صادق جلال العظم: السجال الأخير

*وليد علاء الدين

ننشر هاتين المقالتين عطفاً على مقالات أخرى سبقتها في حمأة وضع عربي عاصف، على منعطف من التحولات الدامية، و”العرب” إذ تنشر هذه المقالات النقدية المحاورة لفكر الرجل بالتعاون مع مجلة “الجديد”، إنما توجه له التحية لتجربته الفكرية المديدة ولمواقفه الشجاعة في مواجهة الفكر الظلامي، وقد رحل المفكر عن عالمنا قبل أيام تاركا وراءه إرثا فكريا سيرفد معركة التنوير في العالم العربي.

عندما أراد المفكر العربي صادق جلال العظم أن يحدد هدفه من إصدار كتابه “نقد الفكر الديني” سنة 1969، ضرب مثالًا بالسيد “س” الذي يصفه كالتالي “هو إنسان معاصر ورث الإسلام بمعتقداته وقصصه وأساطيره ورواياته كجزء جوهري من تكوينه النفسي والفكري”، ولكنه “يتمتع بقسط لا بأس به من الإحساس المرهف”، يدفعه إلى “أن يمحّص الأسس التي تقوم عليها معتقداته الموروثة كشرط أساسي لقبولها، كما يحاول أيضًا أن يتبيّن مدى انسجام هذه المعتقدات مع قناعات أخرى توصل إليها عن طريق مصادر غير المصادر التقليدية”.

ويأمل العظم من خلاله خطابه للسيد “س” أن ينجح في مخاطبة “مجتمع عربي معاصر ورث الدين كجزء لا يتجزأ من كيانه، لكنه يحاول أن يرفض ظاهرة التسليم الساذج البسيط وأن يمحّص الأسس التي يقوم عليها هذا الإرث”.

كانت هزيمة العرب أمام إسرائيل سنة 1967 هي الدافع الذي حدا بالعظم إلى جمع بعض مقالاته المنشورة في الصحافة الثقافية اللبنانية بهذا الصدد في كتاب واحد، ليكون أداة لنقد الأيديولوجيا الغيبية التي “تحوّلت بعد الهزيمة إلى سلاح نظري أساسي وصريح بيد القوى الرجعية في مواجهة الدعوات العقلانية، وفي يد الأنظمة لتهدئة الشعوب وتغطية العجز والفشل الذي فضحته الهزيمة أمام إسرائيل، من خلال مماشاة التفسيرات الدينية والروحانية للانتصار الإسرائيلي والخسارة العربية على وعد بنصر جديد من عنده تعالى”.

الكتاب إذن محاولة من العظم “للتصدي بالنقد العلمي والمناقشة العلمانية والمراجعة العصرية لبعض نواحي الفكر الديني السائد حاليًا (آنذاك)، وهو الفكر الذي يسيطر على الحياة العقلية والشعورية للإنسان العربي”.

أراد لكتابه أن يكون أداة نقد علمي في مواجهة النقد الذي شاع في أعقاب الهزيمة وهو نقد “اعتمد على التعميمات الواسعة والكليشيهات المستهلكة حول التنديد بالعقلية الغيبية الاتكالية والإيمان بالغيبيات والأساطير والحلول العجائبية من دون مراجعة عقلانية علمية مباشرة لنماذج حيّة وملموسة من إنتاج الذهنية الدينية الغبيبة”.

وهو ما سعى للقيام به، عبر مقالات الكتاب التي حدد فيها بوضوح ومن غير مراوغة الأفكار التي يريد انتقادها، مبتعدًا قدر استطاعته عن العمومية والتجريد محددًا أسماء الكُتّاب والأفكار التي وردت في منتجاتهم الفكرية، سواء في الدين الإسلامي أو المسيحي.

الدين كموجه للبنيان الفكري والنفسي

منذ البداية يحدد العظم مقصوده بالدين، فيقول “لا أقصد الدين باعتباره ظاهرة روحية نقية وخالصة على نحو ما نجدها في حياة قلة ضئيلة من الناس كالقديسين والمتصوفين وبعض الفلاسفة”، إنما باعتباره “قوة هائلة تدخل في صميم حياتنا وتؤثر في جوهر بنياننا الفكري والنفسي وتحدد طرق تفكيرنا وردود فعلنا نحو العالم الذي نعيش فيه، وتشكل جزءًا لا يتجزأ من سلوكنا وعاداتنا التي نشأنا عليها، لذلك سننظر إلى الدين باعتباره مجموعة من المعتقدات والتشريعات والشعائر والطقوس والمؤسسات التي تحيط بحياة الإنسان في أوضاع معينة إحاطة شبه تامة، ويحتوي الدين بالإضافة إلى ذلك على عدد كبير من القصص والأساطير والروايات والآراء عن نشوء الكون وبنيانه وعن الإنسان وأصله ومصيره، وعن التاريخ وأحداثه وعن الأشخاص الذين لعبوا دورًا في تسيير هذه الأحداث”.

يصرح العظم بوضوح أن مشكلته ليست مع الدين، وإنما مع “البنيان الفكري والنفسي” الناتج عن هذا الدين، وهو البنيان الذي يراه سببًا في الإخفاق العربي، ونموذجه العملي هو الهزيمة أمام العدو الإسرائيلي، ودليله على الصلة بين هذا الفشل وبين البنيان الفكري والنفسي هو الخطاب التبريري القائم على “التفسيرات الدينية والروحانية للانتصار الإسرائيلي والخسارة العربية على وعد بنصر جديد من عنده تعالى”، وأمثلة ذلك كثيرة أبرزها ما ارتبط بقصة ظهور مريم العذراء في كنيسة بمنطقة الزيتون بالقاهرة وحالة التبني الإعلامي الرسمي لها باعتبارها دليلًا على عدم رضا الله عن ضياع القدس ووعد بنصر قريب، وغيرها من أمور يمكن للمهتمين مراجعتها في أرشيف الصحافة المصرية والعربية لتلك الفترة.

بداية صدام الدين مع العلم

يلخص العظم أزمة الدين مع العلم في أن الأول “يحوي آراءً ومعتقدات تشكل جزءًا لا يتجزأ منه، عن نشوء الكون وتركيبته وطبيعته، عن تاريخ الإنسان وأصله وحياته خلال العصور، هذه الآراء والمعتقدات تتعارض تعارضًا واضحًا وصارخًا مع معلوماتنا العلمية عن هذه المواضيع بالذات”.

والأهم من ذلك أن الأمر “يتعلق بمشكلة المنهج العلمي الذي يجب اعتماده في الوصول إلى قناعاتنا ومعارفنا في هذه المواضيع المذكورة، والطريق التي يجب أن نسلكها للتيقن من صدق أو كذب هذه القناعات، فالدين لا يقبل مراجعتها خارج النصوص التي تعتبر مقدّسة ومنزّلة، أو عبر الحكماء الذين درسوا وشرحوا هذه النصوص”.

ويؤرخ العظم لبداية هذا الصدام بين الفكر الديني والمنهج العلمي بانتقال العالم الأوروبي من حالة الطمأنينة، أو الموقف الحازم الإيجابي تجاه الدين، إلى حالة التردد أمام سؤال الدين، وهي الحالة التي كانت نتيجة لتفاعل عدة أحداث داخل القارة الأوروبية على مدار ثلاثة قرون، هذه الأحداث كما حددها هي: حركة النهضة في إيطاليا، والانقلاب العلمي الذي بدأ بنشر كتاب كوبرنيكوس عن النظام الشمسي وبلغ ذروته بنشر كتاب المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية لنيوتن، والثورة الصناعية التي بدأت في القرن السابع عشر، وصدور كتابي “أصل الأنواع” لدارون، و”رأس المال” لماركس.

ويلخص حالة التردد تجاه الدين هذه في مشكلتين رئيسيتين، الأولى ثقافية عامّة يلخصّها في مشكلة النزاع بين العلم والدين، والأخرى خاصة، يعانيها كل من تأثرت ثقافته بالثقافة العلمية ليواجه سؤال مدى القدرة على الاستمرار في أن يتقبل -بكل أمانة وإخلاص- المعتقدات الدينية المتوارثة من دون أن يخون مبدأ الأمانة الفكرية؛ إذ أن العلم لا يعترف بالنصوص التي لا تخضع للنقد الموضوعي والدراسات الجادة.

الدين بديل خيالي عن العلم

ويبرر أصل النزاع بين الدين والعلم بما بينهما من تشابه لأن “كليهما يحاول أن يفسر الأحداث ويحدد الأسباب، فالدين بديل خيالي عن العلم، ولكن تنشأ المشكلة عندما يدّعي الدين لنفسه ولمعتقداته نوعًا من الصدق لا يمكن لأيّ بديل خيالي أن يتصف به”.

وفي مزيد من التحديد يرى أنه “مع الدين هناك حاجة إلى الإيمان والثقة العمياء بحكمة مصدر هذه النصوص وعصمته عن الخطأ، وهو ما يتنافى مع المنهج العلمي القائم على الملاحظة والاستدلال، والذي يعتمد تبرير النتائج فيه على مدى اتساقها المنطقي مع بعضها البعض ومدى انطباقها على الواقع″.

في سبيل التخلص من مأزق عدم قدرة الدين على الثبات، بل والانهزام في مواجهة مستجدات العصر، مارس الفكر الديني عمليات أسماها العظم بـ”تزييف الواقع وتزييف الوعي لحقائقه”، من هذه العمليات “تزييف حقيقة العلاقة بين الدين الإسلامي والعلم الحديث، ثم بين الدين والنظام السياسي مهما كان نوعه (الاشتراكية، العربية، العلمية الإسلامية، المؤمنة، الثورية)، وكذلك تزييف الحقيقة حول التصنيف الثوري الصارم للأعداء والأصدقاء على مستوى العلاقات بين الدول، ثم تزييف حقيقة الصراع بين الطبقات الاجتماعية تحت دعاوى التسامح والمحبة وغيرها من قيم روحية”.

هذا التزييف كما يصفه العظم، أدى إلى “تجريد العلاقة الاستعمارية في الوطن العربي عن جملة الظروف التاريخية والأوضاع الاجتماعية المتشابكة معها والمحيطة بها، إلى درجة جعلت الاستعمار يبدو وكأنه القوة الوحيدة المتحكمة بحركة المجتمع العربي والبيئة المحيطة به، أدى ذلك إلى إهمال تام لأوضاع القوى والمؤسسات والتنظيمات والمجهودات الذهنية الموجودة في التركيب الاجتماعي العربي. والوقوع في وهم أن الأيديولوجيا الغيبية والفكر الديني الذي تفرزه مع ما يلتف حولها من قيم وعادات وتقاليد هي حصيلة الروح العربية الأصيلة الخالصة الثابت عبر العصور، وهو الوهم الذي يجب التحرر منه عبر فضح أنواع التزييف التي تمارسها الأيديولوجية الدينية”.

أمام هذا التوصيف، يطالب العظم بانتهاج المنهج العلمي في النظر إلى الأمور الرئيسية التي يعالجها الدين، بداية من نشوء الكون وتطوره، وأصل الإنسان ونشأته وتطوره، ونشوء الديانات والعبادات والطقوس وتطورها ونهاية الحياة وما بعد الموت، أو ما أسماه بالصورة الكونية المتكاملة.

المادية الديالكتيكية كبديل

انطلق العظم في كتابه من قناعة بدت شديدة الوضوح بالفكر الماركسي و”المادية الديالكتيكية”، مؤمنًا بأنها البديل الأنسب للأيديولوجية الغيبية والفكر الديني، الذي عزا إليه أسباب هزيمة العرب؛ ويمكن رصد هذه القناعة في غير موضع، وإن كان الكاتب أعفانا من ذلك حين اختتم كتابه بخلاصة هذا نصها “وليس باستطاعتنا أن ندّعي بأن القرن العشرين قد صاغ لنفسه، بشكل نهائي، صورة كونية متكاملة، انطلاقًا من إنجازاته واكتشافاته العلمية، لتحلّ محل الصورة المادية التي ذهبت. في الواقع إن صياغة مثل هذه الصورة ينبغي أن تتصف دومًا بالحذر وبروح التقريب والترجيح والمرونة والقدرة على المراجعة والتعديل وفقًا لما يجدّ من إنجازات واكتشافات علمية هامة تؤثر في نظرتنا إلى الطبيعة وقدرتنا في السيطرة عليها، ومن المؤكد أن المادية الديالكتيكية هي أنجح محاولة نعرفها اليوم في صياغة صورة كونية متكاملة تناسب هذا العصر وعلومه، وأعتقد أن هذا جزء مهم مما عناه سارتر حين قال: (الماركسية هي الفلسفة المعاصرة)”.

التركيز على العلة وتحديد الهدف

رأيت من الواجب استعراض مفاصل كتاب “نقد الفكر الديني” بشيء من التفصيل قبل محاولة التداخل مع أطروحته الرئيسية التي يمكن عرضها بصياغتي الخاصة بشكل أكثر بساطة كالتالي: يرى العظم أن مشكلة الأديان تكمن في أنها نماذج مغلقة لا تقبل التجزئة، تشترط قبولَها ككيان متكامل، لأن كل نقد لأحد مكونات هذا الكيان تعني نقضه كاملًا، هذه الأديان تتضمن أفكارًا تتعارض مع مستجدات العلم الحديث والتفكير العقلي، ولا تقبل خصيصة الأديان نقد هذا الأفكار أو مراجعتها لأن كل نقد يعد مساسًا بالأطروحة الكلية. وعليه، ومع بداية عصر العلم الحديث وزيادة اكتشافاته وتطور أدواته ظهر داخل الفكر الديني اتجاه توفيقي تبناه مفكرو الأديان وفلاسفتها في محاولة لإثبات عدم التعارض بين الأديان وبين العلم الحديث، وتعددت مستويات هذا الخطاب التوفيقي إلى أن بلغت حدود التلفيق والتعسف أحيانًا.

ويرى العظم أن الفكر الديني بهذه الصفات وسم العرب بذهنية دينية غيبية، تخلو من العقلانية العلمية التي لا غنى عنها في عصر العلم، وأن ذلك كان السبب الرئيسي في تراجع العرب الحضاري وفشلهم وإخفاقهم الذي بلغ ذروته في الهزيمة أمام العدو الإسرائيلي في عام 1948 ثم عام 1967.

وهو يدعو العرب إلى التخلص من هذه الذهنية الدينية الغيبية الناتجة عن صورة كونية مبنية على الدين، وتبنّي صورة كونية مبنية على إنجازات واكتشافات العصر العلمية، وهو يرى في المادية الديالكتيكية الماركسية أو الاشتراكية وفقًا للمصطلح العربي السائد آنذاك، البديل الأفضل لذلك.

إذن يمكننا القول بأن العظم لا يواجه مشكلة مع الدين كظاهرة أو قوة روحية، طالما أنه لا يؤثر في البنيان الفكري والنفسي للمجتمع بشكل يفصله عن ركب التطور العلمي. وهو مبدأ نظن أنه يمكن أن يكون مقبولًا لدى قطاعات واسعة من البشر؛ فطالما أن الهدف من الدعوة لاستخدام المنهج العلمي أو تبني العلمانية هو إنقاذ المجتمعات من العجز والفشل والإخفاق، فلا شك في أنها دعوة لن يواجهها أحد بالرفض أو المعارضة.

العنب أم قتل الناطور

يقول المثل العربي الذي تتعدد صياغاته بتعدد اللهجات ويبقى المعنى واحدًا مؤكدًا على التركيز على الهدف: بِدَّك العِنَب ولَّا تقتِل النَّاطُور؟

نتفق مع العظم في أن الأزمة هي الذهنية العربية غير العقلانية المستسلمة لتفسيرات غيبية تحول دون -أو تعوق- مواجهة الواقع المتردي وتحليل تفاصيله من أجل العمل على تعديلها وتطويرها مما يتسبب، ليس فقط في تراجع العرب عن رَكْب الحضارة وبالتالي تبعيتهم للغرب العقلاني، وإنما في هزيمتهم المباشرة وعدم قدرتهم على رد الاعتداء عليهم، ونموذج ذلك هزيمتهم في 1948 و1967 حتى تاريخ نشر الكتاب.

وعليه، فإن الحل هو إعادة صياغة هذه الذهنية، لتصبح عقلانية علمانية تستطيع أن ترى الأمور بمنظار العصر.

والحائل أمام تحقيق هذا الهدف هو الدين كما يرى العظم، وبشكل أكثر تحديًا الصورة الكونية التي بناها العرب انطلاقًا من الدين، وبكلمات العظم انبنت هذه الصورة من “الآراء والمعتقدات -في الدين- التي تشكل جزءًا لا يتجزأ منه، عن نشوء الكون وتركيبته وطبيعته، وعن تاريخ الإنسان وأصله وحياته خلال العصور” والتي “تتعارض تعارضًا واضحًا وصارخًا مع معلوماتنا العلمية عن هذه المواضيع بالذات”، ويرى أن الدين لا يقدم لهذه التساؤلات سوى “قصصًا جميلة مريحة دافئة” على حد تعبيره.

هذه القصص ليست مشكلة في حد ذاتها، إذ أن معظم شعوب العالم لديها تصوراتها عن هذه الأمور بالتحديد، سواء تمسّكوا بها أم تخلوا عنها، ويصنفها العلم باعتبارها ميثولوجيا.

إذن المشكلة ليست في التصورات، وإنما تحديدًا في عدم القبول بمراجعة هذه التصورات، والاكتفاء بها، رغم ما يستجد في الكون من تطورات.

الخطورة إذن ليست في التصورات، إنما في استسلام العقل التام لهذه التفسيرات الدينية، والذي يؤدي -من ناحية- إلى خمول في مضمار البحث العلمي، وتدنّي الانشغال الفكري والفلسفي بهذه التساؤلات، لينحصر الجهد العلمي والفكري والفلسفي والفقهي (أي مجمل النشاط العقلي) في مساحة محاولة التأويل أو الشرح، وشرح الشرح.. من دون تحقيق إضافة، ومن ناحية أخرى سوف يقود إلى صدام ونزاع مع كل ما يقدمه من اختاروا مضمار العلم من مقترحات وأطروحات معززة بأدلة مادية وعلمية، أو التحول إلى العقلية التوفيقية وهي عقلية كذلك غير منتجة، لا تنشط إلا لمحاولة إيجاد صلة في الدين مع كل ما ينتجه الآخرون ممن اختاروا البحث العلمي منهجًا ومضمارًا للتفكير.

وبما أننا نريد العنب ولا نريد قتل الناطور، نسأل: هل يمكن عمليًا أن نحقق هذه الأهداف، مع الحفاظ على الانتماء الديني؟

هل يقدم العلم إجابات للأسئلة الكبرى

سؤال تحقيق الهدف مع الإبقاء على الانتماء الديني هنا ليس من باب الفكر التوفيقي، بل هو سؤال نراه الأجدر بالطرح والمناقشة في هذا العصر، لأسباب عديدة، سوف أجتهد في محاولة صياغتها هنا.

يأتي في مقدمة هذه الأسباب أن العلم -منذ النقطة التي حددها العظم لبدء النزاع بينه وبين الدين، وحتى وقتنا الراهن- لم ينجح في تقديم إجابات شافية لهذه الأسئلة الكبرى التي خصها العظم بالذكر: عن نشوء الكون وتركيبته وطبيعته، وعن تاريخ الإنسان وأصله وحياته خلال العصور، لم يقدم سوى مقترحات أو أطروحات لا تصلح أبدًا لإشباع فضول العقل، كما أنها في تطور وتغير دائم، يبدو أنه لن يُحسم في المستقبل المنظور.

فإذا كان تحول نظرة العالَم إلى الدين من الطمأنينة إلى التردد -كما بيّن العظم- كان نتاج حوالي ثلاثة قرون من الإنجاز بدأت بالثورة العلمية في القرن السابع عشر، وكل ما قدمه العلم منذ تلك اللحظة فيما يسمى بـ”التصور العلمي المادي للكون وتطوره” الذي قدمه العظم بديلًا في لحظة كتابته لمقالاته، وحتى اليوم -أي بعد مرور خمسين سنة على صدور الكتاب- لا يُشبع أبدًا الأسئلة المبدئية التي سعت الأديان بتصنيفاتها المختلفة إلى إشباعها.

كلها تصورات تحتاج بدورها إلى عاطفة من نوع خاص لتصديقها، فما بالك بإحلالها محل عاطفة أكثر قِدمًا بالمئات من السنين، يصعب انتزاعها خالصة لنُحلّ محلها نظرة علمية، أو مطالبة الناس بالقطيعة الجذرية معها.

كما أن كل هذه المحاولات والتصورات لم تنجح في حسم خلاف مهمّ هو خلاف “الفارق النوعي” بين أصحاب المذهب الحيوي (علماء الأحياء) وبين علماء الكيمياء والفيزياء، الناشئ عن استحالة إرجاع البيولوجيا (الأحياء) ببساطة إلى الكيمياء أو الفيزياء، وهو ما يسميه الفكر الديني مثلًا بالقدرة الإلهية أو الروح أو غيرهما، بينما لم ينجح العلم في تعليله بشكل (عقلي) يُغلق باب الجدل، وهي مجرد أطروحات تسمح للفكر الديني بتبنيها واعتبارها من دلائل صحته التي يُسخّر الله “الكفار” لإثباتها بأنفسهم، ويظل العلم بمعناه المادي مجرد محاولة ناقصة لتفسير العالم تحتاج لتصديقها إلى قدر من الإيمان لا يقل عن القدر الذي تحتاجه الأديان.

هذه التصورات المادية أو العلمية بالنسبة إلى الإنسان العادي -من دون شحنة عاطفية- تصبح شبيهة بأيّ تصور أسطوري قديم؛ مصري أو يوناني أو غيرهما، فما الذي يُميز تصور أرسطو عن “المحرك الأول”، أو تصور نيوتن عن “المكان المطلق”، و”الزمان المطلق” وأفكاره بشأن “المادية الساكنة” و”المادية الميكانيكية”، أو تصورات أنجلز وماركس عن “المادية الديالكتيكية”، أو تأثيرات ظهور “النسبية” فيما بعد، ما الذي يميز ذلك عن التصورات التي يقدمها الدين؟

ما الذي يمنع مثلًا أن يكون المحرك الأول عند أرسطو هو الإله الذي تتحدث عن الأديان، وما التفسير العلمي المادي الذي لا يقبل النقد الذي قدمته تلك النظريات لنتمسك بأطروحاتها حول المكان المطلق والزمان المطلق؟ وما الدلائل العلمية على أطروحة موت الله مقابل الأطروحة التي تتمسك بوجوده.. إلخ؟ هل ثمة فارق إذن بين التصورين العلمي والديني؟

بالطبع، ثمة فارق كبير وضخم ومذهل وخطير، وربما وحيد، لكن الأهم أنه خارج كل هذه الأطروحات وليس داخلها. الفارق الجوهري بين التصورين العلمي والديني لنشأة الكون وتطوره، هو انفتاح الأول (العلم) على التجريب واستعداده لتطوير رؤيته، بينما الأخير (الدين) منغلق على رؤيته وغير مستعد حتى لمناقشتها فما بالك بتعديلها أو تطويرها، الأمر الذي ينعكس على طبيعة العمليات الفكرية عند الإنسان ويؤثر على احتمالات تطوره وتقدمه.

إنقاذ سمعة العلمانية

إذا كان الأمر كذلك، فإن الحديث عن العلمانية يجب ألاّ ينصبّ على رفض الأديان وتسفيه تصوراتها عن الكون، لأن المشغولين بذلك أساؤوا إلى العلم والعلمانية أكثر مما نجحوا في تحرير العقول من سطوة النموذج المغلق، يجب أن ينصب الجهد على معالجة سطوة هذه التصورات على طبيعة العمليات الفكرية للإنسان، بما يسمح للعقل البشري باختبار كافة احتمالات التطور والنجاح.

فإذا كان تحرير العقل شرطا أساسيا لنجاح المنهج العلمي، فإن محاربة الأديان لمجرد محاربتها ليست -بلا أدنى شك- واحدة من مقاصد العلم.

ثمة مخاطر كبرى تترتب على الخلط بين محولة تحرير العقل من أسر النموذج المغلق وبين محاربة فكرة الدين في جوهرها، فإلى جوار ما يقدمه الدين للبشر من شعور بالطمأنينة، باعتباره يحدّد لهم غاية وهدفًا يعيشون من أجله، ويمنحهم طاقة يستمدون منها رغبتهم في الحياة والاستمرار والعمل والإنتاج، فهو يُصبح في أحيان كثيرة الخط الفاصل بين الناس وبين التخلص من حيواتهم أو من حيوات الآخرين، خاصة في المجتمعات التي تقل فيها فرص الحياة الكريمة -وما أقلها هذه الأيام- أو تعاني من شظف العيش أو تعثّر الحظ، وهو ما لا يقدمه العلم.

صحيح أن هذه الطمأنينة يمكن أن تتحول إلى مسكّنات في يد السلطة بتعدد أشكالها، وأداة تحرم الناس من حقوقهم وتحدد حرياتهم، إلا أن هذا التخوف يبدو عمليًا أقل وطأة على الناس من سلب ما يمنحه الدين لهم من اطمئنان لا غنى عنه.

الخلط بين الأخلاق والدين

إلى جوار ذلك، ثمة خطر أشد في خلخلة فكرة الدين باسم العلم أو العلمانية أو المنهج العلمي، فهناك يقين راسخ لدى البشر بأن منظومة الأخلاق ما هي إلا جزء أصيل من الدين، بل إن الدين المنبع الوحيد للأخلاق، لا أخلاق سوى في الدين، وهو ما لا يقدم نموذج العلم بديًلا له، ولا يستطيع أن يحلّ محله في نفوس البشر.

لا نتّفق مع هذا التصور السائد عن كون الأخلاق تابعة للدين، فالأخلاق منتج إنساني مستقل لم تُنتجه الأديان، وإن احتكره الخطاب الديني واستغله بمهارة. ونرى أن هذا الاحتكار -وإن نجح في تحقيق الغاية منه في الترويج للدين بين الناس- إلا أنه ينذر بفساد إنساني عظيم، بسبب تحول الأخلاق إلى “سلع تبادلية” يتبادلها المؤمن مع ربه داخل منظومته الدين مقابل الحصول على الأجر والثواب.

وبذلك خرجت الأخلاق من حيز الفعل الإنساني غير المشروط، إلى مساحة الفعل الديني المشروط بشروط الدين، والفارق بين الأمرين عظيم لا مجال للإسهاب في شرحه هنا، لكن نكتفي منه بالتدليل على مدى ترابط منظومة الأخلاق بمنظومة الدين إلى الحدّ الذي يشير إلى خطأ الترويج للمنهج العلمي أو العلمانية كبديل للدين، لأن الدين -كما وصل إلى رجل الشارع العادي عبر الخطاب الديني- منظومة أخلاق ومعاملات، فهي أمور يمكن تقبّلها واستيعابها وهي أقرب إلى عاطفة الناس وقلوبهم ولحياتهم وواقعهم ودنياهم، وهي تهمهم وتشغلهم بذاتها وبما يترتب عليها من وعود في الدنيا والآخرة بأكثر ما تشغلهم التساؤلات الكبرى المعقدة عن نشأة الكون والإنسان وتطورهما ومصيرهما، والتي يعتقد العلم أنه بتقديم إجابات عنها سوف يحل محل الدين في عقول الناس. وهو ما لن يحدث، فالناس من ناحية غير منشغلين بمراجعة هذه التصورات، كما أن العلم في الحقيقة لم يقدم سوى طروحات تبدو للإنسان العادي أكثر تجريدًا وخيالية من التصور الذي يقدمه الدين نفسه.

عدم انشغال الناس بالتساؤلات الكبرى وتعلقهم بمنظومة الأخلاق باعتبارها الوجه الأهم للدين إن لم يكن الوحيد، هو ما يفسر طبيعة حركات الإلحاد في مجتمعاتنا، إنه إلحاد أخلاقي، سمته الرئيسية الخروج على الأخلاق والأعراف المجتمعية، وليس التخلي عن فكرة الدين البحت أو رفض منطق وجود الإله، أو رفض الصورة الذهنية التي يقدمها الدين عن الكون، وهو دليل فشل آخر لسوء سمعة العلمانية التي تبدو للناس وكأنها دعوة لإلغاء الدين.

يقين الدنيا ويقين الآخرة

هذه التساؤلات الكبرى التي ينشغل العلم بالبحث عن إجابات لها، أو على الأقل كما حددها العظم في كتابه (نشأة الكون وتطوره، ونشأة الإنسان وتطوره ومصيره.. إلخ) تدخل في نطاق ما يمكن تسميته بـ”يقين الآخرة”، وهو حسب قراءة الواقع أمر لا ينشغل به الإنسان إذا كان “يقين الدنيا” منضبطًا.

ويقين الدنيا هو مجمل القواعد والإجراءات والقوانين والأنظمة التي تضمن للإنسان حالة الطمأنينة التي يمكن تلخيصها في معادلة بسيطة: من جدَّ وجد، ومن زرع حصد، هذه القاعدة البسيطة هي الكفيلة بإنقاذ البشر من الوقوع في براثن أيّ يقين مغلق يداعب خياله بآخرة تعوضه كل ما فقده في يقين الدنيا، فيغادر الإنسان مساحة الدين بما هو حالة روحية إيجابية دافعة ليتحول إلى “يقين آخرة” مغلق يزداد تشبثه به كبديل وحيد عن يقين دنيا فاسد.

القاعدة بسيطة: المحروم من حقوقه في الدنيا يعزّي نفسه بثواب الآخرة الذي يقدمه له الدين فيصبح الدين بالنسبة إليه العزاء الوحيد ومع مبالغة الخطاب الديني في تعزيز ذلك الشعور، وتضخيمه يصبح يقينًا مغلقًا صالحا للتحول إلى أداة إقصاء ونفي وقتل كل من يشكك فيه.

المعادلة خطية واضحة: كلما فسد يقين الدنيا كلما ازداد التمسك بيقين الآخرة والاستسلام للطرح الفكري الذي يجيد تعبئة هذا الفراغ.

قد أبدو داعية اجتماعيا، ولكن ما الضير إذا كانت هذه الدعوة لتحرير العقل من أسر “اليقين المغلق” باسم أيّ فكرة؛ دينية كانت أو غيرها، هذا اليقين المغلق -وليس الدين بما هو حالة روحية- هو النقيض للتفكير العقلاني أو العلماني أو المنهج العلمي -لا يهم الاسم- فنقطة الانطلاق تبدأ من مخاطبة المجتمع وفك الاشتباك المخيف بين الأخلاقي والديني في تصوره عن كليهما، مع جهود كبرى في دعم “يقين الدنيا” عبر مقاومة فساد المنظومات الحاكمة لحياته المتعلقة بلقمة عيشه وصحته وحريته، ومقاومة فساد السلطات الإدارية والقانونية وغيرهما، بما يجعله مقبلًا على الدنيا مطمئنًا بيقينها.

لماذا رفض العظم فكرة وليم جيمس

عند هذه النقطة، أجدني في الواقع ميالًا إلى طرح أراه يحقق هذه المعادلة، ويفك الاشتباك بين الفكر الديني والتفكير العلمي، ويساعد على تركيز الجهد والطاقة في تحرير العقل من أسر اليقين المغلق، وهو الطرح الذي يحمل عنوان “إرادة الاعتقاد” للفيلسوف الأميركي وليم جيمس، وهو الطرح الذي هاجمه العظم في كتابه بضراوة، موجهًا له أشد النقد، فماذا يقول وليم جيمس؟

يدافع جيمس في بحثه ذاك عن حق الإنسان الذي نشأ في أجواء الثقافة العلمية الحديثة، في الاعتقاد الديني، ويعتبر مشكلة الدين “مشكلة عاطفية” لا تمكن معالجتها على صعيد العلم والعقل.

وخلاصة بحث جيمس أن “البيّنات العلمية والأدلة العقلية غير كافية بحد ذاتها للبرهان على وجود الله أو عدم وجوده، باعتبارها القضية الأساسية”، لذا فإنه يؤيد حق الإنسان في اتخاذ موقف من هذه المعضلة يتناسب مع عواطفه ومشاعره دون اشتراط توفر أدلة علمية ومادية.

لم ير العظم في محاولة جيمس سوى تعبير عن نجاح العلم على مدار ثلاثمئة سنة تقريبًا في خلخلة علاقة الناس بالدين ونقلها من حالة الطمأنينة إلى حالة التردد، الأمر الذي استدعى تدخل وليم جيمس ليستثني الدين من فكرة “إرادة الاعتقاد” التي تشترط توفر الأدلة العقلية والبيّنات العلمية.

لماذا لم ير العظم في هذا الطرح تأكيدًا على تغلغل الديني في عاطفة البشر لفترات أكثر قدمًا من العلم بكثير، بشكل يصعب معه انتزاعها خالصة لنُحلّ محلها نظرة علمية، أو مطالبة الناس بالقطيعة الجذرية معها؟ وهي مشكلة تزداد تعقيدًا حين ننظر إلى ذلك التعقيد الذي يضيفه اشتباك الأخلاقي بالديني.

يبقى السؤال في نظري وجيهًا: هل يمكن التحول بفكر السيد “س″ الذي خاطبه العظم في كتابه إلى فكر علماني يحترم شروط المنهج العلمي ودور العلم في التطور والتحضر، مع الحفاظ على الانتماء الديني وتعزيز فكرة “إنسانية الأخلاق”؟

سؤال في رأيي يحتاج إلى تفكير من داخل منظومتنا وليس استعارة عمياء لنظريات ومنظومات الآخر مهما بلغ شأوه في مسيرة التقدم العلمي.

________

العرب/ تنشر المقالات بالاتفاق مع مجلة “الجديد” الشهرية الثقافية اللندنية

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *