الطاهر مكي يرصد المصادر الأجنبية لأدب مي زيادة

*صلاح حسن رشيد

«أخذت مي من جبران خياله، ومن العقاد عقله، ومن طه حسين دأبه، ومن شبلي شميّل ذكاءه، ومن مصطفى عبدالرازق أخلاقه، ومن الحياة رومانسيتها الحالمة» (المازني).

لم تُفاجِئ مي زيادة (1886-1941) الأوساط الفكرية المصرية والعربية، عندما أطلَّت عليها بحضورها الأخّاذ فقط، ولا بجمالها الطّاغي، ولا بثقافتها الموسوعية، ولا بآرائها التجديدية، ولا بتسيُّدها منابر الرجال، واعتلائها منصّات المحاضرة، والدرس، بل، على العكس، كانت مي مجموعة متشابكة من الجمال، والعبقرية، والتفوق في فكرها، بل في شعورها، وذلك هو أعظم النبوغ، وأعلاه. وفي هذه الآونة، تمر 130 عاماً على مولدها، وهذه مناسبة تحضنا على مطارحة فكرها، والاحتفاء بها. فعندما استقرت مي في مصر في عام 1907، كانت صاحبة ثقافة واسعة، ولديها إلمامٌ تام بالآداب الغربية، وكانت آلتها الفكرية، والأدبية قد نمت، وترعرعت، وآتت أكلها. كانت ثقافة مي الرفيعة، تنبع من ثلاثة روافد هي: الفرنسية، والإنكليزية، والإيطالية، وكان لديها إلمام بالأدبين الألماني والإسباني.

تحت عنوان: «المصادر الأجنبية لأدب مي»، يقول الدكتور الطاهر أحمد مكي، في كتابه «في الأدب المقارن دراسات نظرية وتطبيقية»: «ثمة جانب لا يقل أهمية في حياة مي، وأعني به المصادر الأجنبية لأدب مي وثقافتها: ماذا عرفت من لغات، وإلى أي حد أجادتها…».

كان أول لقاء لمي مع اللغات الأجنبية في سن مبكرة جداً، ولا نعرف متى بدأت تتعلم الفرنسية، ولكنها تذكر لنا أنها قرأت للمرة الأولى، وهي في سن العاشرة من عمرها قصة «أبرص بلدة أووستا» باللغة الفرنسية، وهي بقلم إكزافييه دي ميستر، وأُعجِبت بها. وفي مدرسة راهبات عينطورة في لبنان التي أمضت أربع سنوات فيها، ثم انتقلت إلى مدرسة الراهبات اللعازريات في بيروت، وأمضت فيها عاماً، عادت بعدها إلى الناصرة في فلسطين، حيث يقيم أبواها. كانت لغة التعليم في مدارس الإرساليات الكاثوليكية هي الفرنـسيـة، وإلى جـوارها يدرسون شيئاً من اللاتينية، ثم الإيطالية، أو الإسبانية.

كان ديوانها الأول (زهرات حلم) باللغة الفرنسية، وصدر في القاهرة عام 1911. ويتجلى تأثر مي واضحاً باثنين من كبار شعراء الرومانسية الفرنسية، أولهما: لامارتين، وكان ذا طبيعة مثالية، رقيقة ونبيلة والآخر: ألفردو موسيه، وكان متقد الذكاء، خيالياً ساحراً.

إلا أنها تأثرت أيضاً بإثنين من أعلام الرومانسية الإنكليزية، هما: اللورد بايرون، وشيلي، وتأثرها بهما كان من طريق الترجمة إلى الفرنسية. بعد هذا الديوان، لم تعد مي تكتب بالفرنسية إلا بعض المقالات والتعليقات بين حين وآخر، وإنما اتخذت من العربية أداتها. لكن مي بعد أن تركت الفرنسية لغة أداء، لم تتخلَّ عنها لغة تثقيف، فنجدها معجبة بالقاص الفرنسي بيير لوتي (1850-1923) وتأثرت مي في كتابة الرسائل بمدام دي سفينييه (1626-1696).

كما قرأت كتاب (التأملات) لفيكتور هوغو. وعرفت مي المستشرق الفرنسي كليمان وار (1854-1926) وكتابه «تاريخ الأدب العربي» الذي صدرت طبعته الأولى في باريس عام 1902، ولمّا يترجم إلى العربية بعد، وقد اتكأ عليه أحمد حسن الزيات في كتاب له حمل العنوان نفسه. كان الرافد الثاني في ثقافة مي هو اللغة الإنكليزية، وبدأت دراستها بعد وصولها إلى مصر. ونلتقي بها متمكنة في هذه اللغة، تكتب بها المقالات في جريدة «الإجيبشيان ميل» اليومية بتوقيع «خالد رأفت»، وفيها دخلت في مناقشة حامية وطويلة شغلت عدة مقالات بين أخذ ورد حول المجمع اللغوي، والحاجة إليه، ومهمته، واللغة العربية ورقيها، لزمت فيها جانب اللغة العربية في مواجهة سبيرو بك، وكان إنكليزياً من دعاة العامية في مصر.

أما المصدر الأخير، فهو الأدب الإيطالي، ويرجِّح الطاهر مكي أنها كانت تعرف الإيطالية بقدر كافٍ، لأن من يدرس اللاتينية، ويجيد الفرنسية، لا يحتاج إلى كبير عناء، لكي يقرأ الإيطالية، ويتمثل أدبها، فهي تقص علينا في مقال لها بعنوان «تكلموا لغتكم» أنها دخلت مكتبة صغيرة في القاهرة، لبيع الكتب الإيطالية، لتشتري منها بعض أعمال جبرائيل دانزنتزيو، فإذا بصاحب المكتبة يقدم لها مؤلفاته بالفرنسية، فردَّتها، وطلبت منه مؤلفاته الإيطالية الأصلية، لا المنقولة، فسألها عمَّ إذا كانت تريدها لنفسها أم لغيرها؟ فأجابته: بل أريدها لنفسي. فسألها: إذاً تعرفين الإيطالية؟ فردَّت عليه: نعم. كما تعرف مي شاعراً إيطالياً آخر، كان معاصراً لجبرائيل، هو كاردوتشي (1836-1907). فقد تعمَّقت في أدبه، ووصفته في دقة، بأنه صاحب موهبة شعرية ونقدية. وكانت مي، في ما يذكر توفيق الحكيم في كتابه «وثائق من كواليس الأدباء» أول من اكتشف في رسالة بليغة وجهتها إليه في 11/7/1934 لمناسبة صدور مسرحيته «أهل الكهف»، الصلة الفنية والفكرية التي تربطه بالكاتب المسرحي بيرانديللو (1867-1936) وهو من أخصب الكُتّاب الإيطاليين إنتاجاً، وحاز جائزة نوبل للآداب عام 1934، وظل يُعَدُ لفترة غير قصيرة مُجَدِدَ المسرح الغربي كله.

أما عن اللغة الألمانية، فقد تعلمتها مي في القاهرة في شتاء عام 1910 على يد سيدة بروسية، وربما شدَّها إلى الألمانية، أنها حفلت على امتداد القرنين الثامن عشر، والتاسع عشر بجمهرة من خيرة المستشرقين. وليس من قبيل المصادفة، أن الرواية الوحيدة التي اختارت أن تترجمها من الأدب الألماني إلى العربية هي «الحب الضائع» للمستشرق مكس موللر (1823-1900). فقد صادفت الرواية في أعماقها مزاجاً رومانسياً، وبدأت تتمرس بالألمانية من طريق الترجمة، ومع أن مفرداتها كانت محدودة، فقد كانت تكتفي بأن تحيط بالمعنى العام، وبعد الترجمة، رأته ليس حباً ألمانياً فحسب، وإنما خلاصة بسمات الإنسان وعبراته، فسمَّته حين نشرته عام 1912 «دموع وابتسامات». لكنها بعد أن تمكنت من الألمانية، أعادت ترجمته متقيدة بالأصل معنى وتعبيراً، وصدرت طبعته الثانية في عام 1921.

يرى الطاهر مكي أن علاقة مي باللغة الإسبانية، كانت متواضعة، فقليلاً ما نقع في أعمالها على اسم لكاتب، أو شاعر إسباني، باستثناء استبيان منويل دي فيغاس. ونجدها تقارن في دراستها عن عائشة التيمورية بينها، وبين مارية تيريسا دي أبلة (1515- 1582) وكانت شاعرة عظيمة، وتقية متصوفة. ومن الغريب، أننا لا نلمح أي صدى للأدب الروسي في كتابتها، ولو من طريق قراءته في لغات أخرى، على رغم أنها كتبت عن المساواة، والاشتراكية، والبلشفية، ربما لأن ما كان رائجاً منه على أيامها هو القصة والرواية، واتسما بالواقعية، وكانت هي مندفعة نحو الرومانسية، والطبيعة، وتغرق في الذات.
______
*الحياة

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *