نجيب محفوظ مالئ الدنيا وشاغل الناس.. قراءة فى نقد أصداء السيرة الذاتية

خاص- ثقافات

*د. محمد عبد الحليم غنيم

    كتاب “أصداء السيرة الذاتية” الذي صدر في العام 1996 للباحثة التونسية جليلة طريطر ما زال مصدرا ثريا للتناول النقدي ، ولن نبالغ إذا قلنا أن حجم المتابعات أو التناول النقدي له ، قد تجاوز حجم الكتاب عدة مرات . ولعل ذلك لأن كتاب “رجع الأصداء في تحليل ونقد أصداء السيرة الذاتية لنجيب محفوظ”  لجليلة طريطر الناقدة التونسية , يعد أول كتاب شامل يقتصر على دراسة درة نجيب محفوظ .

     تقدم المؤلفة لكتابها بفصل “فى تقديم الكتاب وتحقيقه” وتقوم فيه بالمقارنة بين نسخة الأصداء التي نُشر بعض فصولها في جريدة “أدب ونقد” القاهرية والنسخة الكاملة لها التي نشرتها مكتبة مصر بالقاهرة ودار سحنون بتونس ، وتفضي بها المقارنة إلى التوصل إلى أن ثمة بعض الخلافات بين النسختين ، لعل أبرزها اختلاف العناوين الفرعية وثانيها أن عدد العناوين الفرعية في نسخة دار سحنون ومكتبة مصر بلغ 226 عنوانا ، في حين أنه لم يتجاوز 244 فحسب في نسخة أخبار الأدب ، وسبب هذا الاختلاف يعود إلى أن أخبار الأدب أدمجت تحت عنوان واحد ثلاثة مقاطع قصصية منفصلة في الأصل . ص 29 والذي يعنينا أن المؤلفة لم تطلع على المخطوط الأصلي للكتاب لتعرف إن كان ثمة مقاطع لم تنشر بعد أم لا ؟

     والأصداء بعد هذا ـ في رأي المؤلفة ـ ليس من الهين المتيسر إبداء الرأي فيه “لأنه جنس من الكتابة مخصوص له آدابه وسننه وتقاليده ومشكلاته المتميزة التي لم تحظ بعد في مستوى التنظير العربي الحديث بما تستحقه من عناية علمية ” ص 32 .

16111136

     وفى الفصل الثاني “قضية العقد السير ذاتي في أصداء السيرة الذاتية” تحيلنا المؤلفة على الناقد الفرنسي “فيليب لوجون” وكتابه “ميثاق السيرة الذاتية” إذ لابد من وجود عقد بين كاتب السيرة ومتلقيه ، حيث اتفق معظم الباحثين والنقاد المختصين في هذا الجنس الأدبي على أن أبرز ما يميز النص السير ذاتي في ذاته وفي علاقته بنصوص مغايرة أخرى كالنص الروائي مثلا الذي قد يختلط به من نواح عدة ، هو قيامه على عهد صريح بين مُنشئه ومتلقيه ، يتعهد فيه الأول إزاء الثاني بأن يكون هو العارض والمعروض والواصف والموصوف فيما يكتب ” ص 42 . وقد ذهب فيليب لوجون إلى اشتراط حضور هذا العقد في موضع ما من مواضع النص ، قد يكون في مقدمته أو في غضونه أو فى خاتمته للإقرار بانتمائه وانتسابه إلى جنس الكتابة السير ذاتية ، وانخراطه ضمن نواميسها وسننها ، إذ هي فى نظره نمط من أنماط القراءة بالأساس أكثر من كونها نمطا من أنماط الكتابة المتميزة . ص 43 .

     والقضية التي يثيرها كتاب ” أصداء السيرة الذاتية” هي غياب الميثاق أو هذا العقد الذي يصرح بأننا أمام نص من جنس أدبي هو السيرة الذاتية ، ولذلك فإن “القارئ محمول من الوهلة الأولى على خوض مغامرة القراءة وتفكيك الرموز والإشارات النصية الأولى مباشرة وبدون اعتماد على وساطة المترجم عن ذاته التي يتوقع في العادة حضورها وإشرافها على عمليتي التحليل والتأويل المصاحبتين للقراءة . ص 48 .

     فمن حيث المبنى تقول المؤلفة “إن الناظر في أصداء السيرة الذاتية سيُفاجأ للوهلة الأولى بنموذج هيكلتها السردية ، فخلافا لما قد يتوقع من توزع السرد فيها على فصول صامتة ومرقمة كما جرت بذلك العادة سواء في الكتابات السير ذاتية أو حتى في الكتابات الروائية ، سيجد النص قائما كما هو ظاهر على وحدات إخبارية أو سردية مستقلة بذاتها لكل منها بداية ونهاية ويتصدرهما دائما عنوان ، فإذا بهذه الوحدات مستقل بعضها عن البعض الآخر فهي منفصلة وغير مترابطة ترابطا جذريا كما أنها متفاوتة من حيث الطول والقصر  ” ص 67 . ومن ثم يمكننا ـ على حد قول المؤلفة ـ أن نصف بنية نص “الأصداء” الحكائية بكونها بنية انتشارية ـ تعددية ـ ونعني أن السرد يتنامى فى ظل تكريس وتوليد كتل سردية لها نفس البنية أو نفس الخصائص الشكلية تقريبا ولكنها مستقلة بمعانيها وإيحاءاتها الدلالية “ص 68 .

     وهذه البنية كما تشير المؤلفة تشبه ما يعرف فى تراثنا القصصي العربي الإسلامي بالشكل الخبري الذي تراه المؤلفة فى كتاب الأغاني للأصفهاني ، وغيره من كتب التراث وتستنتج المؤلفة من ذلك أن “نجيب محفوظ اختار أن ينزاح عن شكل السرد السير ذاتي النمطي الذي لا يختلف في شيء عن السرد الروائي كما عرفه الأدب الأوروبي بالاقتراب من التراث فى صيغه ونماذجه السردية الأكثر تداولا منذ القدم ، فإذا النص يؤكد خلافيته على الاتباع ولكنه لأول مرة تاريخيا يوظف الخبر توظيفيا سير ذاتيا ” ص 69 .

     والواقع إن هذه ليست المرة الأولى التي يوظف فيها محفوظ التراث فله في ذلك تجارب جد مهمة ، مثل ليالي ألف ليلة وليلة ، ورحلة ابن فطومة ، وغيرهما ، إذ فى الأولى يوظف “ألف ليلة وليلة” وفى الثانية يوظف “نص الرحالة العربي ” والمعنى في الأصداء مرتبط بالمبنى إذ أن المعنى السير ذاتي الذي أفرزته  بنية النص غير نمطي ، مغاير للمألوف لا ينسجم مطلقا  وما يتوقعه القارئ المعاشر لهذا النمط من الإبداع ، وذلك عائد بالأساس إلى تقطع السرد  وتمقطعه في ظل توزعه على بُنى صغرى مكتفية بذاتها شكلا ودلالة ، ومع ذلك تحاول المؤلفة تلمس نظام يربط بين هذه الوحدات السردية شكلا ومضمونا ، فقد توصلت إلى وجود نوعين من الربط :

1 ـ ربط شكلي : إنه ضرب من الربط الخارجي لا يبلغ مبلغ توليد خط حكائي تام ومتطور ويظهر ذلك بداية من الصفحة الواحدة بعد المائة حين عرض علينا الراوي قصة التقائه وتعرفه إلى شيخ المتصوفة عبد ربه التائه فدل ذلك على محاولة منه لإيجاد نوع من السرد القصصي المتتابع المتصل .

2 ـ التداعي الغرضي : إن الوحدات الإخبارية على ما بينها من انفصال مبدئي واستقلال في الدلالة ، بحيث تشكل ضربا من الخواطر تخضع أحيانا في صور عرضها وترتيبها في سياق السرد العام إلى نوع من الترتيب الغرضي ، بحيث تبدو محكومة إلى حد ما بنوع من التداعي المضمون ” ص 75 .

     وبناء على ذك تخلص المؤلفة في هذا الفصل إلى أن البنية الحكائية في الأصداء انزاحت من حيث المبنى والمعنى عن المألوف السير ذاتي ، فإذا بها تصب في أشكال وتصورات مستمدة مباشرة من التراث الأدبي والعقائدي وتنزع إلى جعل الفردي متلاشيا فيما هو إنساني عام فلا نكاد نظفر بشيء حميمي واضح وصريح ” ص 83 .

     وفى الفصل الثالث تنتقل المؤلفة إلى دراسة وضعية السارد ووظيفته في الأصداء ، فنجد أن لراوي نجيب محفوظ ” أكثر من صورة ووجه فهو تارة ملتئم بالحكاية له ما للراوي السير ذاتي من الملامح والسمات وهو تارة أخرى محايد تماما يكتفي بأن ينقل لنا المشاهد أو محاورات لا تمت إلى حياته الخاصة بصلة ما ” ص 97 . إضافة إلى ذلك فإن نجيب محفوظ يعمد إلى إقحام شخصية ثالثة في نصه يتولى الراوي تقديمها إلينا لتتحول بدورها إلى شخصية راوية من الدرجة الثانية وترى المؤلفة “أن هذه الوضعيات المتنوعة التي تلبس الراوي فى الأصداء تجعلنا نميل إلى الحديث عن رواة لا عن راوٍ واحد وموحد ، أي عن ملفوظ متعدد الأصوات لا يكاد يمنح قصة الحياة ( السير ـ ذاتية ) فرصة الاستقرار والنماء ” ص 98 .

     وإذا كان للسارد أو الراوي في السيرة الذاتية النمطية خمس وظائف ليس بالضرورة وجوب وجودها معا فى نص واحد ، وهي كما يشير جيرار جينت : سردية وتوثيقية وتنسيقية وتواصلية بحتة وأخيرا أيديولوجية ، إذا كان ذلك كذلك ، فإن السارد عند نجيب محفوظ في الأصل يتخلى عن معظم هذه الوظائف ويكاد يتفرد بالوظيفة الأيديولوجية ، فثمة غياب تام للوظيفة التنسيقية وغياب شبه تام للوظيفة التوثيقية أما الوظيفة التواصلية فمعروفة ، في حين لا يمكن الزعم باختفاء الوظيفة السردية وإلا انتفي وجود النص .

     والذي يعنينا هنا ما تؤكده المؤلفة على دور الوظيفة الأيديولوجية للسارد في الأصداء إذ ترى أنها “تلعب دورا تعليميا وعظيا مباشرا يراد به تكيف مواقف القارئ وحمله على تبنى منظومة من القيم والرؤى الوجدانية والعقلية التي تنزع منزعا إسلاميا واضحا قوامه ضرورة الجمع بين الدين والدنيا وعدم الفصل بينهما “

     وترى المؤلفة أيضا أن هذه الوظيفة الأيديولوجية كانت عظيمة الشأن في الأثر لأنها وحدت بين مختلف الأخبار على تنوعها واختلافها الظاهر ” ص 110 ، 111 .

     وتحت عنوان “المرجعي والمتخيل” تناقش المؤلفة في الفصل الخامس إشكالية الواقع والخيال في الأصداء ، فتخلص إلى أن الاعتماد كان على المتخيل في الأساس ومن ثم تبدو لنا مرجعية الشخوص أو المكان والزمان هشة للغاية ، وهذا ما يُفضي بالمؤلفة في الفصل السادس إلى اعتبار أن نص أصداء السيرة الذاتية ، ليست سيرة ذاتية تقليدية ، بل ـ كما تسميه ـ ( تخييل ـ سرد ذاتي ) ، فتقول  “هكذا إذن يمكننا أن نستخلص أن “أصداء السيرة الذاتية” ليس من قبيل الكتابات السير ذاتية النمطية كما راج عنه ذلك ، بل الأرجح أنه داخل فى صنف ما أصبح يعرف اليوم بالتخييل السير ذاتي ، لأن كاتبه قدمه إلى الجمهور على أنه سيرة ذاتية ولكنه منح نفسه حرية التصرف في مقومات هذه الكتابة ما به أخرجه من دائرتها المعلومة ” ص 147 .

     والتخييل السير ذاتي ـ كما تشير المؤلفة متضامنة مع جيرار جينيت ـ تعبير عن ميوعة الفواصل والحدود بين الأجناس الأدبية ، وهذا ما يمكن أن يستنتجه القارئ المتأمل للأصداء ، حيث يمتزج الشعر بالنثر ، والأسطورة بالواقع ، بل إن هناك من اعتبرها نوعا من قصيدة النثر .

     وفي الفصل الأخير الذي جاء تحت عنوان “ملحق المختارات” تنتقي المؤلفة مجموعة من نصوص الأصداء وتضعها فى ترتيب مخالف لما ظهر عليه في الأصل بهدف جمعها في محاور أو أقطاب دلالية تمكن القارئ من نظرة غرضية تأليفية ، وهذه الأقطاب الدلالية ـ على حد زعم المؤلفة ـ من خصائص أو لازمات الحديث السير ذاتي عموما وهي : محور النسيان ، ومحور الشيخوخة ، ومحور ذكريات الشباب ، وحور الموت ، ومحور حب الحياة

     وبعد  فيجب أن نثمن للمؤلفة هذا الجهد فى تناول هذا الأثر المراوغ والمخاتل “أصداء السيرة الذاتية” الذي يكشف عن وعي نقدي موضوعي ، استطاع أن يفك رموزه ويجعلنا في ذات الوقت نتلمس قيمته الفنية العالية وبعده الجمالي السامي .

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

اسم الكتاب : رجع الأصداء في تحليل ونقد أصداء السيرة الذاتية لنجيب محفوظ”

المؤلفة     : جليلة طريطر

الناشر     : المجلس الأعلى للثقافة والنشر , القاهرة 1997 م .

 

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *