عن ماركيز وأنساقه المتباينة في دائرة الواقعية السحرية
أكتوبر 31, 2016
خاص- ثقافات
*كريم ناصر
يشير الكاتب المغربي مصطفى الحمداوي في مقدّمة مقتضبة إلى جزء مهم من حياة ماركيز الأدبية، والحق أنَّ مثال ماركيز في الأدب استثنائي، وبهذه الصيغة يعمّم الحمداوي صورة الروائي الكبير ليس لتعريفه كعبقري عصره، بل لسبر أغواره العميقة ليدخل مجاله الذي عرف بتميّزه المعرفي، فهناك إذاً ما هو غامض يتعذّر الوصول إليه، حيث لا يعطي المعنى نفسه في نهاية المطاف إذا ما خضع لتأويل معقّد..
من هنا يذهب الكاتب بهذا الوصف ليبحث في أُسلوب ماركيز كمعطى أساسي في البناء المعماري لمجمل كتاباته، ولا يخصّ الرواية ليعيدها أساساً، بل يذهب أبعد من ذلك ليتعمّق في دراسة مقالاته وأحاديثه وحواراته ليصل إلى نتيجة واحدة ليس غير.. ليقول لنا: إنَّ الكاتب المومأ إليه يعتمد سلفاً في كلّ أدبياته على أُسلوب موحّد ينتمي في العمق إلى سحرية الأشياء، أو إلى سحر الواقع ليصبح ظاهرةً تطبع أدبه بقيم تعبيرية لا تتكرّر عند غيره، ونستمدّ دليلنا من روايتيه خريف البطريرك الموجّهة أساساً لمناهضة النظم الديكتاتورية، ومائة عام من العزلة التي عُرفت بتميّزها الأُسلوبي وحضورها القوي..
ففي باب (إنّه قصاص حسناً لطالما كان كذاباً منذ طفولته) نقرأ نتفاً أدبية خالصة تكشف عن فرادة لغوية اختارها الحمداوي لتقوية الموضوع ليس إلّا، فينتقي لكتابه هذا شذراتٍ تتميّز بالدقّة كُتبت خصوصاً عن الأديب العبقري، ومن ضمنها ما كتبه جيرالد مارتن عن سيرة حياة ماركيز.. يشير الكاتب إلى مسألة جوهرية من نمط دلالي ليضع القارئ في الصورة، ليشعره بمعاناة المؤلف، وعدم التقدير وآلام الكتابة ولشقائها في أثناء صيرورتها التكوينية، ومن ضمن فروع الكتاب يشير أيضاً إلى مسألة تتعلّق بالبطل الإشكالي، وهو مفهوم يُعتقد أنَّ ماركيز قد نحى هذا المنحى الذي وضعه الفيلسوف جورج لوكاش سلفاً.
وبعد كلّ هذا فيدرج كاتبنا دراسة للمؤلف جيرالد مارتن يروي فيها طموح ماركيز والمستوى الدلالي الذي يسعى من ورائه إلى خلق أدب متعدّد القيم يحمل سمات المغايرة بالقياس إلى غيره يقول: في (باب سيرة حياة غابرييل غارسيا ماركيز ـ الأنساق الأدبية):
“فإنَّ تلك الشهرة التي يمتلكها ماركيز تحصل عليها خلال مقدرته على صناعة الحدث الباهر والإستثنائي من لا شيء تقريباً أو في الأقل من شيء قليل جدّاً” ص20 و”يقول جيرالد مارتن إنّه ألّف كتاب سيرة حياة غابرييل غارسيا ماركيز على مدار سنوات طوال أمضاها في قراءة أعماله ومنجزاته الإبداعية في القصّة والرواية، والمقالات الصحافية والنصوص السينمائية” ص23
يصف جيرالد مارتن شخصيته فيقول عنها: (إنها لولبية ودائمة التحوّل ولا تستقر على حال) ثم يستطرد أيضاً:
“كان وفاؤه للإبداع فقط وليس غير، وهذا الأمر هو الذي كفل له النجاح العظيم والأُسطوري أيضاً”. ص25
نقرأ في باب رائحة الجوافة (حوارات بيلينيو أبوليو ميندوزا) بعض الأفكار عن عوالم ماركيز العجيبة التي لا تقف عند حدٍّ معين لا سيما في أجوبته فضلاً عن الأسئلة التي انتقاها الكاتب الحمداوي، ما تجعل من هذا الكتاب مرجعاً لفهم سيكولوجية ماركيز الأدبية والنفسية على حدّ تعبيره، ومن ضمن أجوبته عن شخصية مرسيدس يصل إلى نتيجة تفيد أنَّ:
“الشخص الذي تعاشره لسنوات طوال جدّاً تغيب عنك ميزاته الأكثر بروزاً بسبب التعوّد، أعتقد ولهذا كان جواب ماركيز ذكياً وواقعياً لدرجة أنّه يقول ليست لدي أدنى فكرة عنها” ص32
ونلاحظ بعض أجوبته عندما سأله الصحافي بيلينيو عن المقابلات الإعلامية:
“فيجيب لا أتمنّى أن يصيب النجاح أحداً، فهو مثل متسلّق الجبال الذي يقتل نفسه تقريباً للوصول إلى القمّة، وعندما يبلغها ماذا عساه يفعل” ص32
هكذا يجيب ببلاغة تعبيرية عن المنطق والزمن وتدوين الملاحظات، عن الكتّاب، أو عن ريميديوس الجميلة في رواية مائة عام من العزلة، عن خريف البطريرك، عن الحبّ، وعن الشهرة، دون الخوض في التفاصيل، وبهذا يكون الحمداوي قد احتفظ أيضاً لنفسه عنه بفكرة نادرة تمتاز بخاصية جوهرية وبشيء من الإعجاب ليصل إلى نتيجة مُفادها أنَّ الأدب في حقيقته سحر أو أثرٌ يتميّز جذرياً عن النمط..
نلاحظ في النهاية أنَّ الحمداوي يغدو محلّلاً نفسياً فيقوم بتشريح سيرة ماركيز ـ منفصلة عن كلّ بديهية أُسلوبية ـ أو محلّلاً سوسيولوجياً فيقوم بتدوين تاريخ المعرفة ليحمّل تراكيب جمله مترادفاتٍ تبدو عجيبةً من حيث صياغتها، أو من حيث معانيها الدلالية.
ثم يستكمل حديثه كالآتي:
“إنَّ الوحدة إحساس نسبي جدّاً، والوحدة هنا لا علاقة لها بالحالة النفسية، هي وحدة وانفراد الكاتب بنفسه ليحتوي أفكاره وخياله” ص34 وبحسب اعتقادنا يقصد الحمداوي بالتحديد العزلة الأدبية، فيكشف عن خلفية ماركيز الثقافية والجغرافية: يقول عن لسانه “علّمني الكاريبي أنَّ أنظر إلى الواقع بطريقة مختلفة أن أتقبّل القوى الخارقة للطبيعة على أنّها جزء من حياتنا اليومية” ص34
وعندما يسأله المحاورعن ماهية الصورة التي تؤلّف منطلق كلّ فكرة رواية:
“فيجيب ماركيز جواباً عجيباً، ولكنه موحٍ جدّاً ومختزل إلّا أنّه يحتوي على دلالات عميقة” ص34
وفي سياق متصل يسأله المحاور عن توجيهاته الإيديولوجية فيعترف بصراحته المعهودة ويقول إنّها فعلاً أثرت في أفكاري السياسية تأثيراً حاسماً.
يقول عن الحرية الجنسية: “نحن جميعاً أسرى لأهوائنا”وتطول القائمة في عرض الأسئلة لا سيما عن معتقداته، وكذلك عن علاقته بالأزهار الصفر، وعن كلّ شيء.
أمّا في باب (كيف تكتب الرواية ومقالات أُخرى ـ عندما يصبح للكوكا كولا مذاق الأحذية الجديدة) فيحرص الحمداوي على تدوين أقوال ماركيز لا سيما تلك الحكاية الطريفة عن الكاتب الأرجنتيني الكبير خورخي لويس بورخيس التي يستحضر فيها مقولة ماريو فارغاس يوسا.. إلخ
يقول عن التجلّيات السحرية: تحمل رسائل ماركيز دلالات موحية موجّهة لكلّ كاتب ناشىء يأمل أن يغدو نجماً، ثم يروي لنا أيضاً في مفصل آخر عن غنى الكِتاب بالمعلومات وبجماليات الواقعية السحرية، ثمّ يشرح عن قدراته الباهرة في استقطاب القارئ وأسره.
يشير الحمداوي في باب (ماركيز الآخر سيكون شاباً ووسيماً وسعيداً حتى الدمعة الأخيرة) إلى خيال ماركيز الناصع الخلّاق الخصب، وبراعة تصويره للأحداث وإلى مواقعه وآرائه وإلى مقالات الصحفيين الذين يذكرونه بتفاصيل كاملة في العديد من الأحداث والمواقف ونقرأ هنا راياً طريفاً:
إذ “يكتب ماركيز: رغم أني قلت مراراً في جميع الوسائط المتاحة إني لا أشارك في الإحتفالات العامة، ولا أرتدي زي الأستاذ الجامعي، ولا أظهر في التلفزيون ولا أشارك في الدعاية لبيع كتبي، ولا أساهم في أية مبادرة يمكن لها أن تحولني إلى استعراض وإحجامي عن ذلك ليس تواضعاً بل لسبب أسوأ : أنّه الخجل” ص55
وهنا يذكّرنا الكاتب الحمداوي بفقرة أخرى فيقول فيها:
“إنها ليست مبالغة على الطريقة المألوفة التي غالباً ما تشعرنا بالتأفف والضيق، بل هو فن لحكي راق يمزجه غارسيا ماركيز بطعم الإبداع الممتع ليجعل من كلامه أدباً فيه من المتخيّل كلّ شيء قبل أن يأخذ من قبل القراء مأخذ الجد” ص58
ويذكر الأخ الحمداوي في باب (ها هي أجمل فتاة رأيتها في حياتي) المقدمّة التي كتبها ماركيز عن رواية (الجميلات الناعمات) للكاتب الياباني ياسوناري كاواباتا مشيراً إلى اختزاله الرواية لكي يُبرر النقطة الأساسية والإشارة إليها بدلالات سحرية ليعدّ السرد مصدر انطلاقها، وليعدّ الوصف المثير المكثّف الاستثنائي التقني صبغتها الجمالية:
“كانت علامة الحياة الوحيدة التي لاحظتها هي ظلال الأحلام العابرة فوق جبينها كغيوم فوق الماء” ص66
ثم يفرد الكاتب الحمداوي عباراتٍ تبدو ساخرةً يتناول فيها رؤية ماركيز عن مجمل ما يتعلّق بالأدب الياباني بأُسلوب يتضمّن بعض الإستغراب المتمثّل بالسخرية أحياناً، لا سيما في إشارته إلى ياسوناري كاواباتا، والروائي أوزاما دازاي، والروائي الشهير يوكيو ميشيما، ويخصّ في فقرة أحد كبار كتاب أمريكا اللاتينية ونقصد الكاتب المكسيكي خوان رودولفو نقتطف منها هذه العبارة كدلالة:
“لم يكتنف غابرييل غارسيا بالنبرة الساخرة والطافحة بالإعجاب في الوقت نفسه، وهي مفارقة غريبة في هذه العبارة، بل الإشارة الماكرة والعفوية إلى ثلاث مائة صفحة (فقط) التي رفعت الكاتب إلى مستوى سوفوكليس” ص69
نرى ثمّة إشارة ذكيّة إلى عملية تناص بين رواية (ذاكرة غانياتي الحزينات) لغابرييل غارسيا ماركيز، ورواية الجميلات الناعمات لـياسوناري كاواباتا..
يعتقد الحمداوي أنّ التناص شكلٌ من أشكال ولادة نص من نص ضمن تسلسل النصوص، ويدعم هذه الرؤية بعبارة للناقد والفيلسوف البلغاري تزفيطان تودوروف إلى مصطلح التناص الذي يقول [من الوهم أن نعتقد أنَّ العمل الأدبي له وجود مستقل، إنّه يظهر مندمجاً داخل مجال أدبي ممتلئ بالأعمال السابقة وعليه يتحول كلّ عمل فني في علاقة معقّدة مع أعمال الماضي]” ص72
يستلّ الحمداوي مقال ماركيز الموسوم التخاطر اللاسلكي من كتابه (كيف تكتب الرواية ومقالات أخرى) وهذا ما جاء في باب تنظيم النبوءات وتوارد الخواطر، إذ يشير صديقنا الحمداوي في عرضه إلى ما رواه إختصاصي أعصاب فرنسي لماركيز عن موضوع اكتشافه وظيفة من وظائف الدماغ البشري، في حين يحيل ماركيز الموضوع كلّه على الأحلام الإستشرافية وتوارد الخواطر.
وفي الإشارة إلى التخاطر العجيب واللمسة الشاعرية، وتحقّق التوارد في الخواطر والتنبؤات وعلم التكهن: يكتب الحمداوي:
“وهو هنا إذ يتحدّث عن هذا التوارد العجيب في الخواطر الذي يقنعنا أنّه يؤمن به فإنما يفعل ذلك لكي يكتب مادة فريدة ومثيرة لاهتمام القراء، وهو في النهاية ينجح كما العادة، لأنّه يمتلك أدوات سرد مثيرة للإعجاب تجعل القارئ يتجاوز سؤال أيمكن أن تحدث فعلاً مثل هذه الخوارق المتمثّلة في التخاطر اللاسلكي؟ ورغم أنَّ ماركيز يعطينا الإنطباع أنّه يؤمن بهذه الحالات العجيبة، غير أنّ ذلك لا يحدث في تقديرنا إلّا على المستوى الأدبي، ولأنّه من جهة أخرى يجد فيه مادة ثرية ومدهشة للكتابة ليس إلّا” ص77
وتبعاً لذلك يؤكد الحمداوي:
“إذا تأملنا قليلاً أدب ماركيز سنجد أنّ منبع الواقعية السحرية يتأتى من هذا المبدأ” ص78 عندما يحوّل كلّ خيال فنتازي إلى حقيقة وواقع.
وفي إشارة منه إلى المداوي ليبرهن على قدرته الخارقة على معالجة بهيمة عن بعد، والغواصات الذريّة المبحرة تحت طبقة الجليد القطبية، ومحاولة الإتصال بها عن طريق التخاطر وصولاً إلى حديثه عن التخاطر اللاسلكي فيشير إلى جدّته وإلى قرية أراكاتاكا وإلى عوالم غريبة واصفاً إيّاها حيث يقول:
“إنَّ هذا الكلام يذكّرنا تحديداً برواية مئة عام من العزلة بحيث ترد هذه الخواطر عن جدّته كشكل من السرد الروائي الكثيف” ص79
في باب (فلنكن رجالاً ولنتحدّث عن الخوف من الطائرة): بهذا المعنى ينتقي الحمداوي مقالاً بالعنوان المذكور ليعالج دلالة الخوف من الطائرة، وكيف كان لا يعانيه أحد ويذكر عن لسان ماركيز عن طائرات غريبة تتحوّل إلى رماد، ويذكر في فقرة:
“كنّا نطير فوق غابات أورابا جالسين على حزم المكانس، لأنّه لم تكن توجد مقاعد في تلك النعوش الطائرة، ولا مضيفة تبعث العزاء، ويمكن لأحدنا أن يطلب منها رقم هاتفها في الجنة، وفجأة دخلت الطائرة حيث ما كان عليها الدخول وتاهت وسط وابل توراتي لم يكن المطر يهطل في الخارج فقط، وإنّما في داخل الطائرة أيضاً، جاءنا مساعد الطيار وهو يتمسك بجهد جهيد حاملاً لنا جريدة لنغطّي بها رؤوسنا ولاحظنا وكنّا مذهولين أنّه يكاد يكون عاجزاً عن الكلام وأنّ يديه ترتعشان، في ذلك اليوم تعلمت شيئاً مشجعاً للغاية، فالطيارون يخافون أيضاً إلّا أنَّ خوفهم مثل مصارعي الثيران” ص87/88
يعمد الحمداوي في فقرة أُخرى إلى إثارة المتلقي فيعرض صوراً من جماليات اللغة تتضمّن تعابير دلالية حيث يقول عن ماركيز:
“لكنّنا في كلّ الأحوال سنشعر بمتعة أدبية نستلذها خلال تسريب ماركيز لمثل هذه العبارات التي تحمل إيحاءات مدهشة” ص88
والحقيقة ما يجعل كتاب ماركيز نصاً مقروءاً يرجع إلى انتقاء صديقنا الحمداوي أحداث ذات طبيعة مختلفة ليقدمها للقارئ كمادة أدبية تحمل دلالاتٍ كثيرة في تفاصيلها، فيقوم بتحليلها على وفق مبدأ تأويلي.
