البَدْوُ .. مَنْ يَرْكَب البَحرَ لا يَخش مِن الغَرَقِ !

خاص- ثقافات

*الدكتور بليغ حمدي إسماعيل

ثمة علامات ومشاهد يمكن أن تميز القبائل البدوية شديدة الانتشار والضاربة في الاتساع بأقطار الوطن العربي ، منها التماسك والترابط وسرعة الالتحام في القضايا الجمعية والوعي بضرورة البقاء ، وعلى الشاطئ الآخر يرى كثيرون من الباحثين المهتمين والمهمومين أيضا بدراسة الثقافات البدوية وطبائع أيديولوجياتهم التي تتميز بقلة الصبر على البقاء والافتقار إلى إقامة حضارة مدنية تتمع بالثبات النسبي نظرا أو لنتيجة منطقية مفادها أن تلك القبائل لم تنتظم جغرافيا في بقعة واحدة مما يمكنها من إقامة مدائن قائمة مثل النوبة على سبيل المثال في مصر .

وخير دارس للثقافات البدوية وما ارتبط بها من إحداثيات مدنية هو المفكر العربي الأصيل شاهد عصره ابن خلدون الذي مكَّن لعلم الاجتماع التنظير المناسب والتأطير الدقيق لكافة المظاهر الاجتماعية . وعليه فإن ما خطه في مقدمته ذائعة الصيت تعد تفسيرا دقيقا وعلميا لثقافة البدو أو القبائل البدوية على سبيل الدقة والتحديد في علاقتهم بالبحر ذلك المجهول الذي ينبئ بالخير والرزق بالقدر الذي يحتفظ لنفسه ـ البحر ـ بمقدار كبير وواسع من الغموض والدهشة والخطر ، والغرق أيضا .

_th_e9f31e48-bd78-48

وربما تجدر الإشارة إلى إيجاد الفارق الخطير بين امتهار المصريين القدماء المعروفين تاريخيا بالفراعنة وبين المنتسبين للقبائل البدوية التي تعاقبت على مصر بعد ذلك في ركوب البحر وتحمل أخطاره ، فبالرغم من قدرة الفراعنة الفائقة على امتطاء البحر والاجتهاد المتميز في معرفة أسراره والتصدي لمحاطره فضلا عن المهارة الفائقة في صناعة أدوات الصيد وتطوير الملاحة البحرية بوجه عام ، فإن القبائل البدوية التي توافدت على مصر بعد ذلك في حقب تاريخية متواترة ومتسارعة أيضا لم تستطع أن تتوارث هذه المهارات ، ولم تكترث باقتناص مساحات من معرفة المجهول المائي العظيم .
ويفسر ابن خلدون هذا الإحجام عن خوض البحر بموقف القبائل البدوية منه وصوبه ، وهو أنهم لم يكونوا مهرة في ثقافته وركوبه ، وأن هذه الصناعة وغيرها من الصناعات ارتبطت بشدة بالتحضر والعمران وليس بثقافة الترحال والتنقل المستمر غير المستقر ، وجدير بالإشارة أن ابن خلددون وضح في مقدمته حقيقة واضحة مفادها أن زوال الحضارة مرتبط بزوال الصنائع والصناع ، وفي نظره أن البدو هم أبعد الناس عن الصنائع لأنهم أعرق في البداوة ، وأبعد عن العمران الحضاري .

وخلافا لهذا الرأي فإن أحد الأكاديميين المعاصرين يرى أن الجزيرة العربية قبل الإسلام ، حتى وإن سيطرت عليها البداوة الظاهرة فقد سيطرت هي بدورها على العديد من المسالك التجارية البحرية التي تربطها بالمشرق الأقصى على وجه الاختصاص ، ويشير الدكتور الطاهر المنصوري إلى أن احتكار العرب تجارة مادة البخور في العصور القديمة دليل على ذلك  .

لكن شتان ما أشار إليه ابن خلدون في مقدمته عن البربر والبدو وبين إرهاصات المعاصرين عن ثقافة العرب البحرية ، فالعرب سكان الجزيرة العربية لا خلاف عليهم في معرفتهم بالبحر وأجوائه بدليل ما كان يعتزمه معاوية بن أبي سفيان من القيام بغزوة بحرية على قبرص أيام الخليفة العادل الفاروق عمر بن الخطاب لولا تدخل عمرو بن العاص وتوصيته بعدم المجازفة بذلك ، فالعرب ساكنو شبه الجزيرة العربية تمتد ثقافتهم البحرية بعمق التاريخ . لكن ما أشير إليه هنا في هذه السطور إلى تلك القبائل البدوية المتناثرة التي جاءت من أماكن شتى لتقيم بصورة متقطعة ومتفرقة تتمتع بالشتات العمراني والالتحام الكامل مع طوائف المجتمعات المدنية لاسيما دول شمال أفريقيا .

والمدهش في علاقة العرب بالبحر هو أن العرب الأوائل كانوا على صلة وثيقة به وخير دليل هجرة المسلمين الأوائل إلى الحبشة فرارا من بطش قريش وسطوة أهل مكة تجاههم ، والمعارك البحرية التي يحفظها كتاب التاريخ الإسلامي بين صفحاته ، ورغم ذلك فإن تلك القبائل البدوية التي اعتادت السكنى وسط رمال الصحراء مبتعدين عن المدنية بثقافتها المتجهة نحو العمران وتشييد مناطق الاستقرار والإقامة  لم تفكر في البحر طويلا ، وهذا ما تيقن منه العلامة ابن خلدون وإشارته بأن تلك القبائل البدوية اعتبرت ثقافة البحر ثقافة دخيلة وليست متأصلة فيها ، واستقر ابن خلدون في آرائه صوب ثقافة البدو البحرية بانتفاء وجود ذهنية بحرية لدى هذه القبائل التي انتشرت بشمال أفريقيا .
______________
ـ مدرس المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية
كلية التربية ـ جامعة المنيا
BACEL21@HOTMAIL.COM

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *