*عبدالله العليان
في الحديث الإسلام والحداثة، كتب الكثيرون عن العلاقة التي يمكن أن تجمع الإسلام والحداثة، فالبعض يربط مصطلح الحداثة بقضية الديمقراطية والليبرالية والعلمانية، والبعض الآخر، يربط الحداثة التحديث والتقدم التقني والتكنولوجي، والبعض الآخر يرى الحداثة في الحريات العامة والانفتاح السياسي والإعلامي الخ: ومن الكتاب والباحثين الذين ناقشوا مسألة د/ فهمي جدعان في كتابه (المقدس والحرية)، وكتب فصلاً بهذا العنوان، ويرى أن «مطالع النهضة في بلادنا -العربية- قد فتحت عيونها واسعة على ماهية الحداثة الغربية ومخاطرها. وكانت الاستجابة «التركيبية» التي عبر عنها الأوائل استجابة أولية أصيلة تمثلت في هاجس التكيف مع الحداثة العلمية والاختبارية أو التقنية. وفي الاستجابة استدعي الإسلام نفسه ليس فقط لتوسيع تمثل العلم الأوروبي والتقنية الأوروبية،وإنما أيضاً لتوجيه الحياة الإسلامية نفسها والسير في محور التراث ـ والحداثة. ولم تكن هناك استجابة نظرية فحسب، وإنما كانت عملية أيضا،والتنظيمات والإصلاحات التي تمت الدعوة إليها والحث عليها خير شاهد على هذه الاستجابة الكيفية العملية. وليس بالأمر الجديد أن نقرر أن جملة الدول التي قامت في عالم الإسلام في الحقب العثمانية أولاً، ثم غداة الاستقلال عن لدولة العثمانية في مرحلة أولى، والتحرر الدول الاستعمارية في مرحلة ثانية، وقد وضعت نصب أعينها ـ على الأقل ـ أهدافاً عملية أساسية تتجسد في التطوير والتنمية المستندين إلى العلم والتقنية، أي الحداثة . أما الإنفاذ الفعلي لهذه المقاصد المعلنة والنجاح في إدراكها، فذك أمر آخر».ص309 .لكن فهمي جدعان، يرى أن أخذ الحداثة بكل مقوماتها في عالم الإسلام، قد لا نراه متحققاً بصورة كاملة في مجالاتها العلمية والعقلانية، ويقول «لا أحد يستطيع أن يزعم أن الاستجابة المتمثلين في العقلانية الموضوعية وفي العقلانية الاختبارية أو الذرائعية قد شملت جميع الوجوه المجسدة في الواقعة بمعناها الأصلي. ويحق لنا أن نقول على وجه العموم إنه برغم الصعوبات التي انتصبت مرات كثيرة في وجه هذه الجهود فإن النتائج الفكرية -كما يقول جدعان- التي أفضت إليها قد أصبحت وقائع راسخة في حياة عالم الإسلام وأهله. فليس ثمة من أحد اليوم في الفضاءات الإسلامية نفسها يتنكر لوقائع العلم والعقل ولأمر التنمية والتقنية ولخيرات الحداثة المتعلقة بالمنافع المتولدة عن تطور العلم والتقنية. وأولئك الذين يتعلقون بأشكال من الاجتماع البشري تأبى الانخراط في تجربة الحداثة بجملة وجهها لن يجدوا في المستقبل المنظور من يصغي إليهم، وهم لن يستطيعوا إنفاذ رؤاهم إلا إنفاذاً فردياً ينحرف بهم إلى الدوائر الصوفية وحدها. غير أننا نخدع أنفسنا خداعاً تاماً إن اعتقدنا أنه قد تم تمّثل أنماط السلوك الحداثية تمثلاً حقيقياً، حتى عند أولئك الذين أعلنوا عن إيمانهم بهذه الأنماط وبمبادئها. ذلك أن الإنفاذ العلمي لمبادئ الحداثة التي تم تقبلها والاعتراف بها، لم يجري على نحو «حقيقي، إذ بدا في أغلب الأحيان صورياً أو شكلانياً يتعلق بالمظهر لا بالجوهر. فهواجس الموضوعية والعقلانية والنظام والإتقان والحرية والعدالة والديمقراطية… لم تحتل الأمكنة الثابتة الخاصة بها في سلمّ القيم التي تُطلب ممارستها في الحياة الفردية والاجتماعية المشخصة، ومفارقة النظر والعمل، والإيمان والفعل، واقعة حقيقية تتطلب المعالجة وتنتظر العلاج الحسي المشخص».ص311،310.
ويعتقد د/ جدعان أن واقعنا في مسألة الحداثة وما بعدها، كما لم يتغير، في التحولات الفكرية والاكتشافات العلمية في الغرب فـ «الحقيقة أن وضع العالم الإسلامي قبالة ظاهرة (ما بعد الحداثة) لا يختلف اختلافاً بيناً عن وعه قبالة (الحداثة)،فضلاً عن أنه ليس وضعاً غريباً، أو لا نظير له. ذلك أن الإرث الثقافي والقواعد الاعتقادية للإسلام قد سمحا -وفق قراءة عقلانية مشروعة- بتحقيق قدر عظيم من «التمثل» لمعطيات الحداثة ومن «التكيف» مع متطلباتها . فعلى الرغم من أن الحداثة الغربية كانت ضرباً من القطيعة مع التراث المسيحي والوحي الديني -كما يرى جدعان- إلا في حقيقة الأمر لم تكن تعني في ماهيتها وطبيعتها الجوهرية شيئاً أكثر من هيمنة المنظورات العقلانية والتقنية والفردية وتوجيهها للحياة الاجتماعية والعامةص315،315. لكن المفكر المغربي المعروف د/ طه عبد الرحمن مع الأستاذ فهمي جدعان، ودور الحداثة وروحها وتأثيرها السلبي في حياة كل الأمم، ففي كتابه [ روح الحداثة..المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية ]يرى أن روح الحداثة كمصطلح كما يقال عنها،ليست دائما «من صنع المجتمع الغربي الخاص حتى كأنه أنشأها من عدم، وإنما هي كما يقول د/ طه عبد الرحمن، من صنع المجتمع الإنساني في مختلف أطواره، إذ أن أسبابها تمتد بعيداً في التاريخ الإنساني الطويل ؛ ثم لا يبعد أن تكون مبادئ هذه الروح أو بعضها قد تحققت في مجتمعات ماضية بوجوه تختلف عن وجوه تحققها في المجتمع الغربي الحاضر؛ كما لا يبعد أن يبقى في مكنتها أن تتحقق بوجوه أخرى في مجتمعات أخرى تلوح في آفاق مستقبل الإنسانية. وليست روح الحداثة أيضا ملكاً لأمة بعينها، غربية كانت أو شرقية، وإنما هي ملك لكل أمة متحضرة، لأي لكل أمة -بحسب طه عبد الرحمن- نهضت بالفعلين المقوّمين لكل تحضر، وهما: «الفعل العمراني» ـ وهو الجانب المادي من هذا التحضر ـ و»الفعل التاريخي» الذي هو الجانب المعنوي ؛ ولا شك أن الأمم تختلف في درجة تحقيق هذين الفعلين بحكم تراكم المعارف وتجدّد القيم عبر القرون، من غير أن يدل هذا التراكم والتجدد بالضرورة على أن المتأخر من الأمم أفضل من المتقدم، نظراً لأن هذه الأفضلية لا تقاس بالقوة، وإنما بالقوة المعنوية ؛ لذلك فإن التطبيق الغربي لروح الحداثة، ولو أنه متأخّر عن غيره، لا يكون بالضرورة أكثر تمسّكا بروح الحداثة منه؛ بل ليس تأخّر التطبيق، على وجه العموم، دليلاً على مزيد التحقق بهذه الروح؛ فحتى التطبيق الذي سوف يأتي بعد الواقع الحداثي الغربي لن يكون حتماً أكثر تشبعاً بروح الحداثة ص31،32 . ولذلك لابد ـ كما يرى د/ عبد الرحمن «من اجتناب آفات التطبيق الغربي لروح الحداثة، فكما هو معلوم أن هذا التطبيق قد دخلت عليه آفات مختلفة جعلته يبدو وكأنه محكوم بقانون عام قد نسميه بقانون «انقلاب المقصود إلى ضده»؛ ومقتضاه أن هذا التطبيق يتوصل في كثير من الحالات إلى نتائج مضادة للنتائج التي كان يتوخاها أصحابه أو يتوقعونها أو يراهنون عليها،حتى قيل : «إنه مسلسل لا يتحكم في ذاته» وقيل أيضاً : «إنه يتسبب في الاستلاب»، وقيل كذلك: «إنه يولّد التقدم كما يولد التخلف وسوء التقدم». فعلى سبيل المثال، أراد الإنسان الحداثي أن يسود الطبيعة، فإذا به ـ كما يقول ـ هي التي تسوده وتفعل به ما يريد؛ ويتجلى ذلك في بروز أخطاء طبيعية مختلفة، منها أمراض غير مسبوقة وشبح الإشعاع النووي وانتشار أسلحة الدمار الشامل والانفجار السكاني وتلوث البيئة وانثقاب طبقة الأوزون؛ بل إن الإنسان الحديث كلما أدخل إصلاحاً على هذا القطاع أو ذاك، بات عاجزاً عن التنبؤ بمآلات هذا الإصلاح أو الإيقان بعدم تسببه في آثار سيئة؛ فمثلاً أنشأت الحداثة الغربية نظاماً اقتصادياً عالمياً باتت لا تعرف كيف تتحكم في آلياته، فضلاً عن أن تتنبأ بمصيره؛ وأيضاً أرادت أن تقطع صلتها بالسلط التقليدية من غير رجعة، فإذا بهذه السلط تعود وقد اتخذت عودتها أشكالاً ووسائل أغرب وأعقد من تلك التي عهدتها عند قطع الصلة بها؛ وهكذا فما أريد في الأصل أن يكون سيادة صار عبودية، وما أريد أن يكون استقلالاً غدا تبعية، وما أريد أن يكون شأناً خاصاً، أضحى شأناً عاماً، ص 32-33. كما د/ محمد عابد الجابري، له رؤية معاكسة لما سارت عليه الحداثة الأوروبية، ففي كتابه(المشروع النهضوي العربي ـ فصل الوجوه الأخرى للحداثة الأوروبية)، يرى الجابري» ولم تكن العلاقة بين المشروعين ، الحداثي الأوروبي والنهضوي العربي ، من جنس علاقة الند بالند، بل كانت من جنس علاقة القوي بالضعيف والسيد بالعبد، ومن هنا ذلك الدور التخريبي الذي قام به مشروع الحداثة الأوروبية في تاريخ النهضة العربية الحديثة من خلال بعديه اللذين يحكمان وجهه الآخر (التوسع الاستعماري والتنافس الأوروبي)، التخريب الذي مس بل أجهض وأعاق مفعول بعدها الآخر ، التنويري التحديثي، وذلك إلى درجة يصح معها القول إن تعثر النهضة العربية ،أعني ما أصاب التحديث والحداثة من انتكاسات في الوطن العربي، يرجع في الأساس ، لا إلى مقاومة داخلية من القوى المحافظة في المجتمع العربي ، بل إلى الدور التخريبي الذي قام به الوجه الآخر للحداثة الأوروبية ، الوجه الذي قوامه الداخلي «القوة» و «المنافسة» وتطبيقه الخارجي «التوسع الاستعماري» و»التنافس الأوروبي الامبريالي» إن هذا الدور التخريبي هو الذي مكّن المقاومة الداخلية للحداثة الأوروبية في الوطن العربي من الشرعية والمصداقية لأنها برزت كمقاومة للتدخل الاستعماري والغزو الأجنبي وليس كمقاومة للجديد. الواقع أنه لا يمكن فهم العلاقة بين الحداثة الأوروبية وظاهرة الاستعمار إلا باستحضار النظام الفكري الذي طغى في أوروبا خلال القرن التاسع عشر باسم الحداثة وفي إطارها. فباسم العقل والعلم والتقدم» وهي الأسس التي قامت عليها الحداثة الأوروبية في القرن الثامن عشر، برزت في القرن الذي يليه نزعات فكرية تصب كلها في مجرى واحد» هو تكريس فكرة تقدم الإنسان الأوروبي وجدارة أوروبا بالهيمنة على العالم لـ « تمدينه»ونشر الحضارة « في أرجائه،أهم هذه النزعات:النزعة التاريخية والنزعة التطورية والنزعة العرقية والنزعة العلموية والنزعة الاستشراقية الاستعمارية .لقد تعززت هذه الأيديولوجيا التاريخانية التي وجدت تطبيقها الأوسع في فلسفة التاريخ ـ وعند هيغل خاصة ـ تعززت بنظرية التطور الداروينية التي كرست فكرة تغير الأنواع ( نبات،حيوان،إنسان ) وإمكانية تحول بعضها إلى بعض على سلم من التطور يتم فيه الارتقاء من الأدنى إلى الأعلى،وقد فسر داروين ذلك بما سمي بمبدأ «الاصطفاء الطبيعي» و»البقاء للأصلح»، وقد انتشرت فكرة «البقاء للأصلح» انتشاراً واسعاً فصارت مبدأً عاماً يفسر به التطور والتقدم في جميع الميادين،بما في ذلك ميدان التاريخ والاجتماع .وهكذا سيتحول مبدأ «البقاء للأصلي» إلى مبدأ»البقاء للأقوى». وإذا كان هذا المبدأ يقدم تبريراً أيديولوجياً سافراً للهيمنة الطبقية البرجوازية داخل أوروبا،وتبريراً لاستغلالها واستبدادها، فهو يقدم أيضاً التبرير نفسه للتوسع والهينة خارجها:الاستعمار .(25،24)..وللحديث بقية.
______
*جريدة عُمان