالبقاء في ظل الأبوية الثقافية، والتجرؤ على المطالبة بتأمين صحي وسكن لائق، إلى جانب متوالية من الامتيازات. وهي لقاءات أظنها بحاجة إلى مراجعة جذرية، إذ لا يُعقل أن تستضيف الوزارة المئات من المثقفين في أجواء من الرفاهية الفائضة تحت عنوان المثاقفة. ولا يُعقل أن تكون قوائم الاستضافة بمقتضى الصداقة والمحاباة، وبمعزل عن كفاءة المثقفين وإسهاماتهم، لأن هذا الأداء الاعتيادي البائس هو الذي يجعل فصيلا من المثقفين يعلن غضبه واحتجاجه كلما مرت مناسبة دون أن يكون جزءاً من حفلتها.
قوائم المغضوب عليهم لا تعدها جهة واحدة، وليس لها مرجعية أحادية ثابتة، فكل قائمة تعود إلى المشرف عليها أو الفئة المسؤولة عنها، أي أن مزاج الشخص الذي يقف على المناسبة الثقافية هو الذي يحدد من يحضر ومن يُقصى، لأسباب شخصية لا علاقة لها لا بالجدارة ولا بالإسهام الثقافي، وهذا هو ما يفسر بؤس الأداء في الأسابيع الثقافية الخارجية – مثلاً – حيث تحمل طائرة خاصة مجموعة من المثقفين المتعارف عليهم كضيوف دائمين، دون أي إعداد ثقافي، فهم في رحلة سياحية لا علاقة لها بالثقافة. كما يمكن لرئيس أي ناد ثقافي إعداد قائمته الخاصة من المغضوب عليهم فيرفض دعوة هذا المثقف أو ذاك بدعاوى واهية لا علاقة لها بالثقافي، حتى المؤسسات الوزارية الأخرى صارت تستميل مجموعة من المثقفين المستأنسين، ضمن برامج دعائية بحجة التعامل الثقافي مع قادة الرأي. والصحيح هو محاولة لتلميع صورة الوزارة وإخراس النقد الموجه إليها إعلامياً.
كل هذه المفارقات وغيرها تؤكد على وجود قوائم من المثقفين المغضوب عليهم. وهي قوائم حقيقية وليست متوهمة. وعليه، يمكن تفهّم حسّ المظلومية الذي يبديه بعض المثقفين إثر الإعلان عن أي مناسبة. أولئك الذين تتلقفهم الصفحات الثقافية ليعبروا عن غصبهم من سوء الحال الثقافي. كما يمكن تفهّم زهد بعض المثقفين في تلك المناسبات التي تقدم كعطايا شخصية، حيث يصر القائم على المناسبة على الاتصال الشخصي بالضيف ليشعره بشخصانية الدعوة، وليتكرم عليه بالهبة، ولكن ما لا يمكن فهمه هو استمرار هذا الارتباك في توجيه الدعوات. وقدرة القائمين عليها على مواجهة الانتقادات المستمرة. والاستمراء في تبريرها. وهو ما يعني أن كل تلك الممارسات الفردية اللامسؤولة ستظل حكراً على أسماء أليفة لتستصفي بدورها الأسماء التي تستجيب لمزاجها الخاص وليس لنقلة ثقافية مستوجبة، إذ يمكن لتلك الارتباكات المتمثلة في عرض أردأ صور المثقف أن تعكس صورة مغلوطة لثقافة وإنسان هذه الأرض.
_____

*القدس العربي

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *