وادِي المَوْت

خاص- ثقافات

محيي الدين  كانون*

  تَحسْست بخطواتٍ ثقيلةٍ مواقعَ هيْكلِها النّاشِب في الأرْضِ الصّخْريةِ لِئَلاَّ تسْقُطَ مُغْشِياً عليْها، تميدُ الأرضُ مِن حولِها مِن شِدّة التَعبِ، فتحاول بِمشقةٍ بالغة أن تسْتطلعَ المكانَ مِن حولهِا بحركةٍ مِن عُنْقِها النّحيلِ المكدودِ، لا شيءَ  هُنَا غيْر وَحْشةِ المكانِ، والسكونُ الرهيبُ يلْتفُّ على خِناق الواديِ، ويكْتُمُ أنْفَاسَه بشاهقِ العَدمِ، تشْرئبُّ برأسِها الصّغير بِحركةٍ يائسةٍ، تسْتطلعُ الصّمْتَ الجَبّارِ من عينين كُحْليتين واسِعَتين ومُتْعَبتين، تَجُوسان في الأُفقِ المُنْهَمرِ عَن أضواءِ مُشعْشَعةٍ بِلوْن البُرتقالِ، تَتَنزّلُ الشّمْسُ عَنْ عَرْشِها لِملْك الغُروبِ الصَّمُوتِ الزّاحفِ رويداً رويداً حتّى الغَوْصِ وراءِ حاجزِ وادي المَوْت، أصواتُ العِقْبان تصْطَفقُ أصدائَها في جَنَبَات الواديِ حوْلِ جُثْةٍ هامدةٍ لحيوانِ في العراءِ  تيبّسَت عروقَه الناشفةِ مِن نُدْرةِ المَاءِ، يُجاوبُ أصداءَ العِقبانِ عنْ بُعْدٍ ثُغَاءِ قَطيعٍ مَهْزومٍ من الماشيةِ، داهَمه الليلُ، وأرادَ أن يسْتقرَّ ويسْتكينَ من رحْلتِه اليوميّة.

          ارتكزتْ عَلى حافةِ الوادي، ولمْ تسعْها الحركةُ، مدّتْ عُنْقَها على ركيزةٍ صخريةٍ لتبْتردَ  وتتنَسمَ رخّاتِ ربيعيةِ قادمةٍ، داهمَها وجعُ المَخَاض يُنذِر بالطّلْقِ، واستقرّ كمِدْية حادّةٍ تقْطَعُ الحِجابِ الحاجزِ، ارْتَعَشتْ مفاصلُها في تماوجٍ،  ثُمَّ ارتجفَ كلَّ كيانِها الهزيلِ فاحتوى مُحَاق العينين مسافة المكان و الزمان في برهةٍ واحدة، وزحفتْ الظلمةُ، وزادَها وجعُ المَخَاضِ، تعَسْرت قليلاً، بدأ شبْحُ شاهقِ العَدَمِ قادماً ينُوحُ من بؤُبؤُ العينين، أغمضت المسكينةُ عينيها لتطويَ العَدَمَ في آخرِ قطْرةٍ، واستسلمتْ للمغيبِ كاملاً عَلى نداءِ حشْرجةٍ  ومأمأةٍ حادةٍ ابْتَلعَها وادي الموْتِ في جَوْفهِ.

*  كاتب وأديب من ليبيا.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *