ماذا يعني الحديث الآن عن الإصلاح الديني؟ ولماذا هو مشكل؟
عندما يظهر مصطلح الإصلاح الديني فهذا يعني، أو هو يعلن عن تناقض. تناقض بين «النظام الديني» و«النظام الاجتماعي»، السائدين عند نقطة زمنية معينة: النظام الديني لم يعد يشبع حاجات النظام الاجتماعي. والنظام الاجتماعي لم يعد يحتمل إلزامات النظام الديني.
النظام الديني ينشأ أصلاً كإفراز للنظام الاجتماعي الذي ظهر فيه إبان حقبة التأسيس. ولذلك فإن المراحل الأولى اللاحقة على نشأة النظام الديني، لا تعرف مصطلح الإصلاح الديني، لأن النظام الاجتماعي يكون هو ذاته أو قريباً منه، ومن ثم فلا مجال للحديث عن تناقض.
التناقض يبدأ، بشكل تدريجي، مع تزايد المسافة الزمنية الفاصلة بين اجتماعيات النشأة الأولى للنظام الديني، واجتماعيات الواقع الاجتماعي اللاحقة عليه. والسبب ببساطة هو أن النظام الديني يتم تثبيته كمقدس بطبيعة التدين، فيما أن النظام الاجتماعي يستمر في التطور بطبيعة الاجتماع وقوانين العالم.
التناقض إذن ضروري، ودوري.
وبالاستقراء التاريخي لعلاقة النظامين، على المستوى التوحيدي، نلاحظ الآتي:
في المراحل الأولى تكون التناقضات طفيفة، ولذلك يمكن استيعابها من داخل آليات النظام الديني. وبوجه عام تظل التناقضات قابلة للاستيعاب من داخل آليات النظام الديني، طالما أن التطور الاجتماعي لم يصل إلى حد التغير الجذري قياساً إلى اجتماعيات التأسيس الديني. لكن عندما يصل التطور الاجتماعي إلى حد التغير الجذري، يمتنع استيعابه من قبل الآليات الداخلية للنظام الديني، المصممة أصلاً لاستيعاب الهياكل الاجتماعية القديمة. هنا يتحول التناقض إلى صدام، أو معركة تسفر عن تراجع القديم، أي النظام الديني. التراجع هنا معناه: تنازلات جسيمة من قبل النظام الديني، يضطر إليها كي يحافظ على بقائه.
القانون الذي يحكم هذه الحالة، هو قانون رفع التناقض. وهو قانون طبيعي من قوانين الاجتماع: حركة الاجتماع تؤدي، بطبيعتها، إلى حدوث التناقضات داخل العالم، ولكنها في الوقت ذاته، تنزع بطبيعتها أيضاً إلى رفع هذه التناقضات طلباً للتناغم. عند هذه النقطة يمكن فهم الإصلاح الديني، من أحد جوانبه، على أنه مبادرة من قبل النظام الديني، ومن داخل آلياته الذاتية، لإعادة التكيف مع النظام الاجتماعي، تلافياً لنتائج الصدام معه.
في الواقع لم يحدث تطور جذري في الهياكل الكلية للاجتماع، أي لم يطرأ تحدٍ حقيقي أمام النظام الديني التوحيدي عموماً، قبل عصور الحداثة التي بدأت مع العصر الصناعي، وتبلور الرأسمالية، ونتائج العلم التجريبي. فطوال العصور السابقة على الحداثة كانت التطورات الاجتماعية، البطيئة أصلاً، تنتمي إلى طبيعة الهياكل الاجتماعية القديمة: الهياكل الاقتصادية ظلت رعوية أو زراعية ريعية، والهياكل الاجتماعية ظلت قبلية أو عشائرية أو جماعية إجمالاً، والهياكل العقلية ظلت أسيرة لنمط التفكير اليوناني السابق على التجربة، والذي يشترك أصلاً مع العقل الديني في خلفيته الأنطلوجية المثالية.
التطور الجذري الذي جلبته الحداثة، واجه المسيحية الغربية في أوربا، قبل أن يواجه الإسلام في محيطه الجغرافي الشرقي. خلافاً للسياق المسيحي الغربي، لم يتعرض الإسلام في محيطه الاجتماعي بعد، أو لم يتعرض بالقدر الكافي للصدام مع قانون التطور الاجتماعي. التطور في الهياكل الكلية لم يصل إلى حد التغير الجذري.
ومع ذلك فالتطور في هذه الهياكل يتصاعد بوتيرة متسارعة خصوصاً على المستوى الثقافي والنفسي، لأسباب تتعلق بآليات التواصل الحديثة مع العالم. وتيرة التطور المعاصرة عموماً أسرع من وتيرة التطور في العصور القديمة. التطورات التي تحدث الآن في سنة، كانت لتحتاج إلى ألف سنة بمقاييس العصور القديمة (الحجري، البرونزي، الحديدي).
الإسلام المعاصر في المنطقة، يواجه ظروفاً مشابهة للظروف التي واجهتها المسيحية الأوربية بعد القرن السادس عشر، ولكن قبل القرن التاسع عشر. المنطقة تجاوزت مرحلة البدايات لتطور واضح في الهياكل الكلية، رغم ثبات بعض المؤشرات. التطور لم يصل إلى حد التحول الجذري، ولكنه يتجه إليه.
درجة التطور الحالية، خصوصاً مع تجاوزاتها النوعية لدى بعض الشرائح، كافية لإحداث توتر حاد. التوتر الحاد الذي يسبق الصدام.
بالنسبة إلي: هذا هو التكييف الصحيح للحراك العصبي الصاخب الذي يحتدم في المنطقة، ويعبر عن ذاته تعبيراً سياسياً في اللحظة الراهنة، الغطاء السياسي قشرة خارجية لمحتوى اجتماعي. والسياسة كما نعلم هي أشد صور الاجتماع تكثفاً.
على ضوء هذا التكييف نستطيع أن نقرأ ما يبدو أنه تصاعد للإسلام السياسي على أنه:
رد فعل دفاعي (استباقي) من قبل النظام الديني أمام قانون التطور. أي كظاهرة انفعالية مؤقتة في المدى المنظور.
جذور الصدام؟
ما النظام الديني الذي أتحدث عنه؟ كيف يتكون عموماً، ولماذا ينتهي دائماً إلى الصدام بالاجتماع الخام؟
النظام الديني ليس مرادفاً للدين. بل هو من إنتاج التدين، أي من إنتاج الاجتماع. الدين كما أكرر هو المطلق الإلهي المفارق القادم من خارج الاجتماع. والتدين هو ممارسة الدين في العالم أو داخل الاجتماع. تاريخياً، وبفعل الدور الإنشائي للمؤسسة الدينية، كانت ممارسات التدين البشرية، تتراكم فوق فكرة المطلق الإلهية، وتنضم إليها مكونة بنية دينية أوسع من منطوق الفكرة المطلقة، ولكنها تتمتع بالقداسة الإلزامية المؤبدة التي تختص بها هذه الفكرة. هذه البنية الدينية الواسعة هي النظام الديني.
بوجه عام، وعلى المستوى التوحيدي، النظام الديني ينطوي على إشكاليات هيكلية ثلاث، تضمن استمرار التوتر بين الدين والاجتماع الخام، وهي تمثل ما أسميه بالمعضلة النظرية:
1- إشكالية التناقض مع قانون التطور (النظام الديني يطرح مفرداته الاجتماعية الناتجة عن حقب التأسيس، كمطلق يتمتع بإلزامية مؤبدة أي يدخل التشريع والدولة في نطاق الدين).
2- إشكالية التناقض مع قانون التنوع (النظام الديني- كل نظام ديني يطرح ذاته كممثل وحيد للمطلق، أي كمرادف حصري لمعنى الدين وهو ما يجعل من نفي الآخر فكرة مقدسة).
3- إشكالية النص (الرؤية المفهومية: التي ترادف بين النص والمطلق. فهو لا يعترف بأن النص يحتوي إلى جوار المطلق الإلهي (الإيمان والأخلاق)، أحكاماً نسبية خاصة بسياقات إنتاجها التاريخية + مشاكل التوثيق الخاصة بالرواية السنية)
في هذه المعضلة يكمن المشكل، وهي لب المسألة، التي يؤدي تجاهلها إلى استمرار التوتر في علاقة الدين بالاجتماع الخام. ويجعل من محاولات الإصلاح الديني المتعاقبة معالجات جزئية وموقوتة.
المعضلة في الواقع لا ترجع إلى الدين المطلق في ذاته (بحكم طبيعة المطلق كمفارق). بل نشأت من التدين (ممارسات البشر التاريخية تحت اسم الدين) أي أن مصدرها داخل النظام الديني هو كتلة الثقافة التاريخية الملحقة بالدين.
والسؤال الآن هو: ما الذي يمنع من استبعاد هذه الكتلة التاريخية الاجتماعية من دائرة الدين الملزم؟
الذي يمنع من استبعاد هذه الكتلة هو أنها تختبئ داخل النص، أي صارت محصنة بسلطات النص وصلاحياته الإلزامية المقدسة.
محاولات الإصلاح الحديثة والمعاصرة، وقفت جزئياً على كنه المشكل، ولكنها ظلت تحوم حوله دون اقتحام. في الحد الأقصى: تجرأت هذه المحاولات على استبعاد الثقافة التاريخية الممثلة في الفقه الاجتهادي، فقالت بالتفريق بين الفقه والشريعة، الفقه اجتهاد بشري، والشريعة نص. ولكنها تجاهلت أن سؤال التطور لا يطرح ذاته في مواجهة الفقه فحسب، بل في مواجهة الأحكام «المثبتة» أياً كان مصدرها، أي أنه يطرح ذاته في مواجهة النص أيضاً.
بحسب أطر النظام الديني النص يرادف المطلق، دون تفريق في داخله بين ما هو مطلق إلهي ثابت، وما هو اجتماعي بشري، أي نسبي قابل للتغير.
إن التفرقة داخل النص الصحيح بين المطلق الإلهي، والنسبي الاجتماعي، أي بين ما هو دين ثابت، وتدين يجوز تغييره، هي وحدها ما يكفل تحصين الدين ضد نسبية الاجتماع، أي ضد التناقض الحتمي مع الزمن المتغير. وإلا فإن الدين سيظل معرضاً على الدوام لمشكل مصداقية، لأن الواقع المتطور سيكشف لا محالة عن نسبية الاجتماعي وسيفرض عليه التغيير.
إن قانون التطور قانون طبيعي، أي قانون إلهي. ولذلك فالسؤال الواجب طرحه ليس: هل يجوز تغيير التشريعات التي ترجع إلى زمن التأسيس؟
بل هو: هل تغيرت الظروف في الواقع إلى الحد الذي يستدعي التغيير؟
وباستقراء الواقع التاريخي، فإن الظروف لم تكن تنتظرنا حتى نطرح الأسئلة فهي كانت بالفعل تفرض التغيير فرضاً، وكنا دائماً نرصده بعد وقوعه. كيف تطورت بالتوازي مع تطور النظام الاجتماعي؟ لدينا مراحل ثلاث (وهذا عام في جميع الديانات التوحيدية).
* مرحلة الوحي أو مرحلة التأسيس الأولى.
* مرحلة التدوين أو مرحلة التأسيس الثانية.
* مرحلة التجميد التي لا تزال سارية حتى اليوم.
في مرحلة التأسيس: يكون النظام الاجتماعي مطبوعاً بالخصائص العامة لمجتمع صحراوي قبلي بسيط نسبياً، ومحكوم بثقافة البداوة الخشنة ذات الطابع الشفوي. ولكنه عرف أيضاً تسريبات جزئية من ثقافة التوراة، وأعراف ما بين النهرين البابلية والآشورية، إضافة إلى بعض اللمسات الفارسية والبيزنطية. وقد انعكست هذه المؤثرات البيئية على النص التأسيسي ذاته، في بنية التصور اللاهوتي، وفي الخيارات الطقوسية، والتشريعية.
في مرحلة التدوين: كان حضور الدين قد أحدث حركة توتير عالية في عوامل الاجتماع المحلية والإقليمية. شهد المجتمع العربي عملية تقليب واسعة النطاق في مكوناته القبلية. ومع نشوء الدولة، وبروز قريش كقوة سياسية مهيمنة، عبرت اجتماعيات الغزو العربية عن ذاتها في حروب الفتح، التي أطلقت العنان لغرائز الحرب، وعجلت باندماج القبائل في مشروع الدولة قبل اندماجها في مشروع وروح الدين، وفي هذا السياق تفجر الصراع على السلطة، ليتحول في مناخ الشحن الديني إلى صراع مذهبي، فرض التعددية السنية، الشيعية، الإباضية.
نحن هنا أمام تطورات ثلاثة كبرى في النظام الاجتماعي: الأول هو تبلور الدولة: الذي سيطبع الإسلام بطابع اجتماعي صريح. والثاني هو الفتوح العسكرية، التي جلبت تعددية ديموجرافية مؤثرة. والثالث يتمثل في الصراع على السلطة، الذي أفرز تعددية سياسية تحولت إلى التعددية المذهبية المعروفة.
ولكن فيما كانت هذه التطورات تظهر تباعاً، كان النظام الديني في مرحلة التكون. وقد ظل في هذه المرحلة حتى نهاية عصر التدوين، أي عصر التأسيس الثاني. في غضون ذلك كان النص التأسيسي (القرآن) قد أغلق، ولكن «النص» السني كان لا يزال مفتوحاً (كتب الصحاح والسنن والمسانيد) وهو ما سهل تداخل الفقه مع النص، وفتح الباب واسعاً أمام المؤثرات البيئية الجديدة لتدخل في بنية النص من خلال التنصيص، أي الوضع.
لقد كان على النص بعد إغلاقه بفترة وجيزة أن يواجه محيطاً اجتماعياً أوسع: مؤثرات اجتماعية أكثر تنوعاً، وأسرع إيقاعاً، إلى الحد الذي سيفرض على النص أن يعود فيفتح أبوابه من جديد أمام التغيرات السياسية والاقتصادية والثقافية، التي تريد – الآن – أن تعبر عن ذاتها تعبيراً دينياً.
في السياق الإسلامي عبرت حالة التدين القصوى عن ذاتها باستحداث «نصين» كاملين كل منهما أكبر حجماً من القرآن، ومكافئ له في الحجية.
الأول: مجموعة الروايات الآحادية التي ستعرف سنياً بالأحاديث النبوية. والثاني: مجموعة الروايات التي أسندها الشيعة إلى أئمة أهل البيت. وإضافة إلى هذين النصين الكبيرين، وبالتركيب عليهما تكونت منظومتان مذهبيتان كبريان كل منهما تقوم على ترسانة منظمة من علوم التفسير، والكلام، والفقه وأصول الفقه. وهنا كان النظام الديني قد اكتمل بصيغته المذهبية المعروفة.
إذن النظام الديني الإسلامي اكتمل في لحظة فوران اجتماعي سياسي متوترة، وقد ترجم هذه اللحظة وحنطها.
لفترة طويلة لاحقة على عصر التدوين، ورغم التمدد الجغرافي للاسلام عبر الشرق الأوسط بكامله، ظلت حركة التطور الاجتماعي بوجه عام قريبة من خصائص الاجتماع الذي أفرز النظام الديني في حقبتي التأسيس: البنى الاقتصادية ظلت غالباً رعوية أو ريعية – والبنى الاجتماعية ظلت قبلية – عشائرية – والبنى العقلية ظلت أسيرة لنمط التفكير اليوناني السابق على التجربة.
ولذلك فإن النظام الاجتماعي ظل متناغماً في المجمل مع النظام الديني. واستطاع هذا النظام الأخير، استيعاب التطورات الاجتماعية الجزئية من داخل آلياته التقليدية (في الكلام – الفقه – أصول الفقه).
في مواجهة الحداثة
التحدي الحقيقي لهذه الآليات سيأتي مع التطور الجذري الذي ستجلبه الحداثة والذي سيفتح أفاق الاجتماع على: حاجات، وعلاقات، وأسئلة غير قابلة للانضواء تحت منطوق النصوص أو عللها القياسية.
النظام الديني في نهاية عصر التدوين وبداية عصر التجميد – وأنا أتكلم هنا عن النسق السني – انغلق على هيمنة نسبية واضحة لرؤيتين: الرؤية الأشعرية في الكلام. والرؤية الشافعية في أصول الفقه.
الرؤية الأشعرية: اندمجت عموماً مع المنظومة الفقهية لأهل الحديث (السلفية)، بعد أن قدمت إليها دعماً نظرياً كلامياً. وهي الرؤية التي سادت إجمالاً في العقل السني العامي الأسهل تقبلاً لنقلية أهل الحديث الحرفية، خصوصاً بعد انقلاب المتوكل. حسب هذه الرؤية – وخلافاً للمعتزلة – العقل غير قادر على التمييز بين الحسن والقبيح بغير بيان الوحي (النص)، وغير قادر على إدراك الحكمة الإلهية وراء الأحكام. إن الله غير ملزم ببيان هذه الحكمة.
ليس ذلك فحسب، بل هو غير ملزم بأن يأمر بما فيه خير الناس، أو مصلحة العباد. (غياب كامل للإنسان في المعادلة).
