محمود شريح
صقر أبو فخر في جديده الهرطوقي الحكيم: حوار مع كمال الصليبي، يدوّن آخر حوار مع هذا المؤرخ الفذ قبل وفاته في الأول من أيلول 2011، وكان أبو فخر التقى المؤرخ الراحل على مدى أيام كثيرة في منزله في رأس بيروت فباح له بكثير من الآراء الجديدة التي ظلّ يختزنها في عقله سنوات عدة، وكمال الصليبي كما لا يُخفى أحد أبرز المؤرخين العرب وأكثرهم ألمعية وتألقاً، وهو، كما عبّر عنه المؤلف، الذي «قوض، بجدارة عملية، المسلمات العتيقة الرابضة على رؤوسنا منذ ألفي عام على الأقل، وبلبل معارفنا القديمة المستقرة في تلافيف أدمغتنا كثعابين هندية نائمة، حين صاغ نظرية متماسكة برهن فيها أن أحداث التوراة وقعت في جنوب شبه الجزيرة العربية لا في فلسطين».
في 195 صفحة من القطع الوسط وغلاف أنيق تزيّنه صورة لكمال الصليبي في عباءة شوفية في آخر صيف له على هذه البسيطة يعقد صقر أبو فخر حواراً مطولاً مع صاحب «تاريخ لبنان الحديث» يتناول فيه فصول حياته وآراءه في التوراة والأناجيل والنبي محمد وورقة بن نوفل والعرب والحداثة ولبنان الحديث تاريخاً مزوراً ورأس بيروت والأصدقاء الأوائل ولبنان وسوريا وطانيوس شاهين والمسيحيين العرب والهجرة، أي خلاصة تجربة وعصارة حياة كمال الصليبي، «الحكاية النادرة» التي لا تتكرر، على الأقل في ظل انحدارنا الفكري المطرد.
يرى أبو فخر جازماً أن الصليبي لم يكن مجرد مؤرخ مهم، بل هو مفكر ذو قامة علمية باسقة، فإن كان هناك فكر، يتنزه وآخر يغيّر، يلح المحاور على ان هذا المؤرخ «غيّر أفكارنا جذرياً، حين جعلنا منذ صدور كتابه «التوراة جاءت من جزيرة العرب» في سنة 1985 نفكر بطريقة مختلفة، أي أننا أصبحنا، بعد قراءة هذا الكتاب التأسيسي، غير من كنّا قبل قراءته». وصقر أبو فخر محقّ لجهة أن المؤرخ في «البحث عن يسوع» (1999) خلخل القصة الراسخة عن ولادة المسيح في بيت لحم وظهوره في الناصرة ثم في القدس، فتوصل الصليبي إلى ان ثلاثة أشخاص كانوا يُكَنّون بالمسيح، عيسى بن مريم ويسوع المتحدر من آل داود المطالب بعرش جده، وهذا ولد في وادي جليل في منطقة الطائف وصُلب في القدس، وإله العيس في الحجاز، أي إله الخصوبة، وأكد أن مريم اسم خالة المسيح وليس اسم أمه، وعيّن الطبري أن قبر عيسى بن مريم كان موجوداً حتى القرنين الأولين من ظهور الإسلام على رأس جبل جمناء جنوب يثرب.
ويرى أبو فخر في تقديمه للحوار ـ الكتاب أن نظرية الصليبي في قوله أن بلاد السراة وجنوب الحجاز هي ميدان تاريخ بني إسرائيل إضافة إلى ما صاغه في «خفايا التوراة» و«حروب داود» أطلقت موجة من السجال العلمي، وكانت محصلة ذلك كله أن هذه النظرية صمدت، بقوة، أمام نزعة التحطيم والنبذ التي مال إليها كثيرون من البحاثة والمؤرخين، وكرست نفسها علامة وضاءة في ليل الفكر العربي الراكد، فبات كمال الصليبي واحداً من الأعلام النادرين للفكر العربي التاريخي الحديث.
ولعل أطرف ما في هذه المحاورة التي يعقدها صقر أبو فخر مع أكثر المؤرخين المحدثين إثارة للجدل هو روح الصراحة والبساطة والأناقة التي يتمتع بها الاثنان، فالأول لا يتورع عن بث مناخ من الدعابة والظرافة والألفة يقابلها الثاني بجو من الحبور والبساطة والتواضع، فحين يسأل أبو فخر «ما الذي لم تقله حتى الآن»، يجيب المؤرخ: «كل ما فكرت فيه، وتوصلت إلى نتائج في شأنه قلته. لم أخبئ شيئاً. وهذا أمر أراحني نفسياً. وأنا لم أخاطب، في مؤلفاتي، المؤرخ، بل خاطبت الإنسان العادي. وكل ما قمت به هو مخاطبة الإنسان العادي، أكان ذلك بالانكليزية أم بالعربية. وقد سهلت لغتي وطوعتها حتى تصل إلى أبسط إنسان في طريقة تفكيره».
تكمن أهمية هذا الحوار ـ الكتاب في انه آخر وثيقة خرج بها كمال الصليبي على الملأ قبل وفاته بأشهر قليلة ليعلن فيها بوضوح وبإيجاز خلاصة تجربته الحياتية والفكرية: «أعتقد أنني قلت كل شيء. ربما أغيّر تفكيري. لا أدري. ربما ينزل عليّ الروح القدس». وأفلح صقر أبو فخر في تحويله هذا الحوار إلى كتاب مرجعي عن الصليبي حياة وفكراً بعد أقل من عام على غيابه.
عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
– عن السفير