الخاطبة

خاص- ثقافات

*سهاد عبدالهادي

تخترق الطائرة وهي تهبط ببطء باتجاه مطار عمّان غيمة داكنة محملة بحبات المطر، في وقت كانت خناجر القدر تخترق روحي المحملة بدموع الندم.. وأنا أهبط من خيالات أحلام وأمنيات إلى أرض الواقع المرير.

     إلى من ألتجئ الآن والعائلة كلها .. لفظتني ؟؟

قبل سبعة أشهر تركت كل شيء ورائي، واندفعت في مغامرة حسبت أني سأجد فيها إنسانيتي وحياتي التي كانت ملك زوجي يتصرف بها كما يشاء.

تزوجت في السادسة عشر من عمري، في عنفوان تفتح شبابي الذي بهر شباب الحي، من رجل يملك الكثير من المال والقليل من الوسامة والجمال، ويكبرني بأكثر من عشر سنوات وسبع سنين، مما دفعني لافتعال المشاكل التي لم تكن صعبة المنال، ، ظنا مني بأني سأتمكن من الخلاص منه، لاختلاف أمانينا وأولويات حياتنا، فهو يحب العمل وجمع المال، وأنا أحب الانطلاق في الحياة وتبذير المال ، ولكن والداي لم يسانداني أبدا، بل كانا يرغماني على إتمام مسيرة الطريق التي اختاراها لي.

كنت الحلية الجميلة التي تزين حياة زوجي .. يفاخر بها بين أقرانه. يوفر لي على مضض كل ما كنت  أطلبه ، فأقمت في بيت يشبه بيوت الأميرات، أملك أغلى الثياب ، أبدل سيارتي كل سنتين أو ثلاثة ، وامتلكت الأسهم في بعض الشركات.

وجدت في المواقع الاجتماعية المتعددة على صفحات الانترنت الكثير من المتعة، مع الكثيرين ممن يرغبون في التعارف والتسلية. وتواصلت فترة طويلة مع شاب عربي يقيم في الدنمرك، فوجدت فيه مثال الإنسان الذي أتمناه، بما يملك من جمال الصورة وما يحمل من أفكار عصرية متحررة. أدمنت على محادثته، فتحت أبواب قلبي لوسامته وخفة ظله، فأطلعته على دقائق حياتي، بعد ما أسمعني الكلام الحلو اللذيذ في معرض تعليقه على صوري التي حرصت على إبراز جمالي فيها، حين زودته بها على شاشة الكمبيوتر.

   باح لي ميشيل بحبه على استحياء أولا، ولم يمض وقت طويل حتى ازدادت حرارة المحادثة بيننا حتى غيبت منطق العقل والتزام السلوك..

 عصافير الحب تطير بي عاليا ..أتخيلني بين يدي “ميشو” كمت كنت أخاطبه ، وهو يبدي استعداده لتغيير دينه لتكتمل سعادتنا…

منتشية بكلماته العذبة في معرض تغزله بجمالي الذي لا يقل جمالا وأنوثة عن جمال ملكة جمال العالم لهذا العام ، واستعداده لتقديمي إلى السينما العالمية عن طريق صديقه المخرج الدنمركي الذي أسس وإياه شركة إنتاج سينمائية.

عشت أربعة أشهر في صراع كبير، مترددة في قبول اقتراحاته التي دغدغت أحلامي، بالانطلاق إلى عالم وردي.

شعرت في إحدى دردشاتنا بأنه لم يكن الرجل المرح الذي عرفته، ولما أصررت على معرفة أسباب ضيقه، فاجأني بكثير من اللطف والكياسة بخبر اضطراب أحواله المادية ، بسبب إسراف صديقه المخرج على فيلم لم يكن هو راض عن بطلته التي ابتزتهما بطلباتها . فلم أتردد في تحويل مبلغ من ما ادخرته في البنك، على حساب صديقه اللبناني هشام عامر ، بسبب حجز البنوك على حسابه .

بعد أربعة أيام توقفت رسائله الإليكترونية مدة شهر، اكتويت خلاله بنار الشك والحيرة. ثم عاد ليخبرني بأنه تعرض لحادث سيارة تسبب في نزف بالقرب من عصب البصر، مما يهدده بالعمى إذا لم تجرى له عملية جراحية في وقت قريب، ولكنه سلم أمره لله لعدم توفر المال لديه.

جن جنوني وصممت على إنقاذه.

ولكن كيف؟؟

طلبت منه عنوان إقامته في كوبنهاجن كي أرسل له مبلغا من المال مع صديق سيسافر بعد أسبوع إلى هناك. وكانت اللحظة التي واتتني لتنفيذ القرار المفصلي في حياتي ، يوم أن طلب زوجي استعمال سيارتي بضعة أيام لتعطل سيارته إثر اصطدامه بشاحنة . فصرخت أعماقي :

    ” لم لم تكن أنت من أصيب برأسه وليس ميشيل”.

في خلال أسبوع رتبت أموري المالية وفتحت حسابا في أحد البنوك الأوروبية بعد أن بعت الأسهم المسجلة باسمي في السوق المالي ، وسيارتي الجديدة التي اشتراها لي زوجي من الشركة قبل أربعة أشهر.

تركت البيت والزوج وأولادي الثلاثة .. وورقة أطلب فيها الطلاق لأني مغادرة إلى حيث أخذني قلبي.

خلف الباب الذي فتح في كوبنهاجن، شاب في مستهل العشرينات من سنوات عمره، وعلامات الدهشة غيبت عن وجهه حيوية  الشباب.

 _  هل هذا منزل ميشيل.

سألت.

تناهى إلى سمعي صوت نسائي يسأل:

_ ميشو مين على الباب؟

هل هذا هو ميشيل ؟؟ تساءلت وأنا استرجع صور ميشيل التي عرفتها على شاشة الكمبيوتر، شاب وسيم وقور تجاوز العقد الثالث ببضع سنين، وهذا الذي يقف أمامي شاب صغير لا يملك الصفات التي أبحث عنها.

أطل من خلفه وجه فتاة تحمل السمات الشرقية مكررة ندائها “هشام ” قبل أن تنظر إلى الحقيبة بجانبي، ، ولما رفعت بصرها لتتفحصني، قالت كمن تلقى لكمة على وجهه:

  • مهيبة!! شو جابك؟؟.

دار رأسي وزاغ بصري حينما عرفت الحقيقة بأن من يقف أمامي  “هشام ” هو “ميشو ” ولا وجود لميشيل، وبجانبه شقيقته هيام زوجة صديقه “مراد” الذي يعمل في أحد المصانع الغذائية وليس مخرجا سينمائيا.

خدر في جسدي، وثقل في رأسي ، بصعوبة فصلت جفناي الثقلين بعضهما عن بعض، حينما سمعت كلاما لم أفهمه عن يميني، وصوت هيام يردد عن يساري :

” الحمد لله على سلامتك، بالأمس أصبت بإغماءة شديدة، وستبقين في المستشفى بضعة أيام للراحة”.

بعد أكثر من شهرين غادرت المستشفى، ولم أتعافى نهائيا من الشلل المؤقت الذي أصاب الجانب الأيسر من جسدي .

ضاع ثلثي ما جمعت من المال لعلاجي. وأهم ما خسرته كان كرامتي التي مرغها طيش الشباب ، واكتسبت حقدي على نفسي بعد ما اكتشفت اللعبة التي كان يتسلى بها “المسلم هشام” في أوقات فراغه.

آه..آه..والف آه….

يا رب سامحني وأعني على إصلاح حياتي..

 تمردت على حياتي بين أهلي ، ظنا مني بأني سأتذوق حلاوة حرارة الزواج الذي يكلل المغامرة العاطفية، بعد أن جربت الحياة الباردة، الخالية من العواطف، كما عشتها في سني زواجي الذي تم بواسطة الخاطبة.

يا لغبائي .. يا لطيشي…يا لجنوني..

 نقمت على زواجي الذي تم بواسطة الخاطبة الإنسية، وهي التي يسهل كشف خداعها إذا ما حاولت الكذب والمراوغة، بملاحظة لفتة عفوية، أو نظرة عين مضطربة، أو صوت متردد، يداري مباغتة سؤال مباشر يطرح عليها.. وسلمت قدري بسهولة لخاطبة اليكترونية …لا يصعب عليها الغش والخداع أبدا، بل هي التي تتفنن في ابتكاراته.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *