الإصلاح أهم من الثورة.. الثقافة العربية وراهنية كانط
أكتوبر 13, 2016
*علاء الدين محمود
لم تترك أم الزين بنشيخة المسكيني، منجزاً أو مقالاً أو نصاً للفيلسوف الألماني الكبير إمانويل كانط إلا واقتفت أثره، فكونت علاقة بتلك النصوص وما تحمل من مفاهيم فلسفية، هذه العملية جعلت المسكيني علي يقين براهنية أفكار كانط، خاصة إطروحاته حول الدين، وهي الراهنية التي تحملها المسكيني في مواجهة قضايا العصر وأزماته الكبرى خاصة في العالم العربي والإسلامي، ولم تغفل المسكيني في هذا الدأب منتج تلاميذ كانط ومعارضيه حول أفكاره من لدن دولوز ونيتشة ودريدا، وهو ذاته المنجز الذي حمل سابقا عنوان «كانط راهنا أو الإنسان في حدود مجرد العقل»، والذي هو بمثابة إعلان على راهنية أفكار كانط، فالمسكيني فيما يبدو استوعبت وهضمت تماماً نظرية كانط في الدين المتناثرة في كتبه ومقالاته، بل وربما جميع أعماله.
شب كانط على التربية الدينية البروتستانية، التي تقدم الأخلاق والتربية القويمة الحسنة ولم تكن الإصلاحات اللوثرية بعيدة الأثر على كانط، فقد تأثر بمارتن لوثر في حركته الإصلاحية، بل وكان لها تأثيرها الحاسم والكبير في تشكل نظرية الدين عنده، وكانت أولى دراساته في هذا الموضوع بعنوان «صورة ومبادئ العالمين المحسوس والمعقول»، ثم انهمرت كتاباته المؤسسة لفلسفته عندما قام بإنجاز عمله الضخم في مكانته الفلسفية «نقد العقل الصّرف»، الذي صرح فيه باستهداف وضع حدود للمعرفة البشرية لفسح المجال للإيمان الديني، ويتجلى الموقف الديني لكانط في ما طرحه حول التربية عندما نادى بضرورة أن ينهض الصغار على قيم الأخلاق أولاً ثم الدين، وهي العملية التي يرى فيها كانط تقويماً للسلوك وترسيخاً لمفهوم الواجب، لقد استهدف كانط الضمير والأخلاق، وجاء منجزه «الدين في حدود مجرد العقل» كتتويج لهذا النشاط وفيه يرى ضرورة أن يقوم الدين على الأخلاق وحدها، وإهمال الطرائق القديمة في ممارسة التدين.
وفي سبعة فصول احتواها كتاب المسكيني «كانط والحداثة الدينية»، تقتفي المؤلفة أثر كانط، فهو لديها جدير بالبحث عنه بوصفه «أداة ميتافيزيقية» تسهم في مواجهة ما أسمته «فضاءاتنا المثقوبة»، وهو التعبير المستمد من دولوز، وكذلك على ترميم «ذاكرتنا الفلسفية»، و«تراهن» المسكيني على راهنية كانط في إمكانية الانخراط في مواطنة كونية في العالم، تخفيفا من وطأة الانتماء ومن ثقل الذاكرة التاريخية، وتأخذ المسكيني بصرخة كانط التي أطلقها في بدء سفره الكبير «الدين في حدود مجرد العقل» وهي الصرخة التي تنشد مستقبلاً مسألة الدين في علاقته مع العقل عندما قال: «إن دينا يعلن الحرب على العقل سوف يصبح بمرور الزمن غير قادر على الصمود أمامه»، وبذلك يحاول كانط المقاربة بين فكر الأنوار الذي دعا لمفهوم حرية الإنسان وقدرته على السيطرة على الطبيعة، وفكرة الحداثة الدينية ونقد الممارسات الغربية والمسيحية للدين، وراهنية كانط التي تنشدها المسكيني بالنسبة لنا تتمثل في التحرر من ربقة الوصاية الفكرية والتعصب الديني معاً.
ويكتسب مناقشة مفهوم الحداثة عند الكاتبة أهمية خاصة، فهي ترى أن الإنسان العربي قد تعود منذ دهر من الزمن على استقبال استطيقي للحداثة، يكتفي فيه باستمتاع واستئناس بمكاسبها التقنية من جهة العلم، وباستهلاك وتشدّق بشعاراتها السياسية من جهة العمل»، وهي ترى كذلك في هذه الحداثة مفهوما يتم استعماله عربياً بكل حيطة وتوجس فلسفيين، حيث يتم استراق السمع إلى ما تقوم به الحداثة، في الأوطان العربية، ويتم تدبرها بعقول قد تكون مضادة للحداثة، وذلك لعدم وجود مشاركة حقيقية وفعلية في صيانة الحداثة لا على جهة العلم، ولا على جهة الفكر، وهذه إشارة مهمة تشخص الواقع العربي بغية استنهاضه، فالعقل الفلسفي العربي بحسب المسكيني ما انفك في عود على بدء، استئنافا أو اختصاما أو مغايرة، للأفق الوسيع لتنوير رسالته الأولى»تجرأوا على استعمال عقولكم «دعوة تحريضية من المسكيني لاستخدام العقل كونه المخرج من هذا المأزق، وهنا تميز المسكيني ما بين مفهوم التنوير والثورة من خلال فلسفة كانط، وترى أن هناك فلاسفة يصنفون ثوريين، وآخرين يصنفون محافظين، غير أنها تنفي عن كانط أن يكون فيلسوفاً ثوريّاً بالمعنى الشائع، وكذلك لم يكن أيضاً فيلسوفاً محافظاً، وهذه هي المفارقة التي تعالجها الكاتبة في منجزها، فقد كان كانط معجبا بالثورة الفرنسية، ويعتبر التمرد حقّاً غير شرعي أصلاً، وهذه المفارقة التي وضعتها المسكيني بين إعجاب كانط بالثورة الفرنسية، وبين اعتباره للتمرد غير شرعي، ترسم المسكيني ملامح كتابها لتتوافر المتعة والإثارة في تناولها لحياة كانط وفلسفته، ومن خلال هذه العملية تطرح العديد من الأسئلة، مثل: لماذا فضّل كانط التنوير على الثورة؟، وما الفرق بين التنوير والثورة؟ وإلى أي مدى بوسعنا أن نستعمل عقولنا في مدننا الحالية المؤقتة؟ وماذا نستعمل من أنفسنا ونحن في حالة ثورة لا نعرف مصيرها؟، عقولنا أم غضبنا؟، وهل يصلح العقل كي تولد الثورات وتزهر وتترعرع؟، وتشرع المسكيني في تبيان الفرق بين مفهومي التنوير والثورة من خلال وضع كانط للمسألة مستعينة بمقالته «ما هو التنوير؟» والذي كتب فيه: «عن طريق الثورة يمكن أن نسقط استبداداً فردياً، أو أن نضع حدا لاضطهاد يقوم على التعطش للثروة وللنفوذ، ولكننا لن نبلغ بها إصلاحاً حقيقياً لنمط التفكير، على العكس من ذلك ستنتعش بسببها أحكاماً مسبقة جديدة على غرار الأحكام القديمة».
ترى المسكيني في تفضيل كانط الإصلاح على الثورة أنه قائم على حجتين أولها: إن الإصلاح الحقيقي للعقول أفضل من ثورة تسقط حكماً استبدادياً، والحجة الثانية تقوم على أن الثورة قد تنشط أحكاماً مسبقة جديدة تشد إليها الدهماء التي تفتقر إلى الفكر، فكل ثورة تجلب معها أحكاماً مسبقة وقد تنشط أوهاماً قديمة وقع تجميدها من طرف الاستبداد، وتشير المسكيني هنا إلى الثورات العربية عندما طفت على سطحها أحكام مسبقة، وأوهام قديمة، والمتمثل في عودة المكبوت الأيديولوجي بأطيافه المختلفة تظهر هنا وهناك في تونس وليبيا ومصر واليمن وسوريا.
إن وصول المسكيني إلى «راهنية» كانط لم يكن فقط من خلال إطلاعها وحوارها مع أعماله فقط، بل وكذلك من خلال بعض الحوارات الطريفة التي أقامها الفلاسفةُ المعاصرون مع أطروحاته، فهو راهن بثراء إشكاليته، كما يبرز ذلك في مناقشات پول ريكور وحنَّة أرندت وجيل دولوز، وهو كذلك بخطورة الحلول التي قدمها، كما يبدو ذلك عِبْرَ اعتراضات جاك دريدا ويورغن هابرماس وهانس يوناس عليه، والكتاب في فصوله السبع حوار لهؤلاء المفكرين الذين أعقبوا كانط مع فكره وفلسفته، وهي العملية التي خرجت منها بمحصلة فن للتواصل والعيش معًا، حس جمالي بوجودنا في العالم؛ وأيضًا، مسؤولية أخلاقية حيال الآخر.
وترى المسكيني من خلال هذه المعايشة مع فكر كانط عند هؤلاء الفلاسفة أننا نواجه أربعة أسئلة، هي: كيف نتدبر علاقتنا بالحداثة التي لم نخرج منها بعد؟ وكيف نعيد ترتيب مسألة «التراثي» في حضارة لها من التجربة النظرية والتاريخية قرون طويلة؟ ماذا عن تدبير المدينة؟ وهل لا يزال ممكنًا الحلمُ بالمدينة الفاضلة؟ ماذا عن المستقبل؟، ولكي تطوف المسكيني مع أفكار المفكرين الذين أجروا حواراً مع أطروحات «كانط» في سبيل معالجة الأسئلة، تستعين بأربعة من كبار الفلاسفة والمفكرين الذين اشتغلوا على فلسفة كانط مثل: هابرماس في إشكالية كانط داخل الخطاب الفلسفي للحداثة، وكذلك من تأويل ميشيل فوكو لمقالة «ما هو التنوير؟»، كما تدلف إلى تفكيكية الفيلسوف جاك دريدا في المقاربة الكانطية للدين، في (كتاب الدين في حدود مجرَّد العقل)، وكذلك تلجأ المسكيني لتأويل حنة أرندت التي تبحرت في فلسفة كانط السياسية، لتناقش علاقة الفيلسوف مع السياسة.وتقارب المسكيني في المنجز بين تلك الفلسفة التي تفرض حضورها بقوة، في الواقع العربي المحبط في التشدد والأصوليات، والمندفع نحو الثورات، وهنا تستدعي المسكيني كانط مرة أخرى للتفكير في الثورات العربية، وترى أن كانط كان سيكون معجباً بها طالما أنها علامة على إمكانية أن تتحرر الجماهير من أجل تدبير مصيرها بنفسها، ولكن المسكيني تطرح في ذات الوقت سؤالا: هل تعتبر هذه الثورات تجسيدا للأمل التنويري الذي بشر به العقل الحديث؟ وتحذر من أن الكثير من التضحيات والنضالات ما زالت ماثلة من أجل توجيه تلك الثورات إلى دروب آمنة.
_____
*الخليج الثقافي