لاريـسا

خاص- ثقافات

*محمود شقير 

في لاريسا شيء محبّب، لا يعرف كنهه بالضبط. التقاها أول مرة في المطار. كانت مثل مهرة جامحة، وكان خارجاً للتوّ من رطوبة الزنازين. رافقته لاريسا إلى البحر البعيد تاركة مدينتها الصاخبة. هي تفعل ذلك كل عام، ترافق الضيوف القادمين من ذلك البلد الصغير الذي لم يهنأ يوماً ولم يعش لحظة استقرار، تقضي عدة أسابيع على شاطئ البحر، ثم تعود إلى مدينتها وقد لوّحت شمس الصيف بشرتها، وجمعت في صدرها حكايات جديدة، لم تكن تجد أي حرج في سردها على زميلاتها.

تقول لهن إنها لا تملّ صحبتهم ولا تنفر منهم، يلاطفونها بكلام عذب حيناً، ويعلنون دون مواربة اشتهاءهم لجسدها المكشوف أمام الرمل والماء حيناً آخر، تصدّهم برفق، وتصدّهم بخشونة إذا تمادوا، ولا تشعر بالندم لأنها حسمت أمرها بالبقاء في محيطهم حينما اختارت أن تدرس لغتهم. تقول كلما تعرضت لسؤال عن علاقتها بهم، ثمة شيء محبّب فيهم، لا تعرف كنهه بالضبط.

قالت له في عفوية محببة: سأخلع فستاني. كان مسكوناً بالخجل. أردفت دون تردّد: لماذا لا تخلع ملابسك؟ كان ذلك قريباً من شاطئ البحر. اختفت داخل كابينة صغيرة، لم تلبث فيها سوى لحظات. مشت حافية على الرمل، مشى إلى جوارها، وبدا واضحاً له أن ثمة جسداً ظلّ مخبأ في أردية الشتاء الطويل، يعلن الآن اندلاعه المتهوّر تحت الشمس. ركضت في الماء، ألقت صدرها وبطنها فوق الموج، سبحت مثل سمكة. راقبها وهو واقف على رمل الشاطئ، مشى في الماء بضع خطوات ثم رجع. نادته من بعيد كي يتبعها، لم يفعل. جلس عند الشريط الذي يتلامس فيه الرمل والماء، نهايات الموج تضرب قدميه، وثمة حصى مغسول يجثم ساكناً دون اعتراض.

عادت مبتهجة، عصرت شعرها الذهبي الطويل بيديها، فركت جسدها بالمنشفة، فرشتها فوق الرمل، ليس بعيداً منه، استلقت بأبهة واسترخاء، أغمضت عينيها لتتّقي أشعة الشمس، قالت: لماذا لم تنـزل في الماء؟ كان ذلك هو يومهما الأول قرب البحر.

حدّثها عن معاناته في الزنازين. حدثته عن بعض تفاصيل حياتها. قالت إنها أحبت ذات يوم طالباً من أبناء مدينتها، عرض عليها الزواج، كادت توافق، وحينما عرفت منه أن ثمة من يعرض عليه الهجرة، للإقامة في مستوطنة بعيدة مبنية فوق أرض منهوبة، رفضت الزواج، وأنهت العلاقة معه. قالت إنها وقعت بعد ذلك في حب طالب وعدها بالزواج، اشترط عليها منذ البداية أن تسكن مع أهله في المخيم الذي انتهوا إليه بعد أن طردوا من بلادهم، فوافقت. أنهى تحصيله الجامعي، وعاد إلى المخيم قبل سنتين، وهي تتلقى منه الرسائل بين الحين والآخر، وتنتظر اليوم الذي يأتي فيه ليصطحبها معه إلى المخيم.

يصغي لها وهو مشفق عليها من مفاجأة. ثم تقطع حديثها دون سبب، تجرّه من يده إلى الماء، تشجعه على السباحة، يربكه الموج، يتعلق برقبتها، يدخل صدره في تماس غير مقصود مع نهديها. قضت وقتاً غير قليل وهي تعلمه السباحة، ركضت معه فوق الرمل، دخلت معه في اشتباكات عابثة، تباغته بحفنة من الرمل ترشّها فوق رأسه، ثم تهرب مبتعدة، يتبعها راكضاً، يقبض عليها، يلف ذراعيه حول خصرها، يحملها عالياً بين يديه، ينـزلها على الرمل، تستلقي وهي تضحك، يملأ راحة يده بالرمل، يهدّدها بأنه سينعفه على شعرها، لكنه لا يفعل، يدني قبضته من القناة التي بين نهديها، يسمح لبضع ذرات من الرمل بالتسرب من راحة يده، تشعر بالرمل يدغدغ أطراف النهدين، تمعن في التمنّع والضحك، تفلت منه، تركض، يركض في أثرها إلى أن يحلّ المساء.

ذلك المساء، مدّ يده إلى نهدها بصراحة لا تحتمل التأويل، أيقنت أنه يكرر ما حاوله معها الآخرون. تذكّرت أن عليها أن تصدّه كما صدّت الآخرين، لكنها تلكأت، تلكأت قليلاً، ارتبكت، أغمضت عينيها، وغابت عما حولها من رمل وماء وهواء.
_______

*روائي وقاص فلسطيني

من مجموعته القصصية “صورة شاكيرا”/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ 2003

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *