*محمد الأسعد
تظل «مقدمة» عبد الرحمن ابن خلدون المغربي/ الحضرمي (1332-1405)، علامة بارزة على طريق الفكر العربي بخاصة، والفكر الإنساني بعامة، بحيث يمكننا القول إن هذا الجهد الفكري الذي ظهر في القرن الرابع عشر الميلادي، بوصفه علماً مستقلا أطلق ابن خلدون عليه تسمية «العمران البشري والاجتماع الإنساني»، مازال منهجهُ العلمي يتقدمنا ببضعة قرون.
المطلّعُ على هذه «المقدمة» لن يشكّ أنها استشرفت أفقاً أبعدَ من أفق زمنها، وإن أعاد الكرّة ونظر إليها في ضوء حاضرنا العربي، لن يشكّ أيضاً أنها تستشرف زمناً أبعدَ من زمننا. وما ذلك إلاّ لأنها تبدو غريبة في عصرها، وتواصل غربتها الآن عن عصرنا، وتمضي لتنتمي إلينا، ربما حين نصل إلى مستوى يؤهلنا لإدراك فتوحاتها في اتجاهات تكشف عن وجوه جديدة لها كلما أوغلت المعرفة الإنسانية في مجاهل الوجود.
يشهد هذا العامُ مرورَ ستة قرون ونيف تقريباً على ميلاد هذا الأثر الفريد من نوعه، ومع ذلك يتجدّد حضورُ صاحبه وكتابه هذا كلما ظهرت عبقريات عربية قادرة على قراءة ابن خلدون، واكتشاف ما استغلق من فكره، أو ما أُهمل وتم طمسه بسبب عطالة عصور الظلام، أو بسبب ما نال البصائر من انحراف بتأثير طغيان الفكر الخرافي والأسطوري.
سنبدأُ من رؤيتهِ للعمران البشري والاجتماع الإنساني، ذاك الذي يتضمن ما يلحقه من العوارض والأحوال لذاته، أي أنه يتغيّر ويتدرج بفعل ديناميكيته الخاصة به. ولأنه كذلك، فإن حقيقته هي حقيقة تاريخية؛ عمران واجتماع في نطاق التاريخ، وبمقتضى قانون أساسي من قوانين التاريخ هو: «أن كل حادث من الحوادث، ذاتاً كان أو فعلا، لابد له من طبيعة تخصه في ذاته، وفيما يُعرض له من أحواله». يقتضي هذا بالطبع أن يكون الخبرُ عن الاجتماع الإنساني، عمران العالم، وما يعرض لطبيعته من الأحوال مثل التوحش والتأنس والعصبيات وأصناف التغلبات، صحيحاً لا كاذباً، وحقاً لا باطلا.
الصحةُ حجر الزاوية في بناء التاريخ كما نتصوره، والذي هو في حقيقته خبرٌ عن الاجتماع الإنساني. ومن هنا كانت الأهمية البالغة التي يوليها ابن خلدون للفصل في قضية الخبر، وفي تحديد أسباب الكذب التي تتطرق إليه. ويمكن أن ندرك أهمية هذا الفصل إذا تذكّرنا أن أي رؤية للتاريخ لا تقوم على معطيات صحيحة من ناحية المبدأ، لن تتجاوز بنا إلى نظرية ذات جدوى في تفسير ونشوء وتطور المجتمعات الإنسانية، بما فيها مجتمعاتنا الأشد حاجة في الأزمنة الراهنة إلى التفسير العلمي بعد أن أفقدها التفكير الخرافي وطرائقه الاتجاه السليم، بل وسحب الأرض من تحت أقدامها، وعلقها في الفراغ، محاطة بالتعاويذ والهلوسات.
هذه قضية إبستمولوجية أساسية، كما اعتاد معلمو الفلسفة العرب قول هذا، أي قضية أسس المعرفة، قبل أي بحث في تجليات هذه المعرفة. أو هي باختصار، وبعيداً عن تعمية المصطلحات، الإجابة عن الأسئلة الأولية الجوهرية الثلاثة: ماذا نعرف؟، وكيف نعرف؟، وبماذا نعرف؟، وهو ما يعني بحث وإيضاح ثلاثة مفاهيم على التوالي هي؛ الموضوع (ماذا نعرف؟) والمنهج (كيف نعرف؟) والأداة (بماذا نعرف؟).
ويجيب ابن خلدون عن هذه الأسئلة الأولية في الكتاب الأول من «المقدمة» باختصار، حين يبحث في أسباب الكذب الذي يتطرق للخبر في الصفحات من 35 إلى 38، ثم يستفيض في الإجابة عبر صفحات المقدمة اللاحقة.
موضوع المعرفة لديه واضح، إنه الاجتماعُ الإنساني أو عمران العالم، او كما اصطلح عليه حديثاً «الحضارة الإنسانية». بعض الباحثين اعتبر ابن خلدون مبدع علم التاريخ، وبعض آخر منحه امتياز مبتكر علم الاجتماع، وآخرون نظروا إليه نظرتهم إلى مبتدع لعلم الاقتصاد السياسي، واطّلعتُ قبل سنوات على اكتشافه كمخطط ومهندس مدن تتجاوز جدة أفكاره أفكار المعماريين المعاصرين، على يد المعماري مخطط المدن الفلسطيني د. سابا حورج شبر (1923-1968 ). كل هذا صحيح بالطبع، ويمكن البرهنة عليه في ضوء عمله في «المقدمة»، ولا ينفيه اعتباره الأب الشرعي لعلم الحضارة الإنسانية، وهو الأقرب إلى الصواب، لأنه علم يستغرق في مباحثه جملة من العلوم؛ الاجتماع والتاريخ والأناسة والفنون والمعمار والاقتصاد وتخطيط المدن والسياسة.
كيف نعرف، هو السؤال التالي في الأهمية، وتليه الأداة، أي بماذا نعرف، وفي هذا النطاق ينبسط الجواب في تمييز الحق من الباطل والصدق من الكذب والحقيقي من الوهمي والزائف.
يعدد ابن خلدون أسباب الاختلاف والكذب والتوهم، وهي طوائف إن طافت بذات أو فعل، قوضت الأساس المعرفي لهذا العلم الذي ابتدعه. وهذه الأسباب هي:
أولا، التشيّعُ للآراء والمذاهب، وهو أمرٌ إذا ألمّ بالنفس وجعلها تتشيّع لرأي أو نحلة، قادها إلى قبول ما يوافقها من الأخبار لأول وهلة، أي إلى قبول ما تهوى مهما كان بعيداً عن الحقيقة. الميل والهوى غطاءٌ على عين وبصيرة النفس عن الانتقاد والتمحيص، وتسهيل، ليس لقبول الكذب فقط، بل ونقله أيضاً. أما إذا كانت النفس على الاعتدال في قبول الخبر أعطته حقه من التمحيص والنظر حتى تتبين صدقه من كذبه.
ثانياً، الثقة بالناقلين، وهو أمرٌ شائع، وهي ثقة تحتاج إلى التمحيص قبل كل شيء، لأن الناقل، حتى لو كان أميناً، قد يذهل عن المقاصد، فلا يعرف القصدَ بما عاين أو سمع، فينقل الخبر على ما في ظنه وتخمينه فيقع في الكذب. وأعتقد أن ابن خلدون يتحدث هنا عن مستوى الناقل «المعرفي»، وهو أمر لا يتعلق بالنزاهة والأمانة، فقد يكون الناقل أميناً ونزيهاً، إلا أن تعبيره محدّد بمستوى معرفته، وقد يكون هذا المستوى متدنياً لا يستحق علم صاحبه الثقة، وقد يكون رفيعاً جديراً بالثقة. وهنا أمر آخر أيضا؛ لا فائدة من التمحيص المعتاد القائم على ما يسمى الجرح والتعديل فيما ينقله الرواة، أي فحص سلسلة الإسناد، في الإخبار عن الواقعات، إذا لم يسبقه علم بأن ذلك الخبر في نفسه ممكن أو ممتنع. وعند ابن خلدون يقوم الإمكان والامتناع على أساس معرفة طبائع العمران، وعلى أساس تأويل اللفظ الذي يقبله العقل.
ثالثاً، الجهل بتطبيق الأحوال على الوقائع لأجل ما يداخلها من التلبس والتصنع، فينقلها المخبر كما رآها، وهي بالتصنع على غير الحق في نفسه.
رابعاً، تقرّبُ الناس في الأكثر لأصحاب التجلّة والمراتب بالثناء والمدح وتحسين الأحوال وإشاعة الذكر بذلك، فيستفيض الإخبارُ بها على غير حقيقة، فالنفوس مولعة بحب الثناء، والناس متطلعون إلى الدنيا وأسبابها من جاه أو ثروة، وليسوا في الأكثر براغبين في الفضائل ولا متنافسين في أهلها.
خامساً، الجهلُ بطبائع الأحوال في العمران، وهذا أكثر الأسباب أهمية، لأن الجهل بطبائع الأحوال في العمران، أي الجهل بأن «كل حادث من الحوادث، ذاتاً كان أو فعلا، لابد له من طبيعة تخصه في ذاته وفيما يعرض له من أحواله» يؤهل الإنسان لتقبل الإشاعة والأخبار الصادرة عن الأهواء، وكل ما تلهج به الأساطير.
الطبيعة التي تخص الذات أو الفعل أمرٌ يتكرر ذكره عن ابن خلدون، إلى درجة تدفع إلى القول أنه جعل هذا الأمر معياراً أساسياً من معايير الحكم على صحة المعطيات أو زيفها. الطبيعة لديه هي «المجرى الطبيعي للأشياء». وحين ينتقد خرافة تمثال الزرزور الذي في «روما»، ذلك الذي تجتمع إليه الزرازير في يوم معلوم من السنة حاملة للزيتون، كتفسير لكيفية حصول أهل «روما» على زيت الزيتون، ينكر الأمر بسبب بعده عن «المجرى الطبيعي في اتخاذ الزيت»، ذلك الذي تقضي قوانين الطبيعة أن يُستخلص من ثمار شجرة الزيتون بعد زراعتها وتنميتها في مناخ محدد وفي سياق زمني معلوم، لا من زرازير وهمية تحج إلى تمثال زرزور.
ويعود إلى هذا المعيار مرة أخرى حين يجعل قانون تمييز الحق من الباطل، في الإخبار عن الواقعات بالإمكان والاستحالة، هو النظر في الاجتماع البشري وتمييز ما يلحقه «من الأحوال لذاته وبمقتضى طبعه» و«ما يكون عارضاً لا يعتد به، وما لا يمكن أن يعرض له». ويرد هذا المعيار أيضاً في تعريفه لعلمه المستقل هذا، العمران البشري.
ويبقى السؤال الثالث الخاص عن أداة المعرفة. والجواب عند ابن خلدون يصبح مفهوماً ضمناً، فالأداة هي العقل في تمييز الممكن من المحال أولا، ثم التمييز في نطاق الممكن بين الإمكان العقلي المطلق والإمكان المقيد بالظواهر المتشخصة بمادتها الطبيعية ثانياً. إنه لا يأخذ بالإمكان العقلي الذي لا تضبطه الطبائع والسنن الطبيعية. إنه، بتعبيره، يستضيء بمعرفة «أن لكل حادث من الحوادث، ذاتاً كان أو فعلا، طبيعة تخصه في ذاته وفيما يعرض له من أحواله».
إذاً، الإمكان العقلي المقصود هو الإمكان المنضبط بالمعرفة، المعرفة «بطبائع الحوادث والأحوال في الوجود ومقتضياتها». ومن المهم الإشارة إلى أن التأكيد هنا ينصرف إلى المعارف العلمية، إنسانيات كانت أم طبيعيات، وهو ما يظهر بوضوح حين يفند حكاية اتخاذ الإسكندر صندوقاً زجاجياً غاص فيه إلى قعر البحر، وكان أهم قادح لديه في هذه الحكاية هو ما أورده من معطيات من علم الأحياء والفيزياء، بالإضافة إلى ملحوظاته حول نفسية الحاكم. أما تفنيده لوجود مدينة النحاس الخرافية، فاستند إلى علوم العمارة والجغرافية والمعادن.
إن معرفة طبائع العمران لدى ابن خلدون مصدرها العلوم الإنسانية والطبيعية، لا الخوارق والأساطير والتنجيم.. أو الحظ والمصادفات.
_____
*الخليج الثقافي