ورقة فى شق حائط

خاص- ثقافات

*د .محمد عبدالحليم غنيم

من دون الجميع أولانى ثقته .. لكن لماذا أنا بالذات ؟ .. أنا أرجع ذلك لسببين أولهما ما عرف عني بأني كتوم لا أكشف سراً . وثانيهما اعتقاده أنني أعرف فى مثل هذه الأمور أو بالأحرى خير من يعرف فى هذه الأمور . ونحن – المتعلمين- فى القري  يبالغ أهلنا فى احترامنا وتقديرنا ، لذلك ندهش عندما نري أهل المدينة بأحذيتهم اللامعة وذقونهم الحليقة الناعمة يعاملوننا بنفس قسوة وسائل المواصلات عندهم . قال وقد بدا أنه يخفى فى صدره أمراً عظيماً :

– كنت أخشي ألا أجدك .. أحملها فى طيات ملابسي منذ أكثر من شهرين .

 كان مضطرباً ، شاحب الوجه أشرت عليه أن يجلس ، عيناه الغائرتان فى محجريهما بدا بياضهما شديد الصفرة . جلس بجواري خلف المنضدة الطويلة أزحت كتاباً كنت أقرأ فيه بعيداً ، تطلع إلي الباب ، فقمت وأغلقته ثم عدت إلي مكاني لأجده وقد فرد أمامي ورقة متسخة مكتوبة بخط  ردئ ، أرجل طيور مختلفة الأشكال والأحجام ، أو كتابة فرعونية رديئة لتلميذ مصري قديم خائب .. أيقنت من البدء أنني لن أستطيع قراءتها .. الورقة لا تتعدى مساحتها  نصف ورقة فولسكاب ، ليس بها مكان خال من الكتابة ، لون الحبر فيها أزرق غامق يوحي بالكآبة ، وتكاد تكون خالية من الإعجام وعلامات الترقيم ، آثار طيها تؤكد أنها كتبت منذ فترة طويلة .

– لقد وجدتها فى شق الحائط مطبقة هكذا .

وكان قد أعاد طيها كما وجدها ، تناولتها من يده وبدأت أفردها أمامي من جديد .. بدت لي طلسماً مغلقاً     قلت :

– هل تعتقد فى مثل هذه الأشياء؟

  بدا أنه لم يستمع لسؤالي فلم أسمع منه إجابة ، بيد أنه قال :

– ذهبت إلي الشيخ ” سيد ” وقال لي بللها فى الماء .

أطرقت قليلاً ، وعرفت أنه لم يكن لسؤالي معني ، ثم قلت :

– ولماذا لم تفعل ؟

– قلت آتي إليك أولاً .. أنت متعلم .

حدقت فى الورقة دون تعليق أستطيع – الآن – أن أتبين بعض الحروف والكلمات غير أنني لم أستطع قراءة سطر واحد بأكمله ، لاحظ اليأس فى عيني فقال يستحثني :

– لم أنم منذ شهرين .

ملت إلي تصديقه ، خاصة وهالتان سوداوان قاتمتان تحيطان بعينيه وقد رأيت أن شيئا واحداً  هو كل ما يريده  أن يطمئن .. لكن   لماذا أنا بالذات من دون أهل القرية ؟

أحاطنا مد طويل من الصمت . وأخيراً وبعد جهد جهيد قرأت ” بسم الله ألله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً وسبحان الله ولا إله إلا الله ” ثم توقفت أو بالضبط لم أستطع أن أكمل ، وكان وجهه قد امتقع ، وبدا لي أكثر اصفراراً مما توقعت لذلك تحاشيت النظر إلي عينيه  ، وعلي الفور خطرت لي فكرة .. قلت :

– إن العمل لا يبدأ بالبسملة ..هذا حجاب ، انظر .

وأشرت إلي نهاية الورقة وأنا أقول : اقرأ . الحمد لله رب العالمين . أمين وكنت أعرف أنه يفك الخط ، ردد معي ما قلته ، وقد بدا عليه الارتياح غير أنى شعرت بغصة فى حلقي ، فى الحقيقة أنا لا أعرف الفرق بين ” الحجاب ” و ” العمل ” كما أن معظم المكتوب لا أستطيع قراءته ، لقد كان الشيخ ” سيد ” علي حق عندما قال له ” بللها فى الماء ” قلت كتلميذ يتذكر إجابة سؤال لم يراجعه جيداً :

– إن لم يكن هذا حجاباً فهو عمل بصلاح الحال .

ثم أضفت :

– هل تصدقني ؟

هز رأسه ممنوناً ، ثم قال :

– أرحتني .

وأنا الذي لم يكن قد ارتاح بعد ، سألته :

– هل لك أعداء ؟

– أبدا

– من غير أهل بيتك يمكن أن يضع هذه الورقة فى شق الحائط ؟

– لا أحد

– إذن ..

وكنت أقصد زوجته، وكان هو يدرك أن لا أحد غير زوجته، ثم بدأ يسرد لي كيف وجد الورقة مطبقة ومحاطة جوانبها بالصمغ  فى شق الحائط ، وقد نسج عليها العنكبوت خيوطه وأن هذه ليست أول مرة تحدث ولكنه كان يتجنب الحديث عنها – أقصد زوجته – كنت من جانبي أتحاشي الحديث عنها أيضا وكان علي أن استمع حتي النهاية ، وما كان لي أن أشرد بفكري بعيداً :

زوجته !

جاءت يوماً إلي هذا المكان وجلست فى هذه الغرفة وبكت أمامي طويلاً ، وقلت لها أصبري وأنها يجب ألا تيأس ، وهو أبدا لن يطلقك وهي ما زالت زوجته ، وأنها بين نساء القرية عملة نادرة وكان الضرب فوق جسدها الأسمر اللدن صلباناً وسيوفا ، ساعتها قالت :

– معمول له عمل .

– وهل تعتقدين فى مثل هذه الخرافات ؟

ولما أطرقت طويلاً ، وخيم علي الغرفة صمت أسود ، قلت لها :

– استري جسدك المكشوف .

ففعلت وابتسمت فى خجل لعوب ولم أعرف بعد ذلك كيف عادت له ؟ أو لماذا .. ؟ تنبهتُ لانقطاعه عن الكلام ، ورأيته يتململ فى جلسته وحرت كيف اعتذر له .. وكانت الورقة لم تزل مفرودة أمامي .. قال وقد ضبطني اختلس النظر إليها:

– خليها عندك .. يمكن تنفعك .

وكأنه قذفني بمدية ، فزعت ، ولم أعرف بماذا أجيب ؟ تركت الورقة  علي مضض فى مكانها وأنا أرفض بشدة بقاءها ، ولم أكن أعرف لماذا أيضا ؟ وكدت أصيح فى وجهه : ” لا أريدها ”  غير أنني لم أفعل شيئا . ثم قام واستعد للخروج وعند الباب شد علي يدي فى امتنان – قائلا :

– طمأنتني .

ناديت علي أمي وعندما أخبرتها بما حدث ، وعلمت بوجود الورقة لدي، دقت علي صدرها فى فزع ، وأسرعت تأتي بطبق به ماء لتذوب فيه الورقة . ثم قالت :

  • فى الصباح أخبر الشيخ ” سيد ” اللهم احفظنا .

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *