خاص- ثقافات
يتناهى إلى أسماعكِ خرير نبع طري، وصوت هادئ حازم يؤنب شبحا كتفه على كتفه بلغة فرنسية أنيقة وكأنما مذياعا فُتح ،فجأة، على قناة أجنبية. وأنت لا مبالية تحسين أن وزنك قد خف فصرت تحلقين وسط أفق أبيض رحب بأجنحة شفيفة، ترتفعين وتنخفضين فوق تلك الأصوات الرخيمة الوسنانة المغرية بالابتعاد حتى الوصول إلى تلك الغيمة الوثيرة حيث الهواء مشبع برذاذ النعاس. استغربت رغم أن الضباب الكثيف كان يحول بينكما تردد اسمك على لسان الطبيب،وبدا لك الاسم غريبا مبهما منفصلا عن ذاتك، وتعجبت أيضا كيف أنه رفع الكلفة تماما وظل يهمس به كحبيب أو صديق حميم.وهو يمرر يديه الكبيرتين الرشيقتين على جسدك كله ليبعث فيه الدفء ثم يعتصر أكياس الدم ليضخ الحياة فيك وأنت موغلة في اللامبالاة. لماذا كان مهتما بشراسة بخلاصك رغم أنك كنت تريدين أن تتدبري الأمر وحدك. واستحليت الغوص في التلافيف البيضاء الشبيهة برغوة الحليب الساخن ،والجري نحو أبواب كثيرة تغلق وتفتح دون صخب، وأنت تصيخين السمع إلى صدى خطواتك المنفلتة منك وهي تعدو نحو نهاية هادئة مغوية بنفسجية الأفق. وكأنما كنت تحاولين النجاة بنفسك منهم جميعا. ولكن أياد كثيرة كانت تجر تلابيب هذه الليلة.ولا تتركك تتأملين في هدوء الصمت الأبيض لهذا العالم الذي سيصبح شاغرا منك دون أن يولي لذلك أدنى جزع. هاأنت مثيرة للشفقة بشكل مؤلم مجردة من كل المظاهر مثل الطفل الذي وُلد للتو لكن الخطوة الحاسمة لم تخطها بعد. هل ستنزعين هذا الثوب المعار؟ مرهِقة تبعية الروح لحسن سيرة الأعضاء..
تهز قلبك المصعد المنزل في مشقة،ثم الصاعد النازل في نزق ،غير معهود، صرخةٌ حادة صغيرة. تتمنين لو أن المحيطين بك يكونوا قد درسوا بما فيه الكفاية فيتركوا الجسدين يلتصقان لحظة كما كانا قبل هنيهة فيضعوا هذا القادم الهش فوق ركبتك المثنية أوبطنك الذي تهدل للتو.. يبقى ذلك الحرمان من تلك الرغبة ملازما لك كلما رأيت شابك الوسيم .فتفجئينه دائما بأحضانك المباغتة التي لا تملأ تلك التجويفة البعيدة داخل كبدك.
لماذا انتابتك تلك الرغبة الشديدة في الوقوف خطيبة على جماهير الموتى أنت التي كانت دائما كل أحاديثك باطنية؟ كانت كلماتك تحاول النفاذ من مكان ما لتغرق الغرفة. وكان هو يعالجها بغرزات تجميلية دقيقة، ويأمر مساعدته بحزم أن تقص ويتردد بصرهما بين ضربة المقص وعيونك التي مازالت ترفرف مستسلمة لانتظار أبدي متأكدة أن القفلة لن تأتي بهذه السرعة مثل قصة قصيرة جدا خديجة فاقدة الروح.
متى انتقل القمر من النافذة الشرقية إلى النافذة الغربية؟وكيف استطاع الكف عن مراقبة المشهد؟ هل لتلك الغيوم التي كانت تجرجر بعضها البعض دخل في الأمر؟ لا تكف الأسئلة عن التنكيل بذهنك المنفلت من الصحو. ولم كل هذه الأسئلة دون الفوز بنتفة من الطمأنينة؟
يغرز عينيه في عينيك ويقول: “الحمد لله على سْلاكة”. يقتضي المقام تلك العبارات المنهكة من فرط الاستعمال. ولكنها،في هذا المقام،وبهذا الصوت العميق حفرت داخلك وكأنها اخترعت خصيصا لك.
تغرق فرحته النقية الغرفة والممر.وتَعِين لحظتها فقط أنك مازلت حية، هزتك غرابة هذا الإحساس وكأنك لن تموتي بعدها أبدا.. ربما الجملة الأخيرة هزتك أكثر..
تسمعين الدكتور يهمس لزوجك، وهو يمد له شهادة ميلاد:
– لقد نجت من موت أدبي محقق. يبدو نصا جميلا رغم أن وزنه لم يصل الوزن الطبيعي المتعارف عليه.
__________
* أديبة من المغرب