*محمود الجلنداني
ياتي كتاب (منطق ابن خلدون ) في ما يقارب من (317) صفحة مشتملا على مقدمة وخاتمة و ثلاثة عشر فصلا مقسمة الى قسمين والجدير بالذكر ان الطبعة الاولى لهذا الكتاب كانت في بغداد عام 1962.
حيث خصص الكاتب القسم الاول منه- الفصول الاربعة الاولى – للحديث عن المنطق القديم (او الارسطي ) وخصائصه والصبغة الاسلامية التي وضعها الفلاسفة المسلمين على هذا النهج مبينا موقف ابن خلدون من هذا المنهج في حين خصص الفصل الخامس للمقارنة بين رأي ابن خلدون والفقهاء في بعض القضايا الاسلامية .اما القسم الثاني من الكتاب فقد جعله المؤلف لمناقشة الطفرة الخلدونية ورأي جملة من المفكرين في اسباب هذه الطفرة والعوامل المختلفة التي اسهمت في وضع ابن خلدون لمقدمته المشهورة مبينا تاثر ابن خلدون ببعض الفلاسفة كما يعقد في الوقت ذاته بعض المقارنات بين ابن خلدون وفلاسفة اخرون .وبعد الاسهاب في الحديث عن النظرية وعواملها وراوافدها ينتقل المؤلف الى الحديث عن سلوك ابن خلدون الشخصي وارتباطه بالنظرية (السلوك والنظرية ) في حين يجعل الفصل الثاني عشر لمناقشة العلم الجديد والذي يخلص فيه الى ان ابن خلدون بعد انتهائه من وضع مقدمته المشهورة والتي اطلق عليها (علم العمران ) كان يأمل في قرارة نفسه ان علمه الجديد سوف يتوسع ويتطور وتصلح اخطاءه على يد الذين ياتون بعده من العلماء والمفكرين وهو بذلك يطمح ان تكون له ولعمله هذا المنزلة التي كانت لارسطو طاليس في المنطق !!.اما الفصل الاخير من الكتاب فان الوردي يسرد فيه وجهة نظره الشخصية حول علم الاجتماع الحديث والتي يبين فيها ان علم الاجتماع الحديث وضع في اطار يختلف عن خصوصية المجتمع العربي وان علم الاجتماع الحديث ومقدمة ابن خلدون رغم تشابههما في المنطق ومنهجية البحث الا انهما يختلفان في المصدر الذي يتغذى عليه كل منهما وبالتالي فان الحاجة الى علم اجتماع يتوافق مع خصوصية المجتمع العربي امر حتمي حسب راي الدكتور الوردي والذي استشهد بجملة من الظواهر التي تبرز في المجتمعات العربية عامة والمجتمع العراقي خاصة كظاهرة البداوة والعصبية القبلية .
يعد هذا الكتاب خروجا عن المؤلفات السابقة التي تناولت مقدمة ابن خلدون وسيرة حياته والتي كانت ترتكز في اغلب مضامينها – حسب رأي المؤلف – على المقارنة بين ابن خلدون وعمالقة علم الاجتماع الحديث ومنظريه من امثال فيكو وهيجل وميكافللي وغيرهم والتي يحاول بعض الباحثين وخصوصا العرب منهم في اثبات قدم السبق لابن خلدون في تاسيس علم الاجتماع ووضع لبنته الاولى .
يتناول الدكتور علي الوردي في هذا المصنف جانبين من جوانب حياة ابن خلدون وهما المنطق الفكري الذي سار عليه ابن خلدون عند وضع نظريته (مقدمته) المشهورة .والجانب الاخر هو العوامل المختلفة التي ادت الى ظهور مقدمة ابن خلدون الشهيرة ونحن من خلال هذا العرض لانزعم ان هذا الكتاب ومؤلفه اول من تناول هذا الجانب من حياة ابن خلدون حيث ظهرت كتابات ومؤلفات سلطت الضوء على منطق ابن خلدون الفلسفي من ابرزها الدراسة التي قدمها الدكتور محسن مهدي – باحث عراقي – لنيل شهادة الدكتوراة من جامعة شيكاغو والتي صدرت لاحقا مطبوعة تحت عنوان فلسفة التاريخ عند ابن خلدون في لندن عام 1957م عن دار George Allen &Unwin إلا ان وجه الاختلاف بين دراسة الدكتور محسن مهدي والدراسة التي يقدمها الدكتور الوردي في هذا الكتاب يتمثل في ان الدكتور محسن ذهب في دراسته الى ان ابن خلدون سار في منهجه الفلسفي على نفس النهج الذي سار عليه فلاسفة الاغريق من امثال ارسطو وسقراط والذي اتبعه العديد من فلاسفة المسلمين كالإمام الغزالي وابن رشد وابن باجه وانه بنى علم الاجتماع على نفس الاسس الفلسفية للمنطق القديم (المنطق الارسطي او المنطق الاغريقي او القديم تعطي نفس الدلالة ) بل وذهب الدكتور محسن الى القول بان ابن خلدون انما هو تلميذ لابن رشد ويسير على نفس نهج استاذته والذي هو ذاته امتداد للمنهج الارسطي .
في حين يرى الدكتور الوردي ان ابن خلدون وعلى الرغم من استخدامه للمصطلحات الفلسفية التي يستخدمها الفلاسفة السابقون الا انه يتبع منهجا فلسفيا مغايرا يرتكز على النظرة الواقعية للمجتمع الانساني ودراسته كما هو والذي ان جاز ان يعبر عنه بالمنطق الواقعي او الاستقرائي .وان الانجاز والابداع الذي قدمه ابن خلدون انما يكمن في تحرره من قالب المنطق الارسطي التنظيري .
ان عرض هذين الرأيين ليس الهدف منه ترجيح احدهما على الاخر فهذا ليس مجال لنا ولا نحن بأهل لمثل هذا الترجيح .وانما ياتي من باب إعطاء القارئ الكريم فكرة عن مثل هذه المقاربات والاراء وتشيجعا له في الوقت نفسه على الاطلاع على هذا الاصدار والبحث في ابعاده والاستفادة منه لعل الله تعالى يجعل ان تلتمع فكرة البحث والتقصي في ذهن احد القراء او الباحثين وتؤتي بعمل جديد يتناول جانبا من هذه الجوانب تكون إضافة و رافدا جديدا للمكتبة العربية والفكر العربي المجتمعي والذي ربما يتوج بالارتقاء الى الانساني ويترجم الى لغات عدة.
سنتوقف في هذا العرض البسيط عند نقطتين من جملة النقاط التي تناولها الدكتور الوردي في كتابه وهما :
1.ابن خلدون والمنطق القديم او الارسطي
2.ابن خلدون والفقهاء
حيث سلط الكاتب الضوء على جانبين مهمين في الفكر الخلدوني ربما لم ياخذا حظا كبيرا من الاهتمام اسوة بالجوانب الاخرى مثل نشأة ابن خلدون وسيرته ….الخ ولانزعم في الوقت ذاته اننا من خلال هذا العرض قد اوفينا الجانبين حقهما وانما هي اشبه ما تكون بتوجيه النظر واسترعاء الانتباه اليهما.
• ابن خلدون والمنطق الارسطي :
استكمالا لما سبق الاشارة اليه حول الاراء المتباينة في المنطق الفلسفي اوالمدرسة الفكرية التي ينتمي اليها ابن خلدون نجد ان الدكتور الوردي يخصص احد فصول كتابه (منطق ابن خلدون ) لمناقشة موقف ابن خلدون من المنطق الارسطي او الاغريقي او القديم السائد بين فلاسفة العرب والمسلمين والذي يخلص فيه الى انه رغم استخدام ابن خلدون لادوات المنهج القديم – الظاهر للوهلة الاولى – لدى البعض الإ ان وجه الاختلاف بين المنهج الخلدوني والمنهج القديم يبرز جليا في نظرة ابن خلدون الى الصورة المادية الواقعية –المتغيرة للظواهر (وهو ما يشترك فيه مع علماء العصر الحديث )وليس النظرة المطلقة المجردة والثابتة التي سار عليها الفلاسفة السابقون كما ان ابن خلدون يقر بامكانية الجمع بين الضدين حيث يراى ان اي ظاهرة من الظواهرقد تشمل الجانبين السلبي والاجابي معا (الخير الذي يكون فيه بعض الشر ) ويدلل على رأيه بظاهرة العصبية القبلية والبدواة بينما نجد ان المنهج الارسطي (قوانين الفكر – قانون عدم النقض ) بقضي بان الشي له صورة واحدة اما حسنا او قبيحا وبذلك يكون ابن خلدون قد خرج عن منظومة المنطق القديم .
