خاص- ثقافات
*زهرة خصخوصي/تونس
مدخل:
إنّ القول الأدبيّ نثرا أو شعرا، مشافهة أو مخطوطا هو إبداع القريحة الإنسانيّة مقصده الأسّ إمتاع المتلقّي ومؤانسته بما فيه من بوح باختلاجات الفكر أو الرّوح أو العاطفة..
ولعلّنا بتقدّم الحياة الإنسانيّة وتنامي سرعة نسقها أمسينا أمام حقيقة ألّا تحقُّقَ للإمتاع والمؤانسة إلّا إذا كان القول الأدبيّ هذا كما عرّفه أرسطو قائلا:”أمّا شكل القول فينبغي ألّا يكون ذا وزن ولا بدون إيقاع، فإنّه إن كان ذا وزن، فإنّه يفتقر إلى الإقناع لأنّه يبدو متكلّفا، وفي نفس الوقت يصرف انتباه السّامع… وإذا كان بدون إيقاع فإنّه يكون غير محدود بينما ينبغي أن يكون محدودا (لكن لا بالزّمن) *.
ويرى أرسطو أنّ للنّثر إيقاعا ينشأ من وجود بعض “المحسّنات البديعيّة التي تساعد على جعل النّثر موسيقيّا”. ولعلّ هذا ما أفضى إلى بروز فنّ قصيدة النّثر التي تعرّفها سوزان برناربأنّها “قطعة نثر موجزة بما فيه الكفاية، موحّدة، مضغوطة، كقطعة من بلّور.. خلق حرّ ليس له من ضرورة غير رغبة المؤلّف في البناء خارجا عن كلّ تحديد، وشيء مضطرب إيحاءاته لا نهائيّة”**. وهو ما لخّصه أنسي الحاج قائلا:” لتكون قصيدة النّثر حقّا لا قطعة نثر فنّيّة أو محمّلة بالشّعر، شروط ثلاثة : الإيجاز والتّوهّج والجماليّة”
وقصيدة النّثر في الأدب العربي وإن تعدّدت الاراء حولها واختلفت إلّا أنّها وجدت لها موطئ قدم وأبدع الكثير من الأدباء في نسج أبرادها والتّألّق في بناء قلاعها..
ولعلّنا في هذا الفيء نجد المبدعة السّوريّة ريتا الحكيم التي يتنامى إبداعها في نسج قصائد النّثر كما يتنامى الزّرع ذات غيث ليهبنا أوفر محصول فيه تمسي الحبّة سبع سنابل وفي كلّ سنبلة مائة حبّة فنقف أمام جود بيدر إبداعها مشدوهين وقريحتَها شاكرين..
ولنا في قصيدة “باسقة من جمر” التي أخصّها بالاستقراء خير مثال على ذلك…
تصدير:
“غابة حزني، إذا جاء المساء، أدخلها وحدي غريب الوجه محموم المشاعر..
غابة حزني، إذا جاء المساء، أشعلها وأنا أنظر في منفضتي الملأى بأعقاب السّجائر..”
___منصف الوهايبي(شاعر تونسي)
سند القراءة:
_________
باسقة من جمر
تتّكئ على قلبي الواجف
أملا بتوازن مراكبك
أما عرفت بعدُ أنّني أسرق الحصى من شطآنك أرصّ بها الدّنان وأرتق ثقوب السّماء
وأنت، لا مباليا ترنو إلى انتفاض الأوردة في رحم الانتظار
فأتكوّر في المقل
جنين دمعة صلبة تأبى الانعتاق
ريتا الحكيم
متن القراءة:
__________
نقرأ نصّ الكاتبة السّوريّة ريتا الحكيم “باسقة من جمر” فنُلفي أنفسنا أمام قصيدة نثر موفورة الشّروط: بالغة الإيجاز، شديدة التّوهّج، بديعة الجمال بصورها البيانيّة الرّائعة، تحملنا على جناح الحرف وتضعنا في محراب ارتحالات معراج أدبيّ منطلقه امتداد لوحة جماليّة على رؤية بصريّة خارجيّة تُعرّج بنا على قراءة داخليّة فنُسري إلى سماوات الرّوح وفردوسها، ونشهد ارتجافات الذّات العاشقة وهي تروي معراجها على جمر الوله والنَّوى مُسرية نحو آفاق الصّبر ولا انحناء الباسقة رغم عواتي الوجع…
1/جماليّة اللّوحة البصريّة:
قدّمت لنا المبدعة ريتا الحكيم في نصّها “باسقة من جمر” لوحة فنّيّة بلاغيّة بامتياز، أُسّها زوايتان هما الزّاوية اللّغويّة والزّاوية البلاغيّة.
*البناء اللّغوي:
النّصّ فريد البناء عماده نسيج أفعال تنساب في تواشج سلس لا ارتباك فيه محرّكه علاقة سببيّة تدفع البوح الوجدانيّ إلى منتهاه دون تعثّر وترقى برسم اللّوحة الشّعريّة النّثريّة إلى ذراها..
فعلان هما أسّ الحكاية (تتّكئ وأتكوّر)، جناحان يلتفّان على أربعة أفعال(أسرق/ أرصّ/ أرتق/ ترنو) هي جمر النّبض المتلظّي بفعل ماتحقّق ألا وهو معرفة الحبيب بذاك الجمر وذاك التّلظّي (أما عرفت بعدُ؟)..
وجملتان خبريّتان مثبَتَتَان هما منطلق الحكاية الوجدانيّة وختامها كعمادين سرديّين لنصّ نثريّ، تمثّل الجملة الإنشائيّة الاستفهاميّة الجسر الرّابط بينهما كسياق تحوّل في قصّة قصيرة تبدو فيه العقدة موجعة تتوق إلى سدّ نقصها ورتق ثقوبها ولكنّ ثقوب السّماء قد تُرتق وتظلّ مزق العقدة منفرجة تدفع إلى وضع ختام لا يُستنكر(فأتكوّر في المقل جنين دمعة صلبة تأبى الانعتاق)..
هوبناء لغويّ يشدّ النّصّ إلى النّثريّة حتّى يرتبك القارئ في تجنيسه لولا الامتداد البصري للجمل الذي يتقاسم فيه سطران الجملة الواحدة في بداية القصيدة ومنتهاها:
(تتّكئ على قلبي الواجف
أملا بتوازن مراكبك
………………….
فأتكوّر في المقل
جنين دمعة صلبة تأبى الانعتاق)
ولولا الحضور البلاغيّ الأسّ فيه..
*النّسيج البلاغيّ:
“باسقة من جمر” هو لوحة بلاغيّة بامتياز..فكلّ الصّور فيه مجازيّة:
/تتّكئ على قلبي الواجف=صورة نهل الحب
/توازن مراكبك=صورة الاستقرار العاطفي
/أسرق الحصى من شطآنك=صورة الوجود
/أرصّ بها الدّنان=صورة وهم الارتواء
/أرتق ثقوب السّماء=صورة أفق الآتي
/رحم الانتظار=صورة الشّوق والتّوق
/أتكوّر في المقل جنين دمعة تأبى الانعتاق=صورة الصّبر
كأنّ المبدعة ريتا الحكيم تُعلن فينا، من خلال هذا النّسيج البلاغي الذي به حاكت نصّها، ألّا فيء أرحب من التّصوير البيانيّ يحتوي اختلاجات الرّوح ويسكب بوحها في أقداح الأدب.. وكأنّنا بها تُنبئنا أنّ أيقونتها الأدبيّة هذه قصيدة نثر بلا جدال حولها حتّى لا ترتبك خطانا في خوض تشعّباتها ولا نقع في حبائل متاهة التّجنيس..
2/عمق القصيدة ونبضها:
ظلّ الشّعر، منذ انبجاسه فنّ تواصل وتعبير، يمثّل بوح الكلمات باختلاجات الرّوح عاطفة عاشقة، أو مكلومة، أو متباهية بالذّات الفرديّة أو الجماعيّة، أو ثائرة على الآخر منتقمة للنّفس، إيّاه هاجية،أو ذائدة عن الحمى محفّزة الشّعوبَ على هبّة تستعيد الكيان السّليب وتُعلي راية الهويّة الحرّة شامخة…
وفي هذا عاضدته الخاطرة جنسا أدبيّا ببوح الرّوح والفكر لصيقا. ليشاركهما القصّ في مرحلة ما بعد الحداثة هذه الرّسالة الوجدانيّة في كثير من تجلّياته النّصيّة..
وهكذا تفد إلينا قصيدة النّثر جمعا بين كلّ هذه الأجناس حمّالة لكلكل هذه الرّسائل الوجدانيّة..
وما شذّ نصّ “باسقة من جمر” عن هذا المسار. حيث تبوح فيه الكلمات باختلاجات روح عاشقة تكابد الوله والشّوق ولامبالاة الحبيب بتوقها إلى ارتواء بوصال ينضح تواجدا وغزلا وتدليلا..
فانبنى النّصّ على تقابل الثنائيّات :
*تقابل ضمير المتكلّم وضميرالمخاطب.. فرغم القلب الجامع بينهما(تتّكئ على قلبي) إلّا أنّ الحبيب المخاطَب يكتفي بتوق إلى توازن واستقرار عاطفيّين عبر يقين بنبض الشّاعر بحبّه (تتّكئ على قلبي الواجف أملا بتوازن مراكبك)بينما يبدو الأنا المتكلّم عاشقا مشتاقا ظمئا إلى ضمّة صبّ فلا يجد مناصا، وهو يصطدم بلا مبالاة الحبيب، من أن ينكفئ على نفسه يرمّم أفق الحلم ويعتنق الصّبر تماسكا أمام عصف ريح الوهن والتّهاوي(أرتق ثقوب السماء/ وأنت لا مباليا ترنو إلى انتفاض الأوردة في رحم الانتظار/ فأتكوّر في المقل جنين دمعة صلبة تأبى الانعتاق)
فيبدو التّقابل بين الأنا والأنت في أشدّ تجلّياته تصويرا..
*تقابل مكانيّ: إنّنا ونحن نتقفّى الوله في ذي القصيدة النّثريّة نُلفي أنفسنا أمام إطارين مكانيّين متباينين يدور كلّ طرف في الحكاية أي الأنا والأنت في مكان دون ملامسة دائرة الآخر..
فالحبيب المخاطب قد انحصر وجوده في الاتّكاء على القلب بينما ظلّت أنا الشّاعر ترفرف بين شطآن الحبيب، أي ضفاف وجوده دون أن تلجه، وسماء الأفق المتشظّي مزقا لا تني ترتقها ومقلة الوجود فيها ترتسم وجعا يأبى الانسكاب بوحا وشكوى وعتابا..
هو التقابل بين الضّيق والرّحابة الذي مأتاه تقابل بين السّكون والتّلجلج الرّوحيّين..
*تقابل الأفعال: إنّ التّقابل بين الضّميرين والمكانين مأتاه تقابل بين الأفعال أساسه الفعل وردّ الفعل حيث أدّت لا مبالاة الحبيب بتوق الأنا العاشقة وشوقها إلى انكفاء عنها إلى الذّات تلملم مزقها وتتكوّر على نفسها ترتضع من ذاتها صبرا… هو تقابل أفعال حبيبين في محراب البوح بالوجع بدل الغزل والوجد..
ومن يمّ هذا التّقابل نُسري في هذه القصيدة النّثريّة إلى فردوس الرّوح..
3/فردوس الرّوح في “باسقة من جمر”:
إنّ قصيدة النّثر رغم جذورها الغربيّة، فإنّها تظلّ حاملة لمنهج صوفيّ عربيّ كما يقول أدونيس:” في الأساس أخذنا قصيدة النّثر من النّصّ الغربيّ.. لكن بعد الاطّلاع والقراءة يجب أن نقول إنّه كان لدينا جذر يمكن أن نستند إليه وكنّا نجهله وهذا الجذر هو في الدّرجة الأولى النّصّ الصّوفيّ..”***
ذلك أنّ الصّلة بين الصّوفيّ وشاعر قصيدة النّثر تتأتّى من اعتماد كلّ منهما على الحدس الذّاتيّ واستعمال اللّغة المجازيّة ، ويزدادان اتّصالا والشّاعر يمتطي قصيدة النّثر للإيغال في دروب الرّوح المرهفة العاشقة التّائقة إلى وصال، المكابدة وجع العشق ظمأ إلى ارتواء كما نجد في نصّنا البذخ هذا “باسقة من جمر” للمبدعة ريتا الحكيم..
فمبدعتنا وهي تحوك قصيدتها بأسلاك الرّوح المتشظّية عشقا المتلظّية توقا، نُلفيها تتعلّق بأهداب الوله المرهف تصّعّد بها نحو سماء الانتظارات ترتق فلول الأمل فيها وتندسّ في مقل الصّبر فتمسي حوريّة في فردوس العشق المفارق..
وكما أنّ قمّة مرحلة التّسامي التي يسعى إليها الصّوفيّ من أجل التّوحّد والفناء بالذّات الإلهيّة يقود إلى ما يمكن أن يُسمّى “اللّازمنيّة الصّوفيّة” وتُعرف عادة بلحظة الإشراق الصّوفيّ وهي من الخصائص التي تسعى إليها قصيدة النّثر، وتقود إلى خصيصة ثانية هي “الإشراق” أو”التّوهّج”، فإنّنا نُلفي مبدعتنا ريتا الحكيم في نصّها هذا قد بنت كلّ الأفعال في صيغة المضارع المرفوع الدّالّ على استمرار الحركة وعدم تشرنقها في لحظة منقضية أو أخرى منتظرة، إفلاتا من الزّمنيّة الخانقة، أمّا الفعل اليتيم الوارد في زمن الماضي (عرفت)فقد اقترن بأداة النّفي “ما” فلا تحقُّق له ولا توقُّف عنده.. هي الرّوح المغتربة عن الوجود الخارجيّ المألوف، المنعتقة من كلاكل الزّمن مرفرفة في فردوس الوله التّائقة إلى التّماهي في الحبيب ذات وصال في خضمّ مكابدة صراع بين موجود قفر فيه مرج الوجد، ومنشود حارقة فيه مجامر الوله والشّوق والتّوق والانتظارات، صراع يلازم الشّاعرة تماما كالصّوفيّ ، ولا سبيل تراه للتّخلّص منه إلّا بأن تتكوّر في المقل “جنين دمعة صلبة تأبى الانعتاق” كحالة عالية من الصّفاء الرّوحي فيها تمسي مكابدة مخاض دمعة ما رضيت بالوجود خارج رحم المقلة بعدُ، ألذّ ما في الوجود الوجدانيّ الموجع، فردوسا غنّاءعلى تخوم أتون…
ختاما:
قلّب فكرك أنّى شئت في “باسقة من جمر” تنثر في جرابك رُطب الوله المتسامي نحو ذرى العشق الصّوفيّ، وتُلقمك شهد الإبداع في نسج قصيدة النّثر،وتفتح لك بوّابات النّهل من جود قريحة مبدعتها المائزة شعرا وقصّا ابنة الشّام الأبيّ ريتا الحكيم..
وما كلّ إناء إلّا بما فيه ينضح.. وذا بعض نضح إنائك أيّتها المبدعة، بشهده ارتويتُ وما اكتفيتُ، وبعطره انتشيتُ وما قنعتُ وإن عنه نأيتُ، وعسى ذي القراءة قد وفته بعض روعته وإن كنتُ حقّها ما أوفيتُ.. دمت مبدعة ..
*”الخطابة” صص211-212
**”النثر من بودلير إلى أيّامنا”-ترجمة زهير مغامس 1993
***مجلة أسفار31