لسنا نهدف إلى إثارة جدل غير مجد من خلال هذا المفهوم الصامت عن ما قد يومئ إلى فوقية ما تستصغر الشعرية في شمولية علائقها براهن إنتاجها ولحظة بزوغها ، وليس القصد من تنظيرنا هذا اختلاق أسقف مانعة تحدّ وتضيّق على فيوض جماليات الخطاب في استغراقه لزمن التلقي ،بصرف النظر عن المصدر وجنسيته الأدبية .
كون الشعرية مع ولادتها تتلبّس سيمياء خطاب مزدوج يفجّر بالتزامن إحساسا ينعش الذائقة كما معلومة تستقرّ في الذهن.
إنها شعرية اللاشكل مثلما تنقلها لنا وبنجاح كبير تجربة السوري نجد القصير المولع بكاريكاتير الكلمات إمعانا في توظيف المصطلح كانعكاس مشوه ومهلهل مترجم لمدى السخرية من مرايا الذات، في لبوس مرارة التهكم من واقع اجتماعي واقتصادي وسياسي معين.
لقد استطاع هذا المبدع أن يشقّ له مسارا مبطّنا بخصوصية الصوت و فرادة البصمة ،وتعود الملامح الأولى لهذا اللون التعبيري في مشوار شاعرنا إلى بدايات العشرية الثانية الجارية من هذه الألفية .
وكأنما انطلقت جذوها مع مخاض الاضطرابات الممهدة لتغيرات إقليمية لم تزل تنخر كيان العروبة وتملي على أهلها نواميس الطاعة العمياء غير المكترثة بأوجاع ودماء وأحلام إنسان الهامش في رفضه العيش محايدا خارج طوق المواجهة ومتاهات الصراع دونما الذود عن تطلعاته وخوض مغامرة استرداد الكرامة المسلوبة.
يطالعنا بين الفينة والأخرى ،بمقطوعات تنصت لنبض اليتم والفاقة والحرمان فضلا عن عاهات مجتمعية جمة،فيتمّ ذلك عنده من منطلق الكلمة الصورة حين تفيض الذات عليها لا العكس،بمعنى أن صاحبنا بطل المناورات المكشوفة ، لا يختبئ في الكلمة شأن فعل أشباه الشعراء ، بقدر ما تحتمي الكلمة بظلال خيالاته، طيّعة و مذعنة لصوت قوي جدا يتشكل من فتات الشارع ويصهل مع المعطّل و المتجذر والهامشي، ليصعق بمدلوله ويربك برسالته.
لا أجلسُ على رصيفٍ
إلا وأشعرُ بأنَّ العالَمَ كلّهُ
تحتَ ، تصرّفي.
لنتأمل المشهد الفرعوني وهو يقود إلى تمثلات الاستقواء وبسط السيطرة وادعاء الإلوهية.الرصيف كمعادل لكرسي الطغيان والاستعباد والجبروت.ذاتية تستشعر كل هذا التسيّد والعُجب و وهم امتلاك الكون ، تحتي ، لي.
بيد أن حالة شاعرنا تشي باستقرار نفسي في فوهة جحيم ميداني، منتحل من سلطة الكلمة وعزيز بها.
وما أهرامات ما نشهده اليوم من فوضى ودمار امتطاء لصهوة الأوطان والسياسة والدين،ما هم في حقيقة الأمر إلا نسخا وتكرارا للشخصية الفرعونية في غرورها اللامعقول وأنانيتها وساديتها وجنونها وغطرستها، وإن بنسب تختلف وتتفاوت حسب الحاجة إلى ذلك الجوع والعمى الروحي.
لم تعد ثيابي، تليقُ بي كشاعرٍ،
فلا أبدو فيها إلا كعدّاءٍ، أمضى حياتهُ
وهو يركضُ وراءَ لُقمة عيشه.
لنلحظ كيف أن الكلمة مهما ناوشت وموّهت لتعطي انطباع أنها أميل إلى المطلق والكامل ، تمكث مجرد كلمة أشبه بمسافة لركض أحمق باتجاه عكسي بحثا عن الذات وتنقيبا في أسرارها وأيضا تبريرا لمفارقة فشل يتكرر وروح انهزامية سرعان ما تخضع لمنطق الاستهلاك.
دفعةً واحدةً أحببتك
وبالتّقسيط غير المُريح
دفعتُ الثّمن.
………………….
أنتِ جميلة
والكلُّ يشهدُ بذلك،
البقّال
والفرّان
ومازورةُ الخيّاط،
أنتِ جميلة
لا جدالَ في ذلك
لكنّهُ الشّعر
يومٌ لكِ
وبقيّةُ الأيام لغيرك.
……………..
لا تعترفُ المرأةُ
بوزنها الزّائد
إلا في المطار.
……………………….
لا علاقةَ لي بالجوائز الأدبيّة،
لا من قريبٍ ولا من بعيد،
مناوراتي اللغويّة وأنا حافي القدمين
لا تنصفها سوى جائزةِ الحذاء الذّهبي.
……………………….
لجمالها، رفعَ القبّعة
فَطارَ منها
حُبّهُ الأوّل.
……………………….
أولئكَ الذينَ كانوا مُختبئينَ في ثيابهم،
بعدَ فوات الأوان
أدركنا أنّها أغلى ما يملكونه.
//
………………………….
لسانُ حذائي
قصيرٌ جدًا
والطّريقُ إليك، طويلة.
……………………..
لا أفتحُ قلبي لأحد
إلا وتطيرُ منهُ فراشة
إلا أنتِ
حينَ فتحتهُ لكِ
طارَ عقلي.
…………………………
يومَ رآكِ أوّلَ مرّة،
عجزَ العالَمُ كلّهُ
أنْ يغلقَ لهُ سحّابَ بنطاله.
………………….
قطعَ العالَمُ أُذنيّ الرّغيف
كي لا يسمعَ نداءات الفقراء
واستغاثاتهم.
…………………………..
ثمّةَ شعراءٌ إقصائيون؛
بإمكانهم إغلاقُ بابٍ أو أكثر،
لكنّهم لا يستطيعونَ إغلاقَ نافذةٍ واحدة
لأن قامتهم في الشِّعر قصيرة،
أقصرُ ممّا يمكنُ لأحدٍ أنْ يتخيّل.
……………………….
من دون أيّة رحمةٍ
أو شفقة،
دفعَنا الطغاةُ
من اليابسة إلى البحر.
وهناكَ، في عرضه،
وقعْنا في أيدي القراصنة.
وراحوا يفتّشوننا بنهمٍ
بحثًا عن المال والذّهب،
فلم يجدوا في جيوبنا
سوى دُحل الأطفال،
وتحتَ أظافرنا
ما ادّخرناهُ
من تراب الوطن.
متون كاريكاتيرية تتنوّع و تتوزع على نحو يتيح للكلمة إفراغ الحمولة الإيديولوجية في كادر تناسل دوال الكوميديا السوداء،لتأطير لحظة الوجع،وتوليد صدمة انتشال الذات من شرودها.
لا تُمسكي فنجانَ القهوة من أذنه
فلا ذنب له إن أدمنَ شفتيك.
*** *** ***
اقرئيني
كما يقرأ عالم الآثار معالمَ الأرض
فإن حروفي طاعنةٌ في عشقك.
*** *** ***
أحببتُ العزفَ على العود لأجلك
فأنا أعزفُ عليه تقاسيمَ وجهك.
*** *** ***
حين بلغتُ الأربعين
لم يبقَ أمامي
إلا علي بابا.
*** *** ***
في موسم التنزيلات
حسمتْ أمرها وعانقتهُ.
*** *** ***
سأقلّمُ شجرةَ عائلتك
فقلبي لا يتسعُ إلا لأغصانك.
*** *** ***
تجاوزَ جمالها حدودَ المألوف،
فكتبوا به ضبطًا.
إنها مطاطية وتوسع وتمدد هذا الفن في أرقى مستويات تقاطعاته البصرية المسموعة،تتلون أدوات فبركته مسهمة في تتكاثف أغراضه لخلخلة الكامن فينا ورجّ الراكد وفق ما يفتح القلوب قبل الأعين على انتهاكات عصر المساومات والاتجار في منظومة قيم أدنى عتباتها الحب وأقصاها الوطن.
عصارة القول إن شاعرنا أفلح وإلى أبعد الحدود في نقل المعركة من نتانتها وضراوتها المتحيزة إلى منهج بوح وديدن أسلوبية تضحك لتبكي وتهدم لتبني .
تجريبية موفّقة تنم عن نبوغ وسبق يطعن بجمالياته ويدثّرها مبدأ الانتصار لإنسانية مغتصبة وهوية ذبيحة.
____________