• ابن خلدون والفقهاء:
لى الرغم من ان ابن خلدون قد نشأ في كنف اسرة متدينة ونهل من مختلف علوم الشرع سواء من داخل الاسرة او خارجها الا اننا نجده بعض الوقفات يختلف فيها مع نهج العامة من الفقهاء حيث نراه انه يهمل الكثير من الاحاديث التي يصل الحد في بعضها الى التواتر التي لا تنسجم مع محتوى نظريته ولا يتوانى في الوقت ذاته عن التقاط الحديث الواحد ولو كان غريبا طالما انه يتوافق مع رايه ليستند عليه ويعزز به موقفه في الاستشهاد . ومن الامثلة على ذلك راي ابن خلدون في الزراعة حيث يرى ابن خلدون ان الزراعة مهنة المستضعفين وطلاب العافية وانها تؤدي باصحابها الى الذل وما يتبع ذلك من خلق المكر والخديعة !! ويستدل على ذلك بحديث ورد في صحيح البخاري جاء فيه ان النبي (صلى الله عليه وسلم ) دخل دارا من دور الانصار في المدينة فراى سكة محراث فقال (ما دخلت هذه دار قوم الا دخلهم الذل ).وفي ذات الوقت يعرض عن الاحاديث الكثيرة التي وردت في مدح الزراعة والحث عليها كما نرى ان ابن خلدون قد نسي او تناسى ان كبار الصحابة من امثال عمر بن الخطاب وعلي ابن ابي طالب رضي الله عنهما قد اشتغلا بالزراعة !!.
والمتصفح لهذا الكتاب يجد مواطن متعددة ومواضيع مختلفة يخرج فيها ابن خلدون عن السياق المتعارف عليه بين اغلبية الفقهاء ومن ابرز هذه المواضيع (احقية قريش بالخلافة – طاعة السلطان – وثورة الحسين ابن علي سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم .
في نهاية الكتاب يركز المؤلف على نقطة مفادها ان اراء ابن خلدون ليست كلها صحيحة او مقبولة قبولا مطلقا وان الكتاب جاء ليسلط الضوء على المسار الفكري لابن خلدون وثورته على الدارج من الطريقة الفكرية التي كانت سائدة في عصره فابن خلدون على الرغم من الشطط او (بعبارة اخف )المبالغة في بعض الاراء نجده – بحسب رأي المؤلف – يكرس نظرته الى استقراء الواقع في دراسة الظواهرالمجتمعية آخذا بعين الاعتبار المعطيات الحاضرة عندتشخيص ظاهرة ما و وصف العلاج لها .لذلك نجد ان من ابرز سمات ابن خلدون الفكري هي نظرته الى الظواهر على اعتبار انها تخضع لتطور المجتمع وتغييراته (ديناميكية المجتمع) فلايوجد شي قبيح بذاته ولا حسن بذاته وانما هي حركة النمو المجتمعية والتطور التي تضع طابع الدمغة من الحسن او القبح او التمجيد او الازدراء ….وان المنهج الخلدوني في دراسة وتحليل الظواهر المجتمعية – رغم ما به من عيوب – هو الاكثر ملائمة للمجتمع العربي لذلك فان نشوء علم اجتماع يراعي الخصوصية المجتمعية العربية امر ضروري ولا غنى عنه .
______
*جريدة عُمان