خاص- ثقافات
من المفاجآت التي أطلقها حفل الاوسكار عام (2015)، أن فيلم “لعبة المحاكاة” الذي رشح لثمان جوائز اوسكار لم يفز الا بجائزة واحدة استحقها بجدارة، وهي جائزة أفضل سيناريو مقتبس(لجراهام مور): تفوق الممثل “بينديكيت كوبرباتش” بتقمص شخصية عالم الرياضيات البريطاني الشهير “آلان تورنغ”، كما أبدعت “كيرا نايتلي” بدور خطيبته، وكل من “مارك سترونغ” بدور منزيس رجل المخابرات، وماتيو جود في دور “هيو ألكسندر” العالم المشارك في فك الشيفرة، وتشارلز داتس بدور “دينستون” القائد العسكري المسؤول.
يستند هذا الفيلم لمقولة “الناس الذين لا يتوقع شيء منهم، هم بالحقيقة هؤلاء الذين ينجزون أشياء لا يتوقعها أحد”! وبصراحة لم أجد مغزى واقعي لهذه المقولة وخاصة ان الشريط أثبت أن عالم الرياضيات البارع “آلان تورنغ” قد حقق إعجازا “متوقعا” بقدرته على فك “طلاسم” الشيفرة الألمانية، وربما ساعدته الصدفة والحظ أثناء استغلاله لعبارة ألمانية عادية نقلتها له ببراءة زميلة خطيبته، وذلك بعد أن كاد أن يعجز مع فريقه المميز بالرغم من بناءه لآلة حاسوبية معقدة، أخذت وقتا طويلا، وقد توقع مدير المشروع (مستصعبا ومتهكما) أن يستغرق فك رموز الشفرة زمنا فلكيا يستغرق العشرين مليون عام بعد استنفاد حوالي 195 مليار مليار محاولة يومية!…ومع كل هذا الضجيج الذي صاحب هذا الفيلم، فقد وجدته يفتقد جزئيا للمصداقية والإقناع، وقد فشل ربما المخرج النرويجي “مورتن تيلدوم” بإظهار كيفية عمل الآلة الحاسوبية الضخمة التي ركبها العالم والتي كلفت حوالي مئة ألف جنية استرليني، كما بدت حركاتها بدائية وغامضة، ولم نقتنع كثيرا بأسلوب عمل الفريق، حيث تم التركيز على جاذبية العالم وجاذبية البطلة (كيرا نايتلي) وعلاقتهما الغامضة العاطفية، حيث نجحت بالبداية بحل لغز الكلمات المتقاطعة بأقل من ست دقائق فيما تمكن هومن من حله بثمان دقائق (أي إنها أذكى منه عمليا)، كما تم التركيز أكثر من اللازم على “مثلية” العالم فيما لم ينجح الممثل الفذ نفسه باظهار هذه المثلية بالشكل النمطي المعهود، كما أن الفيلم تحدث عن ثلاث قصص متداخلة ضمن السياق، مما ساعد قليلا على التشتت، فهناك قصة صباه ونشأته بمدرسة داخلية، وقسوة زملائه بالتعامل معه، وخصوصية علاقته مع “كريستوفر” (الفتى المتعاطف الشاذ) الذي أنقذه من اضطهاد زملائه ، والذي توفي مبكرا بالسل البقري، وقد بدت شخصية العالم كما أظهرها الفيلم كمتوحد بائس بحاجة للحنان والعطف والتفهم، يكشف الفتى اليافع عبقريته المبكرة عندما يقول لصديقه الحميم “كريستوفر” “إننا نمارس الشيفرة والتشفير بكلامنا اليومي “! وقد ركز الفيلم على سباقه مع فريقه لفك أسرار اللغز وإنقاذ لـ”حيوات” 14—20 مليون شخص وسنتين من العمر الافتراضي للحرب العالمية الثانية، ولا أدري كيفية حساب ذلك إذا ما اخذنا بالاعتبار أن أمريكا قد بررت كذلك قصف اليابان مرتين بالذرة أواخر الحرب الثانية بنفس الحجج تقريبا أي تقصير فترة الحرب وحماية أرواح الجنود الأمريكان! واللافت أن “اوباما” بأحد خطبه بالعام 2012 قد اعتبر “آلان تورنغ” كواحد من أعظم ثلاثة علماء بريطانيين منهم اسحق نيوتن وتشارلز داروين، كما أن ملكة بريطانيا أعادت الاعتبار له رسميا بعد أكثر من ستين عاما على وفاته منتحرا بالسيانيد عام 1954!
يركز الفيلم على حياة وعمل عالم الرياضيات “آلان تورنغ” من 1939– 1945 فيما يسمى “حديقة بلتشلي الاستخبارية’” مع مجموعة متنوعة من العلماء واللغويين وأبطال الشطرنج وضباط المخابرات، ومن ضمنهم جوان كلارك (كيرا نايتلي) التي لفتت انتباه تورنغ لذكائها وجاذبيتها، والتي أقنعته بأن يتخلى جزئيا عن غروره وعنجهيته وعناده وتعاليه، لكي ينسجم مع فريق عمله ويقوم بحركات أكثر تحببا ومشاركة، وبالفعل فبعد أن اسهم بطرد اثنين من زملاءه ببداية العمل، دعمه باقي الفريق عندما هدد رئيس المشروع بطرده لعجزه عن تحقيق النجاح خلال الفترة الزمنية المقررة.
تمزق تورنغ بين رغبته الكاسحة لاستخدام ذكاءه وماكينته (التي أسست للحاسوب وبدايات الذكاء الصناعي) لكشف أسرار الشيفرة الألمانية المعقدة، وبين قمعه لميوله الجنسية المثلية التي كانت تعتبر جرما حسب القانون البريطاني السائد في حينه، كما أنه أثبت وطنيته النادرة ونكران الذات عندما ألزم فريقه على عدم استغلال “كشف الشيفرة” لتفادي مواقع القصف الألماني (التالي) وتجنب الخسائر، حتى أنه تخاصم بشدة مع أحد العاملين الذي رغب باعلام شقيقه الأكبر بموقع قصف محتمل لغواصة يعمل داخلها…وفضل استغلال هذه المعرفة الثمينة لتضليل الألمان وتحقيق أهداف استراتيجية كبرى غيرت مسار الحرب وضمنت للحلفاء إنزالات مفاجئة ضخمة.
أظهر لنا كومبرباتش( الذي أبدع بتمثيل أفلام كحصان الحرب و12 عاما من العبودبة) قدرات جبارة على احتواء عواطف الغضب والأذى والإحباط والندم، وساعدته “نايتلي” بتعاطفها وكلماتها المؤثرة، وخاصة عند زيارته بعد الحرب وقد تفهمت معاناته تحت تأثير تناوله لجرعات عالية من هرمون “الاستروجين” (الذي أجبر على تناوله بانتظام وإلا سيسجن لعامين)، كما إنها كانت فريدة بطريقة تفكيرها عندما عرضت عليه الزواج (بالرغم من معرفتها لشذوذه) على أساس انسجامهما العقلي والسلوكي، كما أظهرت الحكمة بمواساتها له وتبريرها لمغزى معاناته الشخصية (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم) وهي تذكره بدوره بكشف الشيفرة وابتكاره للماكينة العملاقة التي سماها “كريستوفر”، ولكنها لا تفلح بإشغاله بحل الكلمات المتقاطعة حيث بدا منهكا وحزينا ويائسا…كما فاجأنا ضابط المخابرات منزيس (قام بالدور الممثل البارع مارك سترونغ) بأنه يعرف عن شذوذه الجنسي كما يعرف بوجود عميل سوفيتي مندس، حيث تتشابك المصالح وتتناقض شرط عدم إفشاء الأسرار للعدو الألماني “الأوحد”، وينجح ضابط المخابرات هذا “ستيوارت منزيس” بالتلاعب الذكي، فيسرب بعض المعلومات ويحجب الأخرى، مضللا الألمان ببراعة ودهاء.
توفي تورنغ بالعام 1954 قبل بضعة أيام من بلوغه الثانية والأربعين إثر تناوله تفاحة مسممة بالسيانيد!
لقد نجح المخرج النرويجي بتقديم دراما ثرية “شيقة” وخلطها بالبيوغرافي والجاسوسية على خلفية مشاهد حربية واقعية، وقدم لنا تفاصيل مدهشة لحياة عالم الرياضيات الفذ و”المسكين” وبلا تزويق ومواربة، كما استنتج ببلاغة دالة أن أسرار النازية كلها مخفية في “أنجيما” حتى يتم فك الشيفرة، فيبدو الأمر وكأنك تتنصت على تيلفون “جوبلز” الشخصي (كما يقول تيرنغ)!
الشيء اللافت والمثير للاعجاب أن مشروع فك الشيفرة هذا بقي سرا لمدة نصف قرن تقريبا، حيث تم إحراق كل الأوراق والوثائق، كما أننا ندهش عندما نعرف أن هذا العالم الفذ “سيء الحظ” قد أسس ربما بهدوء لما يسمى الآن الذكاء الاصطناعي عندما قال: “أجهزة الكميوتر قادرة على التفكير بشكل مختلف عن اسلوب البشر بالتفكير، وعلينا أن نحترم هذا الاختلاف”.
__________
*ناقد سينمائي.