خاص- ثقافات
*عبد الله لالي
( أيلول ضلّت في مكانها متسمّرة ، لم تتحرّك ، ولم تصرخ ، فقد جثمت على كاهلها اللّحظة الخرساء، فأسكتتها إلى الأبد ..) من رواية ( نساء في الجحيم ) ..
من ( لحظة خرساء تبدأ الرواية )2 ، لحظة خرساء صارت الهاجس الأكبر الذي لازم بطلة الرواية طول رحلة التشرّد والضياع والإبعاد عن الوطن..
كانت تلك هي الملامح الأولى التي بدأت تتشكل في ذهني من قراءتي لرواية ( نساء في الجحيم ) للأديبة الروائيّة عائشة بنّور ، هذه الرواية التي اندمجتُ في بوتقتها الآسرة منذ حطّت حمامة بريّة شاردة بين يدي ، وهي تتململ في رفرفتها المتعبة ؛ بحثا عن عالم السّكينة الذي ترنو أن تحطّ بين جنباته عصا التّرحال ..وهيهات .. !
في هذه الرواية أظهرت عائشة بنّور تمكنا فنيّا كبيرا في حياكة عالمها السّردي ، الذي جعلت منه ، جنّة حافلة بكلّ أنواع الفنّ والأدب والفكر رغم كلّ الوجع والألم الذي رافق أبطال الرواية ووشح إفضاءاتهم المريرة ، وكان السّرد في أغلبه دفقا متتابعا من التأمّلات والاسترجاع للأحداث على ألسنة عدّة شخوص ، تقمّصوا دور البطل الذي يتولى السّرد المرير والحكي الأليم ..
تحكي الرواية قصّة مأساة الشعب الفلسطيني المنكوب مرّات عدّة ، في التقسيم والنزوح إلى داخل الوطن وفي التهجير بعد الاحتلال الكامل ، والتهجير بعد التهجير من بيروت إلى سوريا ، ثم إلى أرض الشتات في كلّ مدن العالم ، ومنها مصر وفرنسا وإسبانيا ، وغيرها من مدن العالم المستمتع بالدراما الفلسطينيّة الحيّة ، وتمثّلُ هذا التهجير والتشرّد بشكل مكثّف في صورة أسرة غسان كنفاني ، وأيلول بطلة الرواية الأساسيّة التي روت المأساة في غالب في فصولها ، رغم تقنيّة تعدد الراوي التي اتبعتها المؤلّفة ..
ومزجت الكاتبة مزجا متقنا ورائعا بين مأساة الشعب الفلسطيني ونضاله في سبيل حريّته، وبين نضال الشعب الجزائري وثورته التحريريّة التي ضربت فيها أمثلة حيّة من البطولة النّادرة ، والشجاعة الخارقة التي تتجاوز كلّ العوائق والعقبات التي تسمّى – خداعا – مستحيلا ، وأثبتت التجارب أن لا مستحيل مع إرادة الإنسان الحرّ وعزيمته.
تنقلت مشاهد الرواية من ( اللّازمة ) التي سمتها المؤلّف ( اللّحظة الخرساء ) وتكرّرت في الرواية أكثر من عشرين مرّة وكانت عنوانا لأحد الفصول أيضا، وهي لحظة تفجير بيت البطلة أيلول وبداخله أسرتها المكوّنة من الأب والأم والأخ الرّضيع الذي تفحّمت رضّاعته على شفتيه من شدّة الانفجار ، إلى الهجرة إلى دمشق حيث الملاذ الآمن إلى حين ، ثمّ إلى إسبانيا حتى تكون الخاتمة بسماع مقتل غسان كنفاني في تفجير مشابه ، لتتكرر اللّحظة الخرساء بشكل يكاد يكون متطابقا، وخلال كلّ فصول الرواية تحضر الجزائر وثورة الجزائر رديفا حيّا، يكاد يكون التوأم السِّيامي للثورة الفلسطينيّة ، ويتداخل السّرد حتى يفقد معه القارئ – في بعض اللّحظات – الشعور بهويّة البطلة الحقيقية .. هل هي فلسطينيّة أم جزائريّة .. !!
في العنوان وتفرّعاته:
لا أومن بالقراءات السّمائيّة 3 كثيرا آلية وحيدة لفهم العمل الإبداعي ، لكن لا بأس أن نستأنس بها إلى حدّ ما من أجل أن نتفيّء بعض ظلال العناوين والعتبات ، ذلك لأنّ كثيرا من العناوين لا تدلّ على حقيقة المتن بشكل كامل ، وربّما اجتزئ بتسميّة الكلّ باسم الجزء ، وربّما كان خطّ العنوان وألوانه وصورة الغلاف هي من ابتداع صاحب المطبعة الذي – غالبا – لا يقرأ الكتاب ولا يحيط بمضمونه ، لكنّ في رواية ( نساء في الجحيم ) الأمر يختلف ، فالعنوان له دلالته السيمائيّة التي ترتبط بالمتن ارتباطا وثيقا ..
لون الخطّ تدرّج من الأحمر القاني إلى الأسود الداكن ، وفي ذلك شيء من الإحالة الرمزيّة على لون النّار والدّم في آن معا ، فالنار تكون حمراء ثمّ تُصيّر ما تحتها رمادا ، والدّم يكون في بدء تدفّقه أحمرَ ثمّ يصير إلى السّواد .. ومأساة فلسطين بدأت نارا متأججة ثمّ استحالت حزنا أسودَ ، طوّقها عقودا من الزمن لا يدري أحدٌ منتهاها .. وذلك هو جوهر الرواية من مبتدئها إلى منتهاها ..
وفي الصورة المرفقة أسفل العنوان يدٌ متراخية ترسل دفقات من تراب الأرض ، وتظهر في الخلفيّة شمس مشعة إشعاعا خفيفا كأنّما هو الغروب الحزين ، يشير إلى النهاية المأساويّة وهو الأقرب إلى مضمون الرواية ، وكأنّما هو الشروق ( بقراءة أخرى ) ، يوحي بالأمل في حياة جديدة على تراب الوطن .. تركيبة غائمة تبعث في النّفس إحساسات متناقضة ، ومشاعر مشوّشة ..
وفي معاني العنوان نفسه شعور بالنّار المتلظية والدّماء المنهمرة التي تحيلها النّار إلى لطخات من رماد. يجعلك العنوان من أوّل وهلة تشعر بالشفقة والأسى على هؤلاء النّسوة اللواتي عشن في الجحيم ، جحيم من صنع بني الإنسان لبني الإنسان.
دلالة الإهداء:
كان الإهداء مرفوعا إلى شهداء الجزائر وفلسطين معا ، وذكرت المؤلّفة منهم ( دلال المغربي ، مريم بوعتّورة ، غسان كنفاني ، شادية غزالة ، ناجي العلي ..) ويتناغم الإهداء مع نسيج المتن السّردي الذي تمازجت فيه المشاهد من فلسطين والجزائر ، لاسيما في الفصول الأولى ، وكأنّها لوحة فسيفسائيّة شكّلت بالدّم والنّار ..
العناوين الفرعيّة :
وفي العناوين الفرعيّة مجال آخر للقراءة واستنباط الدّلالات العميقة ، ومن تلك العناوين نقتطف هذه الباقة ( عصفوري طائر المحنا / الحنين / النّكبة / الحبّ والنّضال / اللّحظة الخرساء / تلال الرّمال / عطر الماضي / بطاقة هويّة / وتبكي السّماء / العمود الأخير …).
كلّها عناوين حزينة موجعة ، رغم أنّ بعضها مباشر لا يعتمد الإيحاء لكنّه يدلّ على الحقيقة المريرة التي لا يمكن أن تُغطّى بالأصباغ ، أو تزيد الألوان من بشاعتها ، يكفي سماعها لاستفظاعها واستهوالها .. !
رسالة الجريح إلى الجريح ..
وعتبة أخرى تجعل الجرح يلتحم بالجرح فيتوحّد النزف ويتوحّد الألم ، تلك هي مرثيّة الشاعر محمود درويش السّرديّة في غسان كنفاني ، التي قدّمتها المؤلّفة بين يدي بداية السّرد الروائي ، وقد جاء في مستهلها :
” ويا صديقي غسّان !
إنّ البياض أمامي كثير ودمك الذي لا يجفّ ما زال يلّون ..”
حضور محمود درويش شاعر القضيّة الفلسطينيّة كما يسمّى ، يضع القارئ في مسار محدد سلفا ، إنّه مسار التحدّي والمواجهة والإصرار على الانتماء للوطن ، رغم الدّموع والدّماء ورغم التهجير والإبعاد ، وحضور الشاعر في الرواية له نكهته ، كما له تأثيره السّحري، ولعلّه يكمل الجانب الآخر لبطل الرواية ( غسان كنفاني ) الكاتب والروائي ، فهذه العتبة تفضي بنا إلى المكان الصّحيح والمولج الأجدر أن ندخل من خلاله.
وعتبة أخرى:
هي إحدى المقتطفات من كتابات غسان كنفاني ، ويقول فيها :
” إنّ الشيء الوحيد الذي أردته بشدّة في حياتي لا أستطيع الحصول عليه ، لقد تبيّن لي أنّ حياتي جميعها كانت سلسلة من الرّفض …”
كانت ظلال غسان كنفاني في الرواية كثيفة ، ووارفة وإن لم يظهر فيها بشكل عنيف في بداياتها ، إلا أنّ هذه العتبة نابت عنه ، وأيلول وغادة كذلك ، تحدّثتا عنه ، وملأتا الفراغ الذي تركه ، ذلك لأنّ ( الجحيم ) هنا هو جحيم النّساء أولا .. وإن كان للرّجال جحيمهم فهنّ على كلّ حال شقائق الرّجال .. شقائق في كلّ شيء حتى في الألم والوجع .. وغربة الوطن وغربة الروح..
وعتبة ثالثة ..
هي مقتطف مأخوذ من نصّ الرواية وضع وسما يشير إلى زبدة الرواية في الوجه الأخير من الغلاف، تقارن فيه الكاتبة بين غسّان كنفاني وبين ( لوركا ) ، تقول في ذلك المقتطف مناجية غسّان كنفاني على لسان غادة حبيبته:
” يوم مولدك يذكّرني بإعدام لوركا الذي بعث فيك من جديد ..” إلى أن تقول :
” عند اغتيالك كان عمرك ستة وثلاثين عاما ، وأعدم لوركا وهو في الثامنة والثلاثين من عمره وفي نفس الشهر يغيّب الموت أجسادكما ..”
والمقتطفات التي توضع في الوجه الأخير من الغلاف لها رسالتها الخاصّة ، فهي تُختار بعناية وتكون مركّزة وتمسّ محتوى المتن بشكل مباشر ، هي نوع من التكملة لعنوان الكتاب ، ولها جذب خاص للقارئ ، والقرّاء عموما ينظرون بداية في وجهي الغلاف لسَبر محتوى الكتاب، قبل الإقبال عليه أو الانصراف عنه..
وهذه العتبة تمدّ خيوطا متينة من نور بين النّضال الإنساني عامّة ، وتوحّد بين جهود المناضلين في سبيل الحريّة ومحاربة الظلم والطغيان ، مهما كانت أجناسهم أو معتقداتهم ، والقاسم المشترك الأكبر بين غسّان كنفاني والشاعر الإسباني الشهير لوركا هو عشقهما للحريّة وموتهما المأساوي في سبيل ذلك ، إذ أنّ لوركا أيضا أعدم عام 1936 م رميا بالرّصاص ، واختفت جثته بعد ذلك ولم يعثر عليها ..
هي عتبة قويّة بلا شك ، تعطينا ملمحا واضحا عن مضمون الرواية القيّمة ..
ـــــــــــــ
1 – عائشة بنّور من مواليد 1970 م بولاية سعيدة ، قاصّة وروائيّة ، لها مؤلفات مطبوعة منها: – الموؤودة تسأل .. فمن يجيب ؟ ( مجموعة قصصية ) نشر دار الحضارة 2003 .
ـ مخالـب (مجموعة قصصية) نشر جمعية المرأة في اتصال 2004
ـ السوط و الصدى ( رواية) نشر وزارة الثقافة 2006.
ـ اعترافات امرأة (رواية)2007 نشر دار الحبر، تتصدرها مقدمة للدكتور موسى نجيب موسى (مصر) والباحث الناقد بوشعيب الساوري من المغرب.
ـ سقوط فارس الأحلام ( رواية ) 2009 دار نورشاد.
ـ سلسلة حكايات شعبية (الشيخ ذياب ـ لونجـا ـ بقرة اليتامى ـ بنت السلطان ـ الأميرة السجينة (عشبة خضار) ـ الفرسان السبعة والأميرات ـ) وكلها مترجمة إلى اللغة الفرنسية.
ـ أبو راس الناصري، قصة للشباب.ـــــــــــــــــ المرجع موقع ( ديوان العرب ) الإلكتروني.
2 – رواية ( نساء في الجحيم ) منشورات دار الحضارة 2016 م
3 – يفضّل الدّكتور عبد الملك مرتاض تسميتها بـ ( السيمائيّة ) ، ويقول أنّها أكثر دقّة من حيث الترجمة، وأكثر اتصالا بالمصطلح العربي الذي سبقنا الغربيون في تحديد مدلوله الإصطلاحي في فهم النّص وسبر أعماقه.