*حازم خالد
فن التراجم والسير فن عالمي معروف في جميع ثقافات العالم، وللعرب فيه إسهام كبير فقد أغرم العرب قديمًا بمعرفة الأنساب وتتبع أخبار الوجهاء والعظماء والملوك. وألفوا عن الشعر والأدباء والفقهاء والمفسرين والمحدثين والقضاة والنحاة والفلاسفة والأطباء، فعلى سبيل المثال كتب ابن قتيبة “الشعر والشعراء” ترجم فيه لنحو 260 شاعرًا.
وفي كتاب مي زيادة “قطوف من التراجم الأدبية” نرى أسلوباً رشيقاً ولغة راقية، فقد استطاعت الكاتبة أن تعرفنا بثلاثة من أعلام الحركات النسائية في الوطن العربي، فقد كان لكل من وردة اليازجي وعائشة تيمور وملك حفني ناصف تجربة تستحق المتابعة، وفكر يستوجب أن تمعن فيه الأجيال الحالية، ومن يأتي بعدهم النظر، ليأخذوا العبرة، ويتعلموا أن مواجهة الظلم واجب والسعي نحو الرقي والتقدم مسئولية كل فرد من أفراد الأسرة الإنسانية جمعاء.
في البداية تقدم الكاتبة مي زيادة لمحة تاريخية عن الأديبة وردة اليازحي قائلة: ولدت وردة في قرية كفر شيماء من ساحل لبنان وانتقلت مع عائلتها طفلة إلى بيروت، حيث تعلمت في مدارس الأميركان الصغرى وتلقت على يد سيدة يهودية متنصرة مبادئ اللغة الفرنسية، ثم عني بها والدها فدرسها أصول اللغة في كتبه، وتوسم فيها استعدادًا للشعر فمرنها عليه بأن كان يراسلها نظمًا عند تغيبه عن المدينة ويعهد إليها في الرد على بعض مراسليه من الشعراء.
وعن ديوان “حديقة الورد” يقول جورج باز نسيب الشاعرة مناصر المرأة في سوريا إن “حديقة الورد” هو الديوان الوحيد الذي طبع ثلاث مرات لشاعر معاصر، وعلى كل منه الأثر الواحد الباقي من آداب وردة اليازحي.
وترى الكاتبة، أن كل ما نظمته الشاعرة وردة اليازحي ينقسم إلى قسمين: المدح والرثاء، ففي باب المدح يدخل شعر التقريظ والترحيب والتراسل مع أدباء العصر وأديباته. فهي تستهل حديثها بأبيات وردت بها على الشاعرة وردة ابنة نقولا الترك الشاعر. والشطر الأول من المطلع مسار في الآداب السورية مسير الأمثال وصار نعتًا للسيدة وردة وهو.
يا وردة الترك أني وردة العرب ** فبيننا قد وجدنا أقرب النسبِ
أعطاك والدك الفن الذي اشتهرت ** ألطافه بين أهل العلم والأدبِ
وتهدي إلى أمين بك سيد أحمد في الإسكندرية نسخة من ديوانها فتقول:
هذه حديقة ورد قد بعث بها ** إلى حديقة فضل في الوري عظما
سيرتها نحو غيث طاب مورده ** مشفوعة بثناء أشبه النسما
يشدو بها كل بيت في مناقبه ** حلا بوصفك نظم الشعر فابتسما
وقالت مرحبة بالأمير تاج الشهابية وقد جاءت “رأى بيروت”:
ما لي أرى الرأس في بيروت مبتسم الزهر ينبت فوق الروض أفواجًا
وتلت ماذا اقتضى هذا السرور لها قالوا رأت في أعالي رأسها تاجاً
وتقول الكاتبة: مر على “وردة العرب” طور الصبا والكهولة واستقرت العواطف بحكم الأيام وبحكم الأحزان. وسكتت الإسكندرية على مقربة من والدها فإذا بتذكارات الشباب تعاودها، فقالت في التذكار والشوق للبنان:
يا ربي لبنان حياكِ الحيا وسقي ربك هتان الغمام
يا ربوع الإنس يا دار الصفا يا جنان الخلد يا أهنا مقام
وفي رثاء أخيها نصار وقد توفي بمدينة زحلة:
يا ويح قلبي سهم أصيب به فلم يزل بدماه الجفن يختضب
مصائب لست أدري من تكاثرها فيه على أيها أبكى وأنتحب
وهذه المعنى كررته في مرثاة أختها راحيل:
قد اعتاد قلبي الحزن من صغر سنه فلم يدرِ ما طعم المسرة في العمر
فياليت كل ألسن الرثا لتعرب عن أحزان قلب بلا صبر
وفي رثاء والدها:
تكاثرت الأحزان في كبدي الحرى وزادت دموع البين في عيني الشكرا
وجارت على ضعفي الليالي وأوقدت بطني فؤادي من نوائبها جمرا
• باحثة البادية
وتشير الكاتبة إلى باحثة البادية، وهي ملك هانم كريمة اللغوي المحقق المرحوم حفني بك ناصف الذي شغل المناصب العالية في وزارة المعارف والقضاء. ولدت بالقاهرة في ديسمبر سنة 1886 وتلقت مبادئ العلوم في مدارس أولية (مكاتب مختلفة) ثم دخلت المدرسة السنية في أكتوبر/تشرين الأول 1893 وحصلت منها على الشهادة الابتدائية سنة 1900، ثم انتقلت إلى القسم العالي وحصلت على الشهادة العالية “دبلوم” سنة 1903 واشتغلت بالتعليم . وتضيف: إن باحثة البادية امرأة في جميع ما كتبت، فيحسن بي الآن المجاهرة بأنها إزاء صفاتها الأخرى مسلمة قبل كل شيء وأي مسلمة هي!
هي مسلمة إلى حد إدخال الدين في كل أمر من الأمور سياسيًا كان أو اجتماعيًا أو أخلاقيًا، حتى مسائل الأزياء والزينة والاصطلاحات والأحاديث الشفوي. إذا ما وقفت على بدعة مستحدثة ورأت أمرًا جديدًا سارعت إلى استجواب نفسها هل في ذلك ما يغاير الأوامر الدينية. وإذا ساد نظام بين القوم واستحكمت روابطه بفعل المران والاستعمال والملاءمة لشروط الزمان والمكان دون أن يكون مقررًا في نصوص الشريعة السمحاء فهي لا تحفل به كثيرًا. حتى إذا ما أرغمت على قبوله قبلت منه أقل مظاهرة ابتعادًا عن الفكرة الدينية.
وقد قالت بتعليم المرأة أصول الدين مرة بعد مرة فصرحت بمطالبها في الخطبة الأولى التي ألقتها في نادي حزب الأمة ثم جعلتها أساساً لاقتراحات قدمتها إلى المؤتمر الإسلامي المصري، وخلاصتها وجوب تعليم البنات “تعاليم القرآن والسنة الصحيحة”، وأن يباح للنساء الذهاب إلى المسجد لسماع الوعظ والخطب والإرشادات الدينية وحضور ما يقال من صلوات كنساء الأديان الأخرى من مسيحية ويهودية.
وتنتقل الكاتبة في حديثها عن باحثة البادية، فتقول: حق انتقاد تفضيل الصبي على الصبية ليس عندنا نحن الشرقيين فحسب، بل عند أهل الغرب كذلك لاسيما في هذه الأيام بعد أن فقدوا في الحرب ملايين الرجال الرجال فصاروا يطالبون الأبناء ليسدوا صفوفهم وخوفاً على البلاد من حروب مقبلات، ومن أسباب تفضيل الصبي لأنه يحفظ اسم العائلة، ومنها أن الفتاة تأخذ نصيبها من ثروة أسرتها وتعطيها لرجل غريب، بعكس الفتى الذي يزيد ثروة أبويه. المهم كل أعمال الرجل حسنات مادام “رجلاً”، وكل الذنوب جائزة تغفر له “لأنه رجل” أو مقابل ذلك كل شيء يحسب على المرأة.
تتدرج باحثة البادية “الناقدة” في سرد حياة هذه المخلوقة المسكينة فترى نصيبها من العلم قليلا، وترى الطيبات عليها حراماً لأنها “بنت” لا تصلح لغير أعمال المنزل. هذا في الصغر، أما في الشباب “فيحجر علينا حتى استنشاق الهواء النقي، في اختيار لون الثوب الذى تلبسه”.
وقد تكلمت الباحثة عن الزواج خصوصاً في فصل جعلت عنوانه “يا للنساء من الرجال ويا للرجال منهم” ملقية الخطأ على الرجل وعلى المرأة لاسيما على طريقة الزواج نفسها وحصرت شقاء الزواج وعدم الوفاق بينهما في الأسباب الآتية: جهل أحد الزوجين بالآخر، زواج مختلفي الطباع كعالم وجاهلة وبالعكس أو غنى وفقيرة ومختلفي الدين والبلد، والطمع في الغنى يغير النظر إلى الأخلاق، الزواج العشري وأخيراً، تأويل الدين الحنيف على غير ما أريد منه في أحكام الزواج والطلاق. وهذه الأسباب كلها شعب لأصل واحد وهو عدم الحكمة.
• الشاعرة عائشة تيمور
وتشير الكاتبة إلى شاعرة الطليعة قائلة: هي الشاعرة عائشة عصمت تيمور، وهي بنت إسماعيل باشا تيمور، ولدت سنة 1840 بمدينة القاهرة، بدأت حياتها تميل إلى تعلم القراءة والكتابة، وتزوجت من السيد محمد توفيق زادة، وكان ذلك في سنة 1854 فتفرغت للشئون الزوجية، ثم تاقت نفسها إلى الأدب والعلم، فاستحضرت سيدتين لهما إلمام بالنحو والصرف والعروض، فأخذت عنهما حتى برعت وأتقنت نظم الشعر، وتعلمت اللغة التركية، التي أخذتها عن والدتها ووالدها، ووضعت في الشعر ثلاثة دواوين باللغات العربية والتركية والفارسية، وألفت في النثر كتابين هما: “نتائج الأحوال” و”مرآة التأمل في الأمور”. وتتساءل الكاتبة من أين جاءت هذه الصغيرة بميلها المبكر إلى الكتب وبوراثتها الشعرية والبيانية، وميل جدها جلي لحمل سلاح الجندي دون سلاح الكاتب؟
أمر لا يتيسر معرفته إلا للذي اطلع على ما يجهله كبير الأسرة الحالي، أحمد تيمور باشا من تاريخ التيموريين قبل الهجرة إلى مصر، لذلك الفاضل أجمل أثر يحمد في تعليم ابنته والعناية بتثقيفها في عصر ضنين على النساء بالتعليم والتثقيف، وإن عائشة لتذكره دواماً بالشكر والامتنان، وترثيه بعد وفاته بقصيدة ملأى بالعبرات:
أبتاه قد حش الفراق حشاشتي ** هل يرتضي القلب الشفوق جفائي؟
يا من يحسن رضاه فوز بنوتي ** وعزيز عيشته تمام رخائي
إن ضاق بي ذرعي إلى من اشتكى ** من بعدك فقدك كافلاً برضائي؟
ليس هذا من مألوف الشكوى والثناء، بل هو كان لها على الدوام نصيرًا منذ الصغر في جهادها ضد والدتها التي كانت تحثها على تعاطي أشغال الإبرة.
وتضيف الكاتبة: تزوجت عائشة فانتقلت بالزواج إلى عالم جديد له ما يرافقه من حرية ومسئولية، ويخالطه من مسرات وغموم، ولقد كان يشوقنا أن نقف على وقع هذه الظرف الخطير في نفسها، وأن نستشف اللون الذي بدت لها الحياة بعد أن اختلفت في بعض جوهرها عن حياتها في بيت أبيها.
وفي ختام حديثها عن شاعرة الطليعة عائشة تيمور تقول الكاتبة مي زيادة: منذ خمس وثلاثين سنة طلبت عاشة اشتراك المرأة مع الرجل في الأعمال ولم هذا الاشتراك؟ لأنه طبيعي “من حكم باري النسمات وموجد المخلوقات” ولأنه الأساس الأصلي “لصيرورة مدار عمران على العالم على الزوجين” إنها تقول بلغتها بالمساواة بين الرجل والمرأة: وتقول بذلك تصريحاً وتلميحاً، فوجودهما ضروريان لكل منهما للآخر، موجودان معاً تحت شمس واحدة وأحكام واحدة ليأتي كل بقسطه ومن واجبات متعادلة. لقد قالت هذا في الشروق، ورأت أن يتساوى الرجل والمرأة وأن يشترك كل في الأعمال.
يشار إلى أن كتاب “قطوف من التراجم الأدبية: لمي زيادة صدر في طبعته الجديدة عن وكالة الصحافة العربية بالقاهرة ويقع في 372 صفحة من القطع الكبير.
______
*ميدل إيست أونلاين