إن الله يزرع الفردوس لأجلنا…!

خاص- ثقافات
*
وليد أحمد الفرشيشي (ديوجين)

أولئك الذّين يشككون دائما في وجود الفردوس، لا يعرفون أنّ الله نفسه زرعه من أجلهم، ذلك أنّهم لا يعرفون شيئا. لا أحد يعرف شيئا. الله وحده يعرفُ ماذا يفعلُ. والله وحدهُ يعرف لماذا خلق الفردوس قبل أن يخلق، في كتاب الغيب، روح “ريشتة”.

وهذا هو السرّ الغريب – والجميل أيضا- في أنّ “ريشتة” وهو ينزلُ من بطن أمّه في العام 1980 وتحديدا في يوم باردٍ ومطير، لم يكن يعرفُ أّنه حين يبلغ السادسة والثلاثين من عمره، سيكتشف أنّ الفردوس الذي زرعهُ اللهُ ليس خياليا تماما، ولكن لن يكون بمقدوره، لأسباب تبدو معقولة بالنظر إلى ما عاشه طيلة حياته، أن يخبر أولئك المتشككين دائما من أنّ الانكار مسألة نسبيّة تماما كالإيمان.

الغريبُ أنّ “ريشتة” وهو ينزلُ من بطنِ أمّه كان أخرسًا وأصمّا وأعمى كذلك. لكلّ ذلك خصّه أبواهُ بكلّ حنانهما، على حسابِ إخوته الثلاث. كانَ ليّنا، مطيعا، صامتا ومبتسما دائمًا وهو ما أثار حفيظة أحد إخوتهِ الذي امتلأ قلبه بالحقد والكراهية.

ولكن الله الذي نزع أغلب حواس “ريشتة” منحهُ شيئين حدّدا مصيرهُ “الفردوسيّ” فيما بعد. فقد نشأ “ريشتة” على حبّ “الرشتة” التي كانت تعدّها لها أمّه، حلوة بالزبدة والسكّر، أو حارة جدّا بالفلفل الأحمر والحمص والفول، ومنها جاء كنيته التي أطلقها عليه أخوه البغيض. أما الأمر الثاني، فكان شيئا مذهلاً، ذلك أن الفتى الأعمى والأصم والأخرس، مُنح تلك القدرة على شفاء الأمراض، بمجرّد أن يضع يده على موطن الداء.

بدأ الأمر حين بلغ الثالثة من عمره. كان “ريشتة”، الذي يكره أن يأكل أي شيء، سوى طبق “الرشتة” اللذيذ الذي تعدّه له أمه في احتمال عجيب، يتحسس خيوط المعجنات في طبقه بحبور طفوليّ، حين صرخت والدته، التي كانت منشغلة بمراقبته، والسكّين تقطعُ إبهامها. كانت الدماء، تلك الدماء التي لم يرها “ريشتة” لأنه أعمى، تتدفّق من الاصبع المقطوع، وسط عويل الأمّ التي بدت مضطربة جدّا وهي تبحث عن أي شيء تضمّد به الجرح الغائر.

ما حدث، حسب رواية الأمّ طبعا، كان معجزةً. فقد نزل الطفل عن كرسّيه واتجه مباشرة نحو اصبع أمّه، وكأنّ شيئا ما يجتذبه إلى تلك النقطة بالذات، وأمسكه بيديه الصغيرتين قبل أن يفلتهُ فجأة وقد عاد كما كان. ولولا بقيّة من آثار الدماء على الأرضيّة الخشبيّة لما صدّقت الأم أنّه منذ دقائق قليلة كانت ستفقدُ أحد أصابعها وهي تقطّع الخضر.

ولأنّ الله، وهو يسحبُ أغلب حواس “ريشتة” ويمنحهُ في المقابل حبّ “الرشتة” والقدرة على شفاء أي شيء، كان يعرفُ، على وجه الدقة، ماذا سيحدثُ فيما بعد، جرت الأمورُ بمشيئته وحدها. فلقد ذاع خبر الطفل بعد أن أخبرت الأمّ زوجها بأمر الاصبع. صحيح أنه لم يصدّق في البداية ما قالته زوجته إلاّ أنه، تحت إلحاحها الغاضب، قام بفتح جرح صغير في يدهِ، وقدمها لطفله الصغير الذي أمسكها بحبور، وكأنّ شيئا ما يجتذبه لآلام الآخرين، ليختفي الجرحُ تماما دون أن يترك أثرًا.

وأمام هذه المعجزة، فكّر الأبُ في أنّ هذا الطفل، الذي طالما اعتقدَ في أنه عقاب إلهي له على آثامه التي ارتكبها طيلة حياته، هو هديّة من السماء عليه أن يستثمرها. وطبعا، لم تمّر جلسته الأولى، بين أصدقائه، أولئك المتشككين في كلّ شيء، دون أن يحدثهم عن الأمر الخارق، وكان لا بدّ من تجربة ذلك أمامهم حتى يقتنعوا بأن الأمر لا مزحة فيه.

ومضت السنواتُ فيما بعد بـ”ريشتة” الذي أصبح في نظر النّاس قديسا حقيقيا وأبواه يحوّلان المنزل إلى مزار لكلّ ذي سقم أو داء عضال أو عاهةٍ. في تلك السنوات التي حوّلت والده إلى رجل ثريّ، بل فاحش الثراء، وأمّه إلى امرأة مهابة، يتودّد لها الفقير والغني على حد سواء في تذلل عجيب، لم يحدث أمر ذي بال، سوى أنّ إخوة “ريشتة” الثلاث، اختفوا الواحد تلو الآخر.

ولأن الأسماء لا تعني شيئا في هذه القصّة، فسنكتفي بالتأكيد على أنّ الأخ البغيض، الذي كره أن يكون صاحب العاهات أخا له، قتل نديما لهُ أظهر إيمانه بكرامات “ريشتة” الأمر الذي لم يرق للأخ البغيض الذي لعبت الخمر برأسه فطعنه في قلبه ليحمل في أصفاده إلى السجن. أما أخوه الثاني، فقد مات صغيرا دون أن يثير ذلك حزن أبويه المنشغلين باستثمار هديّة السماء، ودون أن يربك مخططات الله في خصوص “ريشتة” المعجزة. أما الأخت الثالثة، فلا شيء تسرّب حول اختفائها، باستثناء ما قالته إحدى الجارات حول هروبها مع أحد زوار البيت الذي جاء ليتعالج من شلل كان يعطب يده اليسرى.

كبر “ريشتة” وصار قديسا حقيقيا. وهكذا فيما كان أخوه البغيض يتعفّن في السجن وشقيقه الآخر في القبر وأختهُ بين ذراعي رجلٍ كانت يده اليسرى مشلولة، كان “ريشتة” يواصل مهمته بصبر أيوبي في شفاء المرضى وأكل الرشتة الحلوة بالزبدة والسكر أو الحارة بالفلفل الأحمر والحمص والفول، في الوقت الذي يكدّس فيه أبوه ثروة طائلة قيّضت له فرصة دخول البرلمان في الانتخابات التي تزامنت وبلوغ “ريشتة” سنّ الثلاثين.

وهكذا مرّت السنوات بـ”ريشتة” القدّيس إلى أن جاء اليوم الذي خرج فيه أخوه البغيض من السجن وقد أصبح شخصا آخر تماما. ففي السجن اكتشف الأخ البغيض الله وقطع مع تشككه القديم في وجود الفردوس بل واعتبر كرامات أخيه عملا من أعمال الشيطان التي يريدُ بها أن يظلّ خراف الله. ولا أحد على وجه الدقة يعرف كيف تحوّل الأخ البغيض من متشكك إلى مؤمن، إذ تختلف الرواياتُ هنا، دون أن تغيّر هذه الروايات من الخطّ السردّي الذي وضعه الله لحياة “ريشتة”، فبالنهاية، سواء تشكك الأخ البغيض أو آمن، فإنّ كرهه لـ”ريشتة” بقي ثابتا كثبات الأجرامِ في السماء.

في ذلك اليوم، بلغ “ريشتة” سنته السادسة والثلاثين أي في نفس اليوم الذي بلغ إيمان أخيه البغيض درجة تعطيل حواسه. وفي ذلك اليوم، استغلّ الأخ البغيض انشغال أبيه بمنصبه السياسي، وأمّهُ بمريديها، ليخرج أخيه إلى العالم، هو الذي لم يغادر منزل أبويه قط، بعد أن أقنعهُ بطبق “رشتة” في مطعم مجاور.

نعم، في ذلك اليوم، لم يكن خروج “رشتة” إلى العالم سيئا تماما. فليس مهما أن يلبسه أخوه البغيض ذلك الحزام الناسف في نفس اليوم الذي ولدَ فيه، وليسَ مهما أن يتركه في ذلك المطعم الذي كان ممتلئا عن آخره بالسياح الأجانب، بل وليس مهمّا أن يوشوشَ في أذنه تلك الجملة التي لن يفهمها “ريشتة” أبدًا، قبل أن يرحل سريعًا ممسكا بالهاتف الخلوي الذي ستحوّل أزراره كل الجالسين في المطعم، ومعهم “ريشتة” القديس إلى سماد:

“إن الله يزرع الفردوسَ لأجلنا”

كلّ ذلك ليس مهمّا في الخطّ السردي الذي رسمه الله لحياة “ريشتة” القديس، ولا حتى قصة تلك الاخت التي تتعفن الآن بين ذراعي رجل كانت يده اليسرى مشلولة!
_________
*من مجموعته القصصية الجديدة “الرجل الذي” والتي تصدر الشهر القادم.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *