البرادايم المابعد كولونيالي في ثلاث قصص للتونسي الأستاذ د/أ. حمد الحاجي (2)
إن التطرق لمبحث ضمن العلوم الإنسانية وخاصة في باب (الإثنولوجيا الكولونيالية) وحالة ما- بعد الكولونياليّة بالأدب وبالقصة القصيرة جداً تحديداً، يعد مبحثاً مستحدثاً، وأعتبر نفسي أوَّل من تطرق إليه بدراستي هذه .
ولست أخفي نقص المراجع والمباحث النقدية، فالتجأت إلى ما كتب (- يهودا شنهاف-) وهو من أبرز المفكرين المناهضين للاستعمار، ومن أهم مفكري تيار ما بعد الاستعمار، والبروفيسور (يهودا شنهاف) هو أستاذ جامعي في معاهد أوروبا والشرق المرموقة منها، ومحرّر دورية (تيئوريا وبيكورت) (نظرية ونقد)، وأفدت من دراسته وبحثه (الكولونيالية وحالة ما- بعد الكولونياليّة: إثنولوجيا ترجمات وكتابات أصيلة) الذي أصدره: معهد فان لير بسنة 2004، وغيرها من الدراسات الحديثة النقدية.
تتمحور النظرية ما بعد الكولونيالية حول تأثير الاستعمار الجديد المعاصر على البنية الاجتماعيّة والاقتصادية والثقافية والسياسية، وأن البرادايم الكولونيالي يواصل فعله كعامل مركزيّ في بلورة وتصميم الوعي الحديث، حتى بعد انهيار الدول الاستعمارية الكلاسيكية والحديثة، وهو ما أوجد المبحث الذي نروم طرقه ألا وهو إثنولوجيا (الكولونيالية والحالة ما- بعد الكولونياليّة)، ومن أبرز الكتاب المناهضين لما بعد الكولونيالية فرانس فانون (خاصة كتابه بشرة سوداء، أقنعة بيضاء)؛ وأيضاً ألبير ميمي (صورة المستعمَر والمستعمِر)؛ وهومي بابا (من مؤلّف الهامشيّة والثقافة المعاصرة)؛ وغياتاري شكربارتي سبيفاك (من كتاب الماركسية وتفسير الثقافة).
وتعد القصة القصيرة جداً (ق. ق. ج) أفضل النماذج وأنجعها لدراسة المفارقة بشتى أنواعها وأساليبها؛ وذلك لأسباب عديدة من أبرزها أنها قائمة في الأساس على مبدأ الاقتصاد اللغوي الذي نادى به (دي. سي. ميويك) في كتابه (المفارقة وصفاتها)؛ فمنْ شروطِ المفارقةِ تحقيقُ أبلغ الأثر بأقلِّ الوسائلِ تبذيراً، وللمفارقة أهمية أدبية لا تقل عن أهميتها الإنسانية فنجد (أناتول فرانس) يقول: ” إِنَّ عالماً بلا مفارقةٍ يشبهُ غابةً بلا طيورٍ”، وأنا أقول إن الأدب بلا مفارقة يشبه الكتابة الفنية دون حروف.
وفي هذه المقالة سأدرس ثلاث قصص قصيرة جداً للمغربي حمد الحاجي محاولاً من خلالها اثبات أهمية المفارقة في الكتابة الأدبية، وتوضيح مدى الكثافة الدلالية التي تحملها القصة القصيرة جداً، كونها نصاً كاملاً مرتبطةً بمقولة بلاغية (خير الكلام ما قل ودل)؛ فهي لا تقل عن الرواية والشعر والمسرح والمقامة… دلالة واشارة وإبداعاً.
(حِكَايَةُ القِطِّ المَخْصِيِّ)
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثلاث قصص قصيرة جداً
ــــــــــــــــــــــــــــــ
1- ذات الأصول
ــــــــــــــــــــــ
هاتفتني.. زوجها يرأس كتيبة عسكرية تلك الليلة، و واعدتني ببيتها..
لم أترك أي شيءِ للصدفة، تسلَّلتُ ظلَّا بين الفوانيس..
إذا أردنا دراسة هذا النص من وجهة نظر مختلفة، وعايناه من زواياه المظلمة، سنجد سبغة ما بعد كولونيالية قد سُبغت به ظلال النص، لذلك لن يتم التعامل معه بسطحية؛ بل سيفكك ومن ثم يتم تجميعه بصورته النهائية.
المفارقة بين عتبة العنوان والخاتمة:
إن عتبة العنوان بعد تفكيكها لغوياً سنجد مفردة (ذات) وتمثل (الأنا) بكل أطيافها (الإنسانية/ الدينية/ العرقية/ الجغرافية…)، ومفردة (الأصول) التي تضرب دلالتها حتى تصل إلى الجذور التاريخية من حضارة وتراث ومفاخر يُفَاخَر بها.
أما الخاتمة (نسيت أن أتفقد أصل ذاتي) تشير إلى فقدان الذات والهوية، واندثارها مع مرور الزمن، مما يعني أن الشخصية تعاني من نقص في نظرتها لنفسها، وشعورها بالعجز، وذلك لا يعني أنها مفتقدة للأصل؛ بل هي مأصلة تاريخياً، ولكن (النسيان) هو ما أوصلها إلى ما هي عليه الآن.
والمفارقة بين عتبة العنوان والخاتمة مفارقة لفظية بامتياز، تحققت حيت قُلِبَ المبتدأ في العنوان (ذات) إلى خبر في الخاتمة (ذاتي)، والخبر في العنوان (الأصول) إلى مبتدأ في الخاتمة (أصل)، مما نتج عنه انقلاب دلالي تركيبي بينهما (أي العنوان والخاتمة).
مفارقة الشخصية:
إن النص قائم على ثلاث شخصيات أساسية متناقضة ومتفاوتة (الزوجة+ زوجها (قائد الكتيبة)+الأنا الساردة)، ولتوضيح طبيعة التناقض ستقسم الشخصيات إلى ما يلي:
– ذات الأصول ¹ البطل (مفتقد ذاته).
– ذات الأصول ¹ زوجها قائد الكتيبة؛ فهي اكتسبت الحسب والنسب من زوجها، وزوجها اكتسب الحسب والنسب من منصبه ووظيفته، وهذا المنصب وصل إليه من خلال نظام الدولة الحاكمة التي تنتقي رجالاتها بدقة…
– الأنا الساردة (البطل) ¹ قائد الكتيبة، في المرتبة والمنصب.
وهذا التناقض (المفارقة) بين الشخصيات، أثرى النص بالسرد الحكائي من دراما وأحداث وخلق حالة كرّ وفرّ، ومن ثم كان بمثابة (المد/الجزر) أو (الشهيق/الزفير) الذي سيحيي النص بتعدد قراءاته وتأويلاته.
ومن خلال تتبع المفارقة النصية وأنواعها يمكن إعادة تركيب النص وتجميعه باطمئنان؛ فالنص يمثل حالة من التناقض بين طرفين غير متكافئين في القوة وفي التاريخ والأصل، فالطرف الأول (الأنظمة الغربية) مهما بلغت من القوة والبأس ستبقى عاجزة وضعيفة؛ لأن قوتها اكتسبتها بإرهابها وهيمنتها، وليس بالحق والعدالة، فثغراتها عرّتها (الأنا المضطهدة) بمجرد محاولتها استرجاع تاريخها وتفقد كل ما يحيط بها بشكل صحيح من معطيات الحياة المادية بحداثتها وثوبها الجديد.
قائد الكتيبة = النظام الحاكم .
الزوجة = الدولة المدنية وسكانها.
الأنا الساردة = الشرق المضطهد .
2- وسادة من أثواب
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
مرَّ الهزيع سريعا، سمح زوجها لجنود دورية الليل براحة خفيفة، واغتنم سهادهم وأتى..
عند الباب، قبَّلته الزوجةُ كثيرا حتى أغمض عينيه ..
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مفارقة الحدث:
إن مفارقةَ الحدث تقومُ على مبدأِ خلقِ حالة من الدهشةِ والغرابةِ لدى القارئ الَّذي يطمئنُّ إلى أنَّ الأحداثَ تسيرُ وفق مسارٍ معين، ولكنَّها فجأةً تخيبُ توقعاته وتأخذ انعطافاً حاداً يغيّر مجرى الحدث، وتتحققُ أيضاً -مفارقةُ الحدث– حين تجري الأحداثُ على النقيضِ ممَّا هو منتظر باطمئنانٍ من لدن الضحيةِ الَّتي تجهلُ حاضر الأحداثِ ومستقبلها، فترتبكُ خططها، وتخيب توقعاتها وآمالها ورغباتها حين تكتشفُ الحقيقة ؛ فالضحيةُ غالباً تكونُ شخصيةً فاعلةً في المتنِ الحكائي، كما في هذا النص.
في القصة الأولى اطمأنت الضحية لكل ما يحيط بها، ولكن خابت توقعاتها (انكسر أفق التوقع) حين عاد الزوج إلى منزله، مما خلق حالة اضطراب وارتباك للشخصيات، ومفارقة الحدث كان لها دور فاعل في تسريع إيقاع النص الداخلي، فالمتلقي عاش ما عاشته الضحية وتوتره لا يقل عن توترها واضطرابها، هذا من الناحية السطحية، أما من الناحية العميقة التي انتهجناها لمعاينة النص من وجهة نظر (ما بعد كولونيالية)، يمثل المشهد السابق حالة العالم بأكمله خلال هذه الأيام، وهي حالة التطرف والإرهاب؛ فعند انفلات القبضة الأمنية (التراخي الأمني)، وعند اختيار الرجل غير المناسب لأكثر المناصب حساسية، تنشط الخلايا النائمة من أصحاب الفكر المتطرف وذلك عادة يكون في (الدول الغربية) التي أخذت على عاتقها محاربة الإرهاب دون وعي منها أنها تنشطه وتزيد من قوته وفعاليته بانضمام العديد ممن يروا أنهم مضطهدين ومظلومين؛ فحالة التراخي تبعتها قبضة أمنية وفق معطيات غائبة (محذوفة من النص) منعت حدوث كارثة محققة، ولكن الكارثة الحقيقية وقعت على رأس (ابن الأصول) الذي اختبئ وغطى رأسه كالنعامة التي دفنت راسها في التراب عاجزاً عن الدفاع، ومواجهة الواقع.
وهنا ظهر دور الدولة (الزوجة)، وكان أكثر وضوحاً من النص الأول؛ فالدولة المدنية الديمقراطية تحتضن في داخلها كل من تراه ضعيفاً وعاجزاً وبحاجة إلى ملجئ، وعند وقوع الفأس بالرأس (حدوث عمليات إرهابية) تُقَبّل النظام الحاكم (الزوج) لهجماته وتجريحه واتهاماته حتى يشفي غليله، وظهر أيضاً (القط) الذي يمثل الطرف الثالث المستفيد الأكبر من هذه النزاعات والصراعات الذي ينام قرير العين مرتاحاً أمام ناظر (النظام/ القوى العالمية) فوق أرض (أثواب) اغتصبها وليست ملكاً له.
3- القط والكلاب
ــــــــــــــــــــــــــــــ
جلس على السرير.. داح به؛ اعتصر ضلوعي، نزع حذاءه، وجذب الجلد من فوقي ثمَّ وضع حافيتيه عليه ..رمى جوربيه، غطَّى بهما فمي وأنفي ..يتشممهما قط يرافقني، يلعق حينا اصبع ساقي وحينا بأظافره يخدش مؤخرتي العارية.. تسمَّرتُ..
بينما هي تصرخ ممسكة برأس زوجها الى صدرها : اريد كلبا.. كلبيْن ..
وقضَّيْتُ الليلة متجمدا أسمعها تقول : ارم القط المخصيَّ من النَّافذة ..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يمكن أن يكون هذا النص متمماً للبناء الدرامي القائم على جهل الشخصية بحقيقة الأمور من حولها، ومن ثم جهلها بمصيرها (مفارقة درامية)؛ فبينما هو مختبئ ينتظر لحظة الفرج للفرار بجلده، حدثت أمور لا يفهمها أو تظاهر بعدم فهمه لها، أول هذه الأحداث أن الزوج رفع الجلد وجلس فوقه ولم يراه، وقول الزوجة (أريد كلباً…كلبين/ ارم القط المخصي)، ومن ثم قُطِعَ المشهد عند هذا الحد، تاركاً المجال للمتلقي أن يكون فاعلاً، ويكمل الحكاية بما يناسب وجهة نظره (رؤيته) لما يمكن أن يحدث بعد ذلك…
هذا من الناحية السطحية، أما القراءة العميقة تقول بأن الزوج (النظام الحاكم) يعامل الشرق بكل استحقار واستعباد، فيسرق خيراته، ويجعل سكانه عبيداً تحت أقدامه، والمشرق بالنسبة له عبارة عن مكب نفايات لمخلفاته، ومستهلك لمنتجاته… والطرف الثالث (القط) لا يفوِّت مثل هذه الفرصة، ليشارك بالأذى ويقتنص غنيمته، أما الزوجة (الدولة) تطلب من زوجها (النظام الحاكم) أن يوفر لها كلب أو كلبين مثل المختبئ أسفل السرير (إشارة لضرورة الاستفادة من التجربة الناجحة مع الكلب الأول) لتتمتع وتنعم بالرخاء المادي والاقتصادي على ظهور المهمشين، إضافة لرؤيتها بضرورة فض الشراكة مع الطرف الثالث (القط) الذي لا فائدة منه (مخصي) عاجلاً أم آجلاً، وهذا ما لوحت به بعض الأنظمة الأوربية في الآونة الأخيرة.
لئن كانت الاثنولوچيا (Ethnology) فرع من فروع الانثروپولوچيا، بصفة عامة، تعرف بأنها علم دراسة الإنسان ككائن ثقافي و بأنها الدراسة المقارنة للثقافة، ولئن ذهب هوبل (Hoebel) إلى أنها: فرع من الانثروپولوچيا لكنها بحث تخصصي يهتم بتحليل المادة الثقافية وتفسيرها بطريقة منهجية، فإن هذه الدراسة انتهت في عالم القصة القصيرة جداً الى مجموعة نتائج أبرزها:
1- المفارقة تقنية بلاغية فاعلة في النصوص السردية، وتكون أبلغ أثراً في القصة القصيرة جداً
2- النصوص بأكملها على قصرها واختصارها كانت (ممسرحة) كأن المتلقي يشاهدها أمامه.
3- الضحية (الأنا الساردة) تصف الأمور بعفوية وجهل، ولا تمتلك بعد نظر.
4- القصة القصيرة جداً لا تقل قيمة أدبية ودلالية عن باقي الأجناس الأدبية الأخرى، وقد تتجاوزها لعمقها ومقصديتها المتشظية.
5- النصوص السابقة أخذت المتلقي إلى عوالم (موسم الهجرة إلى الشمال) للطيب صالح.
6- تجسيد للواقع بسخرية وتهكم نتج عنه (مأساة) مؤلمة، ولم ينتج عنه ضحك.