وعليه، فلا طائل من البحث عن العلة الكامنة وراء الأحكام، والعلة في حال إدراكها ليست سبباً للحكم التشريعي، بل هي اقترنت به اقتراناً عرضياً (وهذا امتداد للموقف الأشعري في نفي السببية الطبيعية. أو نفي الطبع).
والمعنى هنا أن المصلحة الكامنة خلف التكاليف هي طاعة التكاليف لذاتها، أي لمبدأ الطاعة في ذاته. أي أن المصلحة الوحيدة الجديرة بالاعتبار في التشريع هي المصلحة الإلهية وليست المصلحة البشرية. وبالتالي لا مجال للحديث في تغيير الأحكام بتغير الظروف الاجتماعية، فالأحكام ليست مجعولة أصلاً لمصلحة الإنسان الاجتماعي.
الرؤية الأصولية الشافعية: نظرية الأصول السنية تنبني بالدرجة الأولى على تنظيرات الشافعي. أهم ما قدم الشافعي هو: مفهوم النصية أو النصوصية. وهو مفهوم مكون من شقين أو خطوتين:
الأولى: نصَّب الروايات الآحادية في موقع السنة.
الثانية: نصب السنة في موقع النص (المكافئ في الحجية للنص التأسيسي القرآن).
النصوص كافية لتغطية الواقع الاجتماعي. إما مباشرة وإما بالقياس عليها. ولذلك لا يجوز الاجتهاد خارج دائرة النص. الاجتهاد له صورة وحيدة هي القياس على نص، باستنباط العلة المشتركة بين المصرح به في النص، والمسكوت عنه في الواقع. وأي اجتهاد خارج القياس على نص هو استحسان بالهوى أو «تلذذ» بمصطلح الشافعي في الأم.
ومع ذلك، كان الواقع يفرض على الفقه ممارسة الاجتهاد لتغطية وقائع لا يغطيها النص ولا القياس (وهذه الممارسة كانت تجري تلقائياً قبل تبلور الأصول الشافعية مثل ممارسات مالك التي أُطلق عليها المصالح المرسلة).
وبعد تنظيرات الشافعي، تم قبول هذه الممارسة تحت ضغط الواقع، ولكن تم تقييدها بمماحكات تقنية تخفف من التناقض مع المقدمات الأشعرية الشافعية. استبقت النظرية مصطلح الاستحسان داخل أدبيات الأصول كآلية لاستدعاء المصالح بتقنية تتماشى مع المنظومة الشافية، فأدخلته ضمن مباحث القياس، وجعلت معناه:
«العدول عن الحكم الذي يقضي به القياس إلى حكم آخر يحقق مصلحة مستنبطة من نص، أو من الإجماع، أو من الضرورة (وهذا يكشف عن ضرورة ربط المصلحة بدائرة نص جزئي كشرط لقبول الاجتهاد).
سيأخذنا ذلك إلى تجربة أكثر تطوراً داخل السياق الإسلامي، ويمكن اعتبارها بمعنى من المعاني تجربة إصلاحية، وهي شكلت بالفعل خطوة إلى الأمام وإن كانت خطوة غير كافية. أعني التجربة التي قدمها أبو إسحاق الشاطبي في سياق زمن مختلف (القرن الثامن الهجري، وهو قرن يدخل في عصور ما قبل الحداثة)، وفي سياق جغرافي ثقافي مختلف أيضاً (الأندلس).
1- خلافاً للتيولوجيا الأشعرية، لم يقرأ (المصلحة البشرية) كمعطى كلامي مقابل الإرادة الإلهية. بل كموضوع تشريعي تنصب عليه هذه الإرادة. فالشريعة بحسب الأصل وجدت لمصلحة العباد، كما يصرح في «الموافقات».
فالجمع بين النصوص يؤدي بالتواتر إلى إنتاج مبادئ عامة يسميها الكليات الشرعية. وهي يقينية في ذاتها، وفي نسبتها إلى الشريعة، أي هي «نصية» رغم عدم وجود نص جزئي يشير إليها. ومن هذا الطريق أثبت الشاطبي المصالح الخمس الكلية (كان الغزالي قد أشار إليها قبل قرنين) وهي النفس، والمال، والنسل، والعقل، والدين، كمقاصد ضرورية للشريعة.
هذه المقاصد تبرر جميع الأحكام الشرعية. وبالتالي هي بمثابة علة كلية، يمكن القياس عليها دائماً، فإذا ما استجدت مصلحة اجتماعية تستدعي تشريعاً جديداً (لا يتضمنه نص) يصح اعتماد هذا التشريع ما لم يكن مناقضاً لأحد المقاصد الكلية. هنا يتم الاستغناء عن آليات القياس الشافعية التي تشترط القياس على نص جزئي محدد، أي على علة جزئية.
بعبارة أخرى: لم يعد القياس ملزماً، بل يمكن مباشرة النظر في المصلحة من جهة توافقها مع مقاصد الشريعة الكلية. بالطبع يلزم قراءة اجتهادات الشاطبي، كنوع من الاستجابة للمثير الاجتماعي المتطور نسبياً في القرن الثامن (بعد الأشعري والشافعي بنحو خمسة قرون) وفي الأندلس (مناخ عقلي واجتماعي متطور ومختلف عن مناخ القرنين الثالث والرابع في المشرق).
ولكن علينا ملاحظة الآتي:
خطا الشاطبي بالعقل الأصولي خطوة خارج الشافعي، مكنته من الحديث عن روح الشريعة وأهدافها الكلية المرتبطة بالإنسان. لقد استحضر المصلحة الإنسانية كطرف في المعادلة الدينية، ورفع سقف الضوابط التشريعية من حرفية النص الجزئي إلى فحوى المبادئ العامة، وهو سقف يوسع دائرة التطوير.
ولكن الشاطبي – رغم ذلك – لم يخط بعيداً خارج منظومة التدين. خارج نمط التدين الرسمي السائد تاريخياً في النسق التوحيدي، فظل محتفظاً بلازمة العقل الديني التقليدية، التي تؤمن نمطياً بأزلية المضمون النصي وأبديته (أي بإطلاقية النص الجزئي). ولذلك فإن توسيع دائرة الاجتهاد على أساس المقاصد كما قدمه الشاطبي، يظل نسبياً. لماذا؟
لأنه يوفر حلاً لمشكل التشريع عند عدم وجود نص جزئي. ولا يقدم حلاً لمشكل التشريع بما يخالف النص الجزئي. وهذا المشكل الأخير هو صلب الموضوع، فيما يتعلق بمشكل الصدام مع قانون التطور.
ظلت جهود الشاطبي جهوداً أصولية تناقش قضية التشريع (الفقه). أي ظلت جزئية، ولم تعرض بالطبع لنمط التدين كلية بما في ذلك الإشكالية النظرية الكبرى التي تتعلق بمشكل الصدام مع قانون التنوع.
مشاريع الإصلاح الحديثة لم تتجاوز الشاطبي قط. كانت نظرية التشريع بمقاصد الشريعة الحد الأقصى للطموح النظري، الذي كان يصدر غالباً من خارج المؤسسة الدينية. وهذا يعني أن هذه المشاريع لم تتجاوز النظر إلى الإصلاح كقضية أصولية فقهية. أعني لم تتعامل مع المسألة كإشكالية كلية لعلاقة الدين بالاجتماع. الاجتماع المعاصر الذي ينطوي على تحولات ذهنية ونفسية بنيوية قلبت منهجية التعاطي مع المسألة الدينية من أساسها، وفرضت عليها الدخول إلى منطقة نقاش مختلفة.
رد فعل استباقي
الحراك العصبي الصاخب الذي يحتدم في المنطقة، ويعبر عن ذاته تعبيراً سياسياً في اللحظة الراهنة، ليس سوى تعبير عن تناقض النظام الديني مع النظام الاجتماعي. الغطاء السياسي قشرة خارجية لمحتوى اجتماعي، والسياسة كما نعلم هي أشد صور الاجتماع تكثفاً.
على ضوء هذا نستطيع أن نقرأ ما يبدو أنه تصاعد للإسلام السياسي وأنه: رد فعل دفاعي (استباقي) من قبل النظام الديني أمام قانون التطور. أي كظاهرة انفعالية مؤقتة في المدى المنظور.
توسيع الدائرة
خطى الشاطبي بالعقل الأصولي خطوة خارج الشافعي، مكنته من الحديث عن روح الشريعة وأهدافها الكلية المرتبطة بالإنسان. لقد استحضر المصلحة الإنسانية كطرف في المعادلة الدينية، ورفع سقف الضوابط التشريعية من حرفية النص الجزئي إلى فحوى المبادئ العامة، وهو سقف يوسع دائرة التطوير.