2015: عام آخر من تأجيل سؤال الإصلاح الديني في العالم الإسلامي


*د. محمد أمعارش


خاص ( ثقافات )
ماذا عن مشاريع الإصلاح الديني في العالمين العربي والإسلامي؟ سؤال لا يطرحه أحد كلما حلت محطة نهاية سنة أو نهاية عشرية من عشريات القرن، وبداية سنة جديدة وعشرية أخرى، مع أن هذا السؤال هو من أولويات الأسئلة في تقويم حصيلة سنة واستشراف رهانات السنة المقبلة، خصوصا وأن وقائع الخراب في مجتمعات المسلمين والذي تسبب فيه الإرهاب الدموي الناطق باسم الدين وكذا الخلافات المذهبية والإيديولوجية بين المسلمين، قد بلغت مداها في نقض عرى التعايش والاستقرار وتدمير المكتسبات وإحداث أضرار كبيرة وفساد عظيم في علاقات المسلمين بغيرهم من فرقائهم الدينيين وشركائهم في الإنسانية.
لقد ظلت دعوات الإصلاح الديني وادعاءات انطلاق مشاريع تأهيل الخطاب الديني الإسلامي في مواجهة تحديات التطرف والعنف والإرهاب من جهة، وتحديات التجديد والتغيير التي يفرضها واقع التطور الفكري والاجتماعي في العصر من جهة أخرى، مجرد شعارات للاستهلاك والإجابة الظرفية العابرة التي تؤكد نظريا أن الإسلام دين الرحمة والعدل والعلم والتسامح والسماحة والحقوق والحريات والسلام و…، دون التقدم خطوة إلى الأمام في إعادة بناء الفكر الديني على أساس نقدي يسمح ببروز هذا الوجه الإنساني المشرق للدين، وعلى أساس أخلاقي جديد يفتح بصائر المؤمنين على النور المحجوب في الظلام الدامس لواقعهم الديني البائس الذي تهيمن عليه تيارات الإسلام السياسي ومؤسسات الفقه والفتوى التقليدية. 
ويظهر من الإصرار على إبقاء الإصلاح الديني في منطقة الظل، وعند حدود تضيق دوائرها من عام إلى آخر، عدم الجدية في تبني هذا الإصلاح وعدم الاقتناع به لدى جمهور الفقهاء والمفكرين الإسلاميين والنجوم الجماهيرية التي تختطف الكلمة من الأفواه، وتنطق باسم الدين في المحافل والمنتديات، لتعيد تعديل وضعية المسألة من مطلب إصلاحي للفكر والخطاب الدينيين، إلى تحذير من الاقتراب من المجال الديني المحروس بهذا الفكر، ومطلب لمحاسبة كل من سولت له نفسه نقد هذا الفكر الوصي على الدين. 
ولا ننكر أن المسألة الدينية قد حظيت بالنصيب الأوفر من النقاشات العمومية المفتوحة في العالمين العربي والإسلامي، خلال النصف الأول المنتهي من العشرية الثانية لهذا القرن، وتصاعدت وتيرة نقاش هذه المسألة في وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية، وفي مواقع التواصل الاجتماعي، وفي المنتديات الثقافية واللقاءات الفكرية الجمعوية والمؤسستية، وبرز باحثون ومتناظرون ونجوم من كل الأطياف الدينية والمدنية للإدلاء بوجهات نظرهم ومواقفهم بشأن التحديات التي تطرحها المسألة الدينية في مجتمعاتنا، وسبل الخروج من الفوضى المحدثة في تدبير الخلافات العقدية والإيديولوجية المدمرة للتعايش بين المسلمين بعضهم بعضا، وبين المسلمين وغيرهم. 
ورغم أن فتح صفحة الدين والتراث على السؤال النقدي، ظاهرة صحية لم تعد ـ في واقع التخريب الممارس باسم الدين والتراث المشتركين ـ مجرد ترف فكري وفضول معرفي، فإن المتتبع لمناخ وأجواء النقاشات الدائرة، يكتشف حجم المسافة السحيقة التي تفصل خطابات وسلوكات نجوم الفكر الديني المؤسستي والحركي السياسي، عن رهانات الإصلاح والتجديد في عصرهم، وعن مقتضيات تحرير الإنسان وبناء الأوطان، والحفاظ على مكتسبات الشعوب والأمم في التعايش والتعاون ونبذ العدوان والكراهية.
ففي غياب الاعتراف بالحق في الاختلاف، وقبل ذلك الاعتراف بوجود هذا الاختلاف في النسيج الديني والثقافي والبشري للمسلمين، فضلا عن الاعتراف بهذا الحق للغير المختلف عنهم، لا يمكن لأي نقاش في المسألة الدينية أن يتقدم خطوة إلى الأمام بما يفضي إلى إخراج المسلمين من مآزق الاصطدام الدائم بروح العصر وثقافته.
ولا نحتاج إلى كبير عناء لإدراك هذه الحقيقة، إذ كشفت المناظرات وحلقات النقاش التي تابعتها الجماهير في وسائل الإعلام وشبكات الأنترنيت، عن ازدياد ضيق صدر حملة الفكر الديني من الاختلاف وحرية الرأي والسؤال النقدي، وعن عجز مهول في تقديم نموذج فكري ديني راق يتسع للجميع وينسجم مع صورة دين الرحمة، ومع المقدمات النظرية للجدال بالتي هي أحسن، بحيث لا يلوي المتتبع لتدخلات المحسوبين على الدين وعلى الفكر الديني إلا على صياح وصراخ واستنجاد بالعامة وتجييش لعواطف المؤمنين، وتهديد بالويل والثبور واتهام بالكفر والفجور. وهو الأمر الذي يشعر بالأسى والأسف على الوضع المتردي والمتخلف الذي تتخبط فيه ثقافة دينية معاصرة فاشلة اختطفت دينا عظيما كالإسلام، وحجرت عليه وورثت عظماء المفكرين المسلمين دون أن تكون في مستوى الحفاظ على حصيلة مكتسباتهم في العلم والمعرفة والسلوك والأخلاق، والتي هي مكتسبات للمسلمين وللإنسانية جمعاء.
إن الاعتقاد السوي لا يخشى الاختلاف والحرية ولا يرتعد من السؤال النقدي، ولا يتزعزع من مجرد رأي أو ملاحظة، وفي رأي الفيلسوف الفرنسي بول ريكور Paul Ricoeur فإنه ” لا يمكننا أن نتصور بشكل سطحي وجود تصادم بين الانتقاد والاعتقاد، إذ الفلسفة الأشد انتقادا تحمل في طياتها اعتقادات قوية، كما أن الاعتقاد الديني يتضمن اليوم حسا نقديا، غالبا ما تخلو منه مجتمعاتنا” 
ونحسب أن ما تظهره غالبية المحسوبين على الفكر الديني، أثناء مناقشة قضايا الدين والمجتمع مع ذوي الرأي الحر والفكر المستنير، من عدوانية ورفض جذري للاختلاف، وتحويل المناظرات إلى جلسات محاكمة وتفتيش في النوايا والضمائر ونصب المشانق، لا يمكن تصنيفه إلا ضمن عصاب جماعي يصيب الناشئة والشباب في مقتل، في الوقت الذي تسعى فيه المنظومة الأخلاقية والمشاريع التعليمية على الصعيدين المحلي والدولي إلى التنشئة الاجتماعية المنفتحة على الرأي الآخر، والتربية على الاختلاف واحترام الحريات، والتمرين على الحِجاج والإقناع. فما الذي تركته القيادات الفكرية الدينية المتشنجة ونجوم المناظرات والمحاضرات العصابية، التي تملأ الشاشات بصراخها واستصراخها، لهؤلاء الشباب والناشئة ليتعلموه ويتدربوا عليه في نقاشاتهم وتعلماتهم، غير البؤس الفكري والعقدي، وغير حطام من الإهانات المتواصلة لعقولهم ودينهم وتراثهم، وغير مصادمة لفطرهم وطمس لمشاعرهم وأحاسيسهم الإنسانية التي تقدم الجماعات الإرهابية والإرعابية صورة واضحة عن مآلها ومنتهاها الدموي. ومن العبث أن نعتقد أن الصور والمشاهد المرعبة لسوء تدبير الخلاف الديني والفكري والمذهبي، هي من صنع مجموعة معزولة تسمى تارة ” تكفيرا وهجرة” وتارة ” سلفية جهادية” وتارة ” قاعدة” وتارة ” داعش” وتارة ” بوكو حرام”، ستنتهي بالقضاء على هذه المجموعات الصغيرة وبترها من الجسد الإسلامي الكبير، وتطهير مجتمعاتنا منها وعزلها في زاوية ضيقة، والحال أن الآلة المفرخة لها، وهي فكر الإقصاء والتشنج والكراهية ونبذ الاختلاف والتبرم من السؤال النقدي، لم تتعطل حركتها يوما في صفوف القيادات الدينية، عن إمداد الإرهاب بكل أسباب بقائه وتجذره وتنوعه في المشهد الديني العام للمسلمين، ومضاعفة إنتاج الخوف من الحرية وتكفير التفكير، والتحذير من الحرية، والتخويف من كل نقد يطال الفكر الديني بدعوى الطعن في الإسلام وهدم أركانه. والحال أن هذا الفكر المستحكم والمتداول على نطاق واسع لا يقل إرهابا وخطورة عن أعمال داعش ومن والاها. 
إن الفكر الديني الذي يحمله العديد من نجوم الخطابة وتحمله مؤسسات تقليدية تعتبر قلاعا للإسلام، يبدو بوضعه الحالي المتردي في خصومات قرون خلت، غير مؤهل للنهوض بأسئلة العصر، وعلى رأسها سؤال الإصلاح الديني، لأنه بكل بساطة فكر ضد الإصلاح وضد التغيير، ولا يعرف إلى أخلاق الحوار وآداب المعاملة سبيلا، ولأنه عند كل مناسبة نقاش وتبادل للرأي أو عند أي امتحان أو تمرين على الاجتهاد المفتوح والاختلاف البناء، يثبت فشله الذريع في تدبير الاختلاف وفي تقديم نموذج إيجابي للحوار الإسلامي البيني، وبالأحرى أن يقدم نموذجا راقيا لحوار المسلمين مع العالم ومع الغير المختلف.
وبإثبات هذا الفكر الديني عجزه المزمن والدائم عن الانخراط الإيجابي في السجالات المصيرية الكبرى للعصر، خصوصا ما تعلق منها بالحقوق والحريات والسلام العالمي وقضايا المواطنة والمرأة والديموقراطية والحداثة، يعبر أصالة عن عدم جاهزيته لأخذ العبرة من دروس التاريخ وعدم استعداده لاستيعاب البعد الإنساني ضمن اهتماماته، وهو هذا البعد الذي يستمر الفكر الديني، بشقيه المتطرف والمعتدل، في إقصائه واحتقاره، مع ارتفاع المزايدة بالمشاعر الدينية النبيلة للمؤمنين في أسواق الفتاوى الجاهزة والنافقة، التي يزداد الطلب عليها واجترارها، أكثر من ازدياد الطلب على الفكر الحر والعقل النقدي واليقظة الروحية. 
وأمام هيمنة هذا النموذج الفكري بكل تلاوينه على المسألة الدينية في العالم الإسلامي ومصادرته للسؤال النقدي، يبدو أن عصر الإصلاح الديني والتنوير الإسلامي مؤجل إلى حين، وبعيد المنال في ما تبقى من العشرية الثانية لهذا القرن، مع توفر كل الدواعي العاجلة إليه، ما لم تدرك الشعوب الإسلامية الحجم الكبير المتزايد لخساراتها الدنيوية والأخروية حين تسليمها رقابها وعقولها لعبث هذا الفكر الديني الإقصائي، ويتعين على المفكرين الأحرار أن يفتحوا عيون الناس على دور هذا الفكر الديني التخريبي في مآسيهم وعذاباتهم، والشروع في الاستعادة النقدية للدين من القبضة الكهنوتية الوصية عليه، وإعادة استكشاف حواريته وإمكاناته التحريرية للطاقات والمبادرات في اتجاه بناء مجتمعات إسلامية متعاونة على الخير، لا تقل عن نظيراتها في العالم دفاعا عن قيم العدل والسلام واحتراما للحقوق والحريات، ونبذا للكراهية والعنف في تدبير الاختلاف في العقيدة والرأي. 
_________
*كاتب وباحث من المغرب

شاهد أيضاً

“تفسير الأحلام” بداية التحليل النفسي عند فرويد للكشف عن الرغبات المكبوتة

(ثقافات) “تفسير الأحلام” بداية التحليل النفسي عند فرويد للكشف عن الرغبات المكبوتة  مدني قصري في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *