**د. ماهر شفيق فريد
«أشجار برتقال مراكش: ابن خلدون وعلم الإنسان» كتاب جديد من تأليف ستيفن فردريك ديل، صدر عن مطبعة جامعة هارفارد الأميركية، يتيح لنا أن نرى هذا المفكر العربي من منظور غربي.
لقد نظر إلى عبد الرحمن بن خلدون (1332م – 1406م) صاحب «المقدمة» من زوايا عدة. عد أول عالم اجتماع في التاريخ، ورائدا للقومية العربية، وعالما تقليديا من علماء الدين حاول تفسير التاريخ في ضوء مبادئ الفقه، وعالما أنثروبولوجيًا سبق زمانه، وصاحب منهج في كتابة التاريخ لا يخلو من لمسات صوفية. بل عده البعض مرهصا بماكيافيلي وفيكو ومنتسيكو وهيجل وكونت وماركس ودوركايم وبريتو وتونبي، ولما كان من المستحيل التوفيق بين هذه الأقطاب، فلا بد أن أغلبها خاطئ، كما يقول روبرت إروين في عرض لهذا الكتاب الجديد بـ«ملحق التايمز الأدبي» في 1 أبريل (نيسان) 2016.
إن «مقدمة» ابن خلدون كتاب صعب جزئيا؛ لأنه عكف على وضعها سنوات طويلة، ومن ثم جاءت مشوبة بالتكرار والافتقار إلى الاتساق. وأسلوبه العربي يفتقر إلى السلاسة؛ فالمرء لا يقرؤه من أجل الاستمتاع به وإنما من أجل محتواه. ولم يكن متسقا دائما في استخدام مصطلحاته أو حتى في منهجه. وينطبق عليه ما قاله الروائي الأميركي سكوت فتزجرالد، مؤلف «جاتسبي العظيم»، في سياق آخر: «إن محك الذكاء الذي من الطبقة الأولى هو قدرته على أن يجمع بين فكرتين متضادتين في الذهن نفسه، ومع ذلك يظل قادرا على أن يمارس عمله». فابن خلدون يجمع بين أكثر من فكرة متناقضة. أضف إلى ذلك أنه لكي نفهم السياق الثقافي لمقدمته يتعين أن نكون على معرفة بأسرار السياسة في شمال أفريقيا والأندلس في عصره، وأن نلم بأفكار الطوائف المختلفة من معتزلة وإسماعيلية وأتباع المذهب المالكي، وغيرهم.
سبق لديل أن أخرج في 2004 كتابا عنوانه «حديقة الفراديس الثمانية: بابور وثقافة الإمبراطورية في وسط آسيا وأفغانستان والهند 1483 – 1530». وفي ذلك الكتاب رسم صورة جذابة للإمبراطور المغولي بابور. ولكنه هنا لا يبدو منجذبا إلى شخصية ابن خلدون؛ فالانطباع الذي يولده كتابه الجديد هو أن هذا الأخير كان صلفا متزمتا متشائما.
ثمة عشرات – بل ربما مئات – من الدراسات التي تقرأ ابن خلدون من منظورات مختلفة. أما ديل فينظر إليه على أنه في المحل الأول فيلسوف ينتمي إلى الموروث الإغريقي – الإسلامي. والمنهجية الكامنة وراء مقدمته لتاريخ العالم إنما تدين بالكثير لأرسطو وجالينوس، وقد مرا من خلال مصفاة الفارابي وابن سينا وابن رشد، وغيرهم من فلاسفة الإسلام. ولأنه قد أخذ الكثير من الفلسفة اليونانية فقد اهتم به الكثير من مفكري الغرب؛ لأنهم وجدوا أنفسهم على ألفة بالموروث الفلسفي الذي يمثله.
ومن الصعوبات التي تواجه دارس ابن خلدون أنه لم يضع أوراق منهجه على المائدة بوضوح، بمعنى أنه لم يقرر الأصول النظرية التي تهدي إلى أحكامه الجزئية. بل إنه كان – مرارا وتكرارا – يهاجم الفلسفة والفلاسفة. والفصل السادس من «المقدمة» يشتمل على دحض لأقوال الفلاسفة وبيان لفساد فكر المشتغلين بها ودارسيها. على أن هذا، بطبيعة الحال، قد لا يعني أكثر من أنه كان يرفض فلسفات معينة. والواقع أنه تمثل مصطلحات الفلاسفة، ولكنه لم يستخدم منهاجهم، ولا يبدو أنه كان يعد نفسه جزءا من الموروث الفلسفي الإغريقي. أضف إلى ذلك أن فهمه لأرسطو كان مختلفا إلى حد كبير عن فهمنا لهذا الأخير.
وعندما كان ابن خلدون يركز اهتمامه على أغلاط سابقيه – خصوصا المؤرخ المسعودي من القرن العاشر الميلادي – فإنه كان يعتمد على المنطق العادي السليم أكثر مما يعتمد على أي نموذج نقدي فلسفي، وكان يعتنق نظرية دائرية متشائمة مفادها أن القبيلة – التي تستمد قوتها من مبدأ العصبية – ترسخ أقدامها في البداية، ولكنها ما إن تستقر وتتحول إلى ملك حتى تشرع في الاضمحلال، ولا يقدر للأسر المالكة التي قامت على أساس قبلي أن تعيش أكثر من ثلاثة أو أربعة أجيال. (يتذكر المرء هنا رواية الروائي الألماني توماس مان «آل بود نبروك» التي تصور اضمحلال أسرة عبر الأجيال). وتتكرر هذه الدورات عبر التاريخ. ولا شك أن مبعثها هو التصور الشائع للحياة العربية التي كانت في صدر الإسلام تتسم بالتقشف والصلابة في البادية، ثم تحولت مع الزمن إلى النعومة والترف مع استبحار العمران وسكنى المدن وانغماس كثير من الخلفاء والأمراء في الملذات.
على أن المرء لا يعدم أن يجد في «المقدمة» ومضات من الوضوح والمنطق والتوازن الذي يتسم به الفكر الإغريقي وإن شابها أحيانا استسلام للأساطير.
ويوجه ديل النظر إلى استبصارات ابن خلدون العميقة، مثل مقارنته بين العمران البدوي والعمران الحضري. ولكنه يعجب من إغفاله وقائع تاريخية مهمة مثل الموت الأسود (الطاعون) الذي أهلك كثيرا من أقاربه ومعلميه. ثم إنه في كل كتاباته يغفل ذكر معاصريه فلا يذكر سوى فيلسوف واحد منهم.
ويقدم الكتاب صورة واضحة لتقلبات حظوظ ابن خلدون السياسية والحياتية والأكاديمية، وما مرت به من صعود وهبوط، في شمال أفريقيا والأندلس ومصر (التقى مثلا بالإمبراطور التتري المخيف تيمورلنك) وهو ما سجله الروائي المغربي ابن سالم حميش في روايته «العلامة» (2001) فليرجع إليها من أراد أن يرى ابن خلدون بعيني أديب من المغرب تربطه بموضوعه أوثق الصلات. أو – إذا أردت أن ترجع في الزمان قرابة ستين عاما – فاقرأ كتاب الباحث المصري أحمد رشدي صالح «رجل في القاهرة» (1957) الذي يروي – بأسلوب قصصي – سنوات ابن خلدون حين كان قاضيا شرعيا في مصر، وبها كانت وفاته.
____
*الشرق الأوسط