ينتقي الحمداوي حكايةً شائعة من حديث لماركيز يشير بها إلى بيكاسو حيث يقول:
“إذا كان المرء لا يخاف الموت، فلماذا إذاً يخاف الطائرة؟ وحوداث الطيران ليست لعبة أطفال، لو أنّ بيكاسو قال مثل هذا القول عن خوفه من السيارة لكان أكثر قرباً من الحقيقة، ولكنه وهو يقصد الطائرة فإنّه من المفروض إدخال هذا الكلام في خانة فن الرسم، والمدرسة التكعيبية التي أبدع فيها لرسم جماليات خارقة” ص91
ثم يشير الحمداوي إلى نقاط مهمة في “خيال ماركيز والمبالغة البارعة التي تتسم بها كتاباته” ص92
يقول لنا أيضاً:
“إنّ التميز الذي يجعل من ماركيز كاتباً عظيماً: قدرته الباهرة على التقاط الأحداث الصغيرة من حوله وجعلها مادة دسمة” ص93
ويعرج الكاتب الحمداوي في الختام على مقال ماركيز الموسوم (كيف تكتب الرواية) ليأخذ حكايةً عن الكاتب كارلوس مارتينيث مورينيو عن الموضوع نفسه فينقله لنا هكذا:
“إنّه لا يوجد ما هو أفضل من الكتاب في الطيران، فقد طار خلال عشرين سنة وهو يحمل معه دوماً النسخة شبه المهترئة ذاتها من مدام بوفاري متظاهراً بقراءتها رغم أنّه صار يعرفها عن ظهر قلب تقريباً لاقتناعه في أنّها تدبير مؤكد لمواجهة الموت” ثمّ يستكمل الحمداوي الحديث يقول: يبدو لي أنّ ماركيز لم يستثن من التظاهر بعدم الخوف من الطيران، حتى زميله في الكتابة الأوروغوايي كارلوس مارتينيث مورينيو بل ويسبغ عليه صورة لا تخلو من كاريكاتورية حين يصر على أنّه كان يصطحب معه دوماً النسخة شبه المهترئة ذاتها من رواية مدام بوفاري، وتركيز ماركيز على أن يقول عبارة (النسخة شبه المهترئة ذاتها) يفعل ذلك لكي يبيّن أنَّ الكاتب كارلوس مارتينيث مورينيو كان يتظاهر فقط بالقراءة، وكان يتصفّح الكتاب شارد الذهن مرعوباً من ركوب الطائرة تماماً” ص94
نقرأ أيضاً في باب (رواية قصة موت معلن قصة مخضبة بدماء شاب بريء) مقاربة يتناول الحمداوي فيها ما يندرج في إطار الجريمة:
“لم يكن إبلاغ الأخوين فيكاريو للجميع عزمهما قتل سانتياغو نصار إلّا لسبب وحيد ليحولوا بينهما وبين اقترافهما الجريمة لكن أحداً لم يفعل”ص98
ثم يستأنف ليذكرنا بعامل التشويق في الرواية الذي يستمر بتفاعل متصاعد مع أحداث القصّة كما يجتهد..
يسعى صديقنا الحمداوي إلى تقديم رؤية تحليلية عميقة بعيدة عن أيّة بديهية، وبهذا يلجأ إلى تفكيك السرد بحثاً عن الجوهر والمفيد والنادر في الرواية مادحاً الكاتب الكبير ماركيز ومفككاً عوالمه السردية العجيبة التي تترك في نهاية المطاف شعوراً بالمتعة، لفرط أناقتها التعبيرية ولبعدها عن الأنماط المألوفة.
ويصفه أيضاً بالكاتب الخارق، وذلك لتمكّنه من تكثيف التراكيب السردية واختزال الأحداث المثيرة المشوقة إلى أقصى ما يمكن من التماسك اللغوي..
فيذكر لنا من أقوال ماركيز:
حالات نادرة عن الأخوين تفيد إنّ اثنين وعشرين شخصاً من فصيل قد أعلنوا أنهم سمعوا كلّ ما قالاه بصدد الجريمة.
يقول الحمداوي:
“من هذه الفقرة بالذات يبدأ ماركيز في إخبار القارئ أن نية القتل لدى الأخوين فيكاريو هي نية معلنة، وغير سريّة بل كانا يحرصان أشدّ الحرص إلى إذاعتها وإبلاغها لأكبر قدر ممكن من الناس، وفي كلّ الأماكن حتى وهما يشحذان سكينيهما في مجزرة القرية، قالا كلاماً فحواه أنهما ينويان قتل سانتياغو نصار بتلك السكاكين الضخمة، وقد فعلا ذلك أمام سمع مجموعة كبيرة من الناس، حدّد عددهم ماركيز بالتدقيق أنهم إثنان وعشرون شخصاً أعلنوا أنهم سمعوا كلّ ما قاله الأخوان فيكاريو، هذه النية المعلنة للقتل كان الهدف من ورائها كما تبينا، البحث عن مخرج للورطة التي وجدا نفسيهما فيها بعد أن أطلقا وعيداً للثأر لشرف شقيقتهما التي أعيدت إلى المنزل ليلة الدخلة، لأنَّ أحدهم فض بكارتها قبل الزواج وحين سألاها عن الشخص لم تتردّد شقيقتهما أنخيلا فيكاريو عن النطق بإسم سانتياغو نصار” ص103/104
يصف الحمداوي أُسلوب ماركيز الأدبي بغير المألوف في الكتابة السردية، وإنّه لا يدخل في سياق ما هو نمطي كما نرى، بل يخرج عن ذلك إلى أماكن غير محروثة سلفاً..
ثم يستطرد:
“لن نقف لنسأل كيف أمكن لسانتياغو نصار أن يمشي مئة متر وبصفاء ذهن واضح وبطاقة تبدو وكأنها غير واقعية قياساً بالطعنات القاتلة والمتعدّدة التي تلقاها جسمه من طرف التوأم فيكاريو، لن نسأل طبعاً لأنَّ المهم هو الخطاب الجمالي الماتع الذي أوصله إلينا ماركيز في النهاية، أمّا حقيقة الواقع فهي ليست مهمة بالمرّة حين يتعلّق الأمر بالأدب والإبداع” ص109/110
وفي باب خريف البطريرك.. أنا الرب .. عاش أنا
يختار الحمداوي مقدّمة المترجم محمد علي اليوسفي ليعرّفنا بأُسلوبه الأنيق جدّاً عن فحوى رواية خريف البطريرك ثم يقوم بتحليل فصول الرواية كالآتي:
فيقول:
“ينبغي هنا أن نستخلص أنَّ الزمن الذي كتبت فيه هذه الرواية هو زمن عرفت فيها جلّ دول أمريكا اللاتينية ودول العالم الثالث وغير الثالث نظماً شمولية قاسية، وبهذه الرواية يكون غابرييل غارسيا ماركيز قد تفاعل بشكل جميل وساخر مع الوضع السياسي الذي كان طاغياً في الكثبر من البلدان الديكتاتورية في تلك الحقبة وبعدها” ص112
ثم يضيف كاتبنا الحمداوي في مقاربة استثنائية يصف فيها براعة ماركيز في تصوير مقر إقامة البطريرك ـ الديكتاتور ـ والذي تحوّل بعد موته إلى مشهد مركّب يشبه لوحة سوريالية.
ويذكر في مكان آخر:
“بالنظر إلى نوعية السرد في الرواية نلاحظ التعقيد المحبوك ببراعة في تصوير المشاهد وتداخل مثير ولافت للإعجاب بين الأحداث والأزمنة، وسيخرج القارئ في النهاية باستنتاج كون الرواية ليست سهلة المنال، بل هي رواية تحتاج إلى جهد ومثابرة لمتابعة قراءتها وفهم أدق التفاصيل البارعة التي أبدعها ماركيز بتركيز يحتاج إلى دقّة كبيرة في فهم أبعادها العميقة” ص114
ينقل لنا الحمداوي فقرة كتبها محمد علي اليوسفي كمقدّمة للرواية نقتطف منها هذا الجزء المهم:
“لعلَّ صعوبة الرواية تكمن في الجهد الذي على القارئ أن يقوم به لإعادة تركيب الأحداث، ذلك أنَّ الرواية بعد المشهد (البانورامي) الأول تنطلق مثل سيمفونية مؤثرة في حركة دائرية تجمع بين أحداث ماضية وتلميحات إلى أحداث أُخَر آتية، ويتكرّر فيها عزف آلات الرعب نفسه، والأناشيد نفسها والصفير المكتوم المنبعث من فتق البطريرك نفسه.. غير أنَّ اللازمة الغنائية تأتي مع نهاية كلّ فصل أو خلاله أكثر غنى وإيحاء.. يموت البطريرك.. لكنّنا نكتشفه على لسان الرواة في الفصل اللاحق حياً، وفي ذلك إيحاء يتعاقب اللحن الجنائزي ذاته” ص114/115
ومن ضمن تأويلات الحمداوي نقتطف هذه الفقرة:
“نجح ماركيز في تصويره لطاغية بلا حدود طاغية مستبد لأقصى درجات الإستبداد، مهووس بالسلطة والتحكم في مصائر شعبه ديكتاتور مكتمل العناصر ومع كلّ شيء فإنّ الديكتاتور في شخصه لم يكن أقلّ دهاء من الديكتاتور نفسه” ص118
وفي باب (ملكة جمال الفقراء وردة مزبلة، جمال يذهل الوطن)
يقدّم الحمداوي مقطعاً وصفياً من رواية خريف البطريرك، ثم يقوم بتأويل فقراته وتحليلها من منظوره الخاص، إذ ينقل لنا صورة الديكتاتور وانشداده إلى سحر ملكة جمال الفقراء.. يقول:
“هكذا تجبره غريزته لينزل إلى مرتبة البشر ويمتثل لجمال أُسطوري رغم البيئة التي يوجد فيها ذلك الجمال بيئة حي الكلاب”ص122
وهنال الكثير مما يورده الحمداوي عن بعض المواقف الغريبة التي تفنّد شخصية الديكاتور حيث يجد نفسه في موقف حرج تثيره والدته أمام السلك الدبلوماسي
فتقول: “لو علمت أنَّ ابني سوف يصير رئيس جمهورية، لكنت أرسلته إلى المدرسة” ص125
ويذكر أيضاً:
“في إطار تمثّله كربٍّ قادر على كلّ شيء، فقد أعطى أوامر غريبة جداً كما نقرأ في هذه الجملة: على لسان ماركيز[ لقد أمر بإلغاء المطر من الأماكن التي يعيق فيها المحصول وجعله ينزل في الأراضي الجافة]” ص128
وفي (باب ما عدا الكُتّاب هؤلاء لا جدال أنهم لا يصلحون) يشير الحمداوي إلى ما يذهب إليه ماركيز نفسه في روايته عن حساسية البطريرك من طبقة الكتّاب، وكيف أنّه عفا عن المساجين السياسيين جلّهم ما عدا الكتاب الذين قال عنهم:
“هؤلاء لا جدال يعانون من الحمّى تحت ريشهم مثل الديوك الأصيلة عندما تهتاج” ص129
يستخلص الكاتب الحمداوي من قراءته نتيجة مهمّة عن فكرة الرواية، ويختزل فقراتٍ من الأحداث ليمنحها مدلولات عميقة، وليحتفظ بخاصية رفيعة في تحليل المادة، يكتشف من هذا الاستدلال بجلاء حقد الديكتاتور الكوني على طبقة مهمّة في المجتمع بل حتى أنّه كان لا يستثني رجاله..
يذكر الحمداوي أخيراً في مقاربة طريفة فصلاً عن خريف الديكتاتور فيقول:
“يستجيب الديكتاتور في خريفه الأخير بطواعية مثيرة لأوامر العمال، لقد كان قصره المهمل المستباح من قبل الأبقار يعاد ترميمه، وكان الجنرال الديكتاتور قد أصبح هرماً، ولم يعد يظهر في الأمكنة العامة، وفي شيخوخته المتأخرة لا يتعرّف إليه أحد من العمال المنهمكين في ترميم القصر، وهكذا يتعرّض لإهانات غير مقصودة” ص134
ويتحدّث الحمدواي في مسك الختام عن الطريقة الذكية التي ينتقم فيها ماركيز من بطله الديكتاتور، ومن المؤكد أنّه لم ينصره قط ليخرج سالماً، ولم يغيّر من صورته ليغدو في الرواية صنديداً.