الكلب والتماثيل

خاص- ثقافات

المطر يتساقط بشدة .. وها أنا أسير في الشارع مبللاً كقط مشرد ، والماء قد دخل إلى حذائي .. فأصبحت عملية المشي أمراً مزعجاً وباعثاً على السخرية . لفحات متتالية من الهواء البارد الممزوج بالمطر تصفع وجهي فأندم على خروجي في مثل هذا الوقت ..

الليل يزحف ببطء وتثاقل على المدينة .. كثير من المحلات التجارية أغلقت أبوابها الزجاجية .. وجلس أصحابها باسترخاء حول المدافئ .. محلات الخضار أشعل أصحابها الخشب وجلسوا حول النار يشربون الشاي الساخن ويسعلون من الدخان الكثيف المتصاعد من النار ..

البرق يلمع فجأة .. تبعه صوت الرعد غاضباً مزلزلاً .. يجب أن أسرع .. أليست فكرة مجنونة هذه التي تدفعني للمجيء إلى المقهى في مثل هذا الطقس ؟! لكنني أحب الشتاء ، بل إنني أكاد أجزم أنه أحب الفصول إليّ ..!

أتأمل اللافتات المضيئة .. (صالون الكاوبوي الأسمر !) .. لكن كلمة (بوي) لا تضيء .. أبتسم وأسير محاولاً الاحتماء بالمظلات المتناثرة بين مسافة وأخرى ، ها هو الجسر الحديدي الممتد بين ( جناعه ) ومدخل ( سوق النصر ) ..كثيراً ما تساءلت عن معنى وجود هذا الجسر الممتد بكآبة في المطر والفراغ .. فهو بلا أدراج ويتمدد بحمق قاطعاً الشارع دون أن يتمكن أحد من استخدامه .. ! أهز رأسي كفيلسوف وأتمتم : – كم من أشياء لا داعي لوجودها ..لكنها موجودة .. بل وتصبح أشياء ثابتة بديهية يصعب تصور عدم وجودها ..! أحاول أن أتذكر أين ومتى قرأت هذه الكلمات .. دون جدوى ..

تلفح أنفي رائحة دافئة .. رائحة الفلافل المنبعثة من مطعم (أبو رجائي ).. الذي كان مزدحماً، وصوت القلي ورائحة الفلافل تجذب الناس فيدخلون ولا يخرجون ..

وأخيراً .. ها هو المقهى ( مقهى الروشه ) .. اسم فخم ، ولعل هذا الاسم هو الذي شجعني لأن أصبح زبوناً لهذا المقهى بالذات ! .. عند المدخل تجمع ماء المطر مشكلاً بركة صغيرة لا بد من اجتيازها عند الدخول والخروج .. لكنني مبلل ، ولمعة برق أخرى تقذفني قذفاً إلى الداخل .. أصعد الدرج مسرعاً ، فيستقبلني هواء ساخن مشبع برائحة القهوة والشاي والدخان ..

المقهى مزدحم .. والدفء يبعث على الارتياح . اشمل المقهى بنظرة واسعة .. هاهي طاولة فارغة بالقرب من الزاوية . النوافذ مغلقة .. وبضعة مصابيح كهربائية صفراء تصب ضوءها الباهت على الوجوه والكراسي الخشبية القديمة والطاولات .. صوت قطع الزهر وأوراق اللعب والاراجيل يضفي على المقهى جوه المعتاد .. وها هو عباس يروح ويجيء بالطلبات كعادته منذ قرون .. أبتسم وأكاد أقسم إنني شاهدته في أحد المسلسلات المصرية .. على الطاولة فنجان قهوة فارغ وأوراق لعب مبعثرة وجريده .. أتناول الجريدة بحركة آلية .. أنتبه لصوت عباس :

– أهلاً أستاذ .. تشرب حاجة ؟

– شاي .. شاي ثقيل بالميرميه ..

أقرأ عناوين الصفحة الأولى فأشعر بالبرد .. وأقلب الصفحة ، يلمع البرق في الخارج فجأة .. أشعل سيجارة وأقرأ ..

(مطلوب عمال نظافة) .. (مطلوب عمال تحميل وتنزيل ) .. وأشعر بالغيظ .. لا لشيء .. سوى لأنني أضعت ستة أعوام في الجامعة ..! .. برج الثور : – رسالة تصلك من صديق قديم .. لا تبذر نقودك .. حسناً ، لن أدفع ثمن الشاي لعباس هذا اليوم ! .. ( كلب مفقود .. كلب نوع وولف .. بني اللون .. في رقبته طوق مذهب .. جائزة 500 دينار لمن يعثر عليه ) .

– الشاي يا أستاذ .. تشرب أرجيله ؟

تبدو الفكرة جيدة ودافئة ، انظر إلى عباس .. أراقب ابتسامته الدائمة ونشاطه الآلي

– ألا تشعر بالحزن ابداً يا عباس ؟ .. يضحك ويقول :

– اللهم أبعد الأحزان .. رضا والحمد لله ..

أهز رأسي قانعاً .. ويذهب عباس صائحاً : – أرجيله مضبوطة للأستاذ ..!

( مطلوب مهندس ) .. عظيم .. الشروط .. خبرة عشر سنوات .. الأولوية لخريجي الجامعات الأمريكية .. رائحة الميرمية تبدو منعشة ولذيذة ..!

انتبه لصوت المقعد بجانبي .. وصفعة خفيفة على رقبتي ..

– مساء الخير والدفء والشاي ..

أشعر بالارتياح .. يجلس .. انظر إلى شعره المجعد المبلول وعينيه الواسعتين وكأنه في حالة اندهاش دائم .. وفمه الذي يتحدث كثيراً ..لم يتغير ابداً منذ أن عرفته في أول أيام الدراسة الجامعية .. ينادي عباس طالباً شاياً وأرجيلة .. يفرك يديه بشدة ويحتضن كأس الشاي بكلتا يديه ..

– كيف شغلك ؟

– عظيم .. أنزلت اليوم لوحدي نصف شاحنة خضار ..!

اضحك فجأة وأقول : – لو عرضتك للبيع .. هل تساوي خمسمائة دينار ؟

يرد وهو يرتشف الشاي بصوت مسموع : – ومن الذي يشتري الهم من صدر صاحبه ..؟!

الوقت يمضي .. وها نحن نلعب الزهر للمرة الثالثة .. ننتبه على صوت صاحب المقهى وهو يصرخ :

– ألق بهذه الملعونة إلى الخارج ..!

كانت طفلة متسولة في السابعة أو الثامنة من عمرها .. مبللة تماماً وترتدي حذاء كبيراً ممزقاً ..

يمسك عباس بالطفلة من كتفها ويخرج بها .. بعد لحظات ارتفع صوت سيارة وهي تتوقف بصورة مفاجئة .. كان صوت الكوابح عالياً لدرجة أن معظم الجالسين أسرعوا لإشباع فضولهم .. ومعرفة ماذا جرى ..!

أتذكر الطفلة .. انظر إلى عيني صديقي ونقوم بسرعة .. كانت سيارة فخمة تقف بمحاذاة الرصيف وقد اصطدمت بسيارة أخرى ، وعلى الأرض كانت الطفلة ممددة بلا حراك .. وخيط رفيع من الدم يسيل من فمها ..

أحدهم يقول : – يا لها من شقيه .. كنت أعرف أن نهايتها ستكون هكذا .!

صوت آخر يقول : – ينجبون الأطفال ويلقونهم في الشوارع ليبتلي بهم الناس !

سائق السيارة الفخمة ينظر إلى ساعته منزعجاً .. يبدو أنه تأخر عن موعد هام .. بينما صاحب السيارة الأخرى يركض من بعيد ثائراً مهدداً .. أحاول أن أتقدم لحمل الطفلة .. أكثر من صوت يصرخ بي :

– لا تلمس شيئاً .. حتى تأتي الشرطة ..

يذهب صديقي لإحضار سيارة أجره لنقل الطفلة إلى المستشفى .. انظر إلى وجوههم .. مجرد تماثيل .. تماثيل فارغة متحجرة .. انظر إلى الطفلة .. كان خيط الدم يسيل ببطء ممتزجاً بماء المطر .. يسيل ويمتد .. ويتعرج مشكلاً صورة تبدو كلوحة رسمها طفل في السابعة أو الثامنة ..كان خيط الدم يرسم كلباً نوع وولف .. بني اللون .. في عنقه طوق مذهب ..!

 ______

*كاتب أردني

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *