خرج الكاتب إلى الشارع لاصطياد أبطال يليقون بخوض غمار مشروع روايته الجديدة. وبعد عودته إلى منزله في أطراف المدينة الكبيرة، أدخل غنيمة الصيد إلى البهو الكبير، وبدأ يتفرس في الوجوه. رجال ونساء من كل الأعمار والفئات والطبقات.
اكتشف المؤلف أن الشخوص التي جلبها معه كلها لا تنفع لتحيا بين دفتي روايته. وعرف عن كاتبنا تدبيج روايات مليئة بالمآسي والدماء.
في وقت متأخر من الليل قرر الروائي إخلاء سبيل المحتجزين، بعد أن خطب فيهم بغضب:
– ما هذا العصر الفارغ الذي جئتم منه، تتكاثرون كالأرانب وكالذباب البليد، تستنسخون بعضكم كنعجة دوللي، لا أحد منكم بقادر على اقتحام أدوار البطولة الحقيقية. أما أنا فلست من أولئك الكتبة المعتدين على الحرف والكلمة، لهذا قررت إخلاء سبيلكم لتعودوا من حيث أتيتم، وإياكم أن تتكلموا عن ما وقع هنا، باختصار أفيدكم بأنه لم يحالف الحظ أحدا منكم كي يفوز بأدوار البطولة.
كان الأبطال واقفين أمام الكاتب بصمت، في حالة من الرعب الشديد، كأن على رؤوسهم الطير. وعند إنهاء كلمته سارعوا إلى التصفيق مبتهجين بالخلاص، هارعين صوب الباب. في الوقت الذي جلس فيه الكاتب على كرسي عال يراقب تدافعهم وعلى وجهه ابتسامة ماكرة.
ارتفعت الجلبة والصراخ، ثم تعالت شعارات احتجاج واستنكار.
– ما الذي يحدث؟
صاح الكاتب وابتسامة المكر لا تفارق محياه.
قالت امرأة:
– إن الجميع ضل السبيل، ولا أحد يعرف اتجاه الباب.
رد الكاتب صائحا:
– الباب في مكانه، حيث ولجتم راجلين أول مرة.
أجابه شاب ملتح في غضب:
– عندما أدخلتنا أول مرة عمدت يا سيدنا الكاتب إلى إغماض عيوننا، فمن أين لنا أن نعرف المخرج، هل هو على اليمين أم على الشمال…
تبسم الكاتب مستهزئا، وسأل الشاب الذي رأى في ملامحه بعض التهور:
– عليكم استخدام قليل من العقل، عادة أين تبنى الأبواب، أعلى اليسار أم على اليمين؟
بادرت امرأة أنيقة المظهر:
– ليست هنالك قاعدة ثابثة في اتجاه بناء الأبواب بالنسبة للبنايات الوحيدة المخرج، مثل بيتكم سيدي.
وتدخل آخر متوجها بكلامه للمحتجزين:
– واضح أننا ضحايا مكيدة، إن هذا الرجل لا يرانا إلا فئران تجارب، همه هو متعته الخاصة أولا، التي يستمدها من تعذيب الآخرين من أمثالنا، تلك المتعة التي يقوم بتسويقها واكتساب المال والشهرة أيضا من الناشرين والإعلام، ونحن من يؤدي ثمن شهرة هذا المهووس مرتين، أولا كأبطال يعمد إلى سرقة مساراتنا ومحننا وتجاربنا الحياتية، وتوظيفها التوظيف الذي يوده هو ويرضاه.. ، وثانيا من خلال نقودنا حين نبتاع كتبه وقصصه لعلنا نجد فيها أنفسنا وصورتنا الافتراضية.
وقف الكاتب وقام بتعنيف وتصفيد الرجل صاحب الكلام التحريضي. أدخله إلى غرفة ضيقة. وعاد للتفرج على المحتجزين بنظرات تقطر مكرا.
زادت حدة الجلبة والصراخ والاحتجاج، واقترح آخرون تنظيم الحشد للانقضاض على الكاتب الروائي:
– ألسنا قادرين يا ناس على هزم هذا السخيف الأعزل؟
هنا أظهر الروائي من تحت معطفه الثقيل رشاشا أوتوماتيكيا وأردى طفلا وامرأة وشيخا وشابا في مقدمة الحشد.
– في جميع الأحوال كان هؤلاء الأوغاد سيموتون في بداية الرواية…
قالها الكاتب بكل هدوء كمن يحدث نفسه.
صمت الجميع وأمسكتهم الرهبة والرجفة.
ثم أضاف بهدوء أقل:
– أما من سيقتل في النهاية منكم، هذا لو قدر لكم أن تكونوا أبطالا، فهم أكثر عددا من القتلى الذين سأوقف نبض الحياة في عروقهم على امتداد صفحات الرواية. بل إني أنا الوحيد من سيبقى على قيد الوجود بعد أن أفنيكم جميعا.. لستم محظوظين لتكونوا أبطالا.. تفوو عليكم… جبناء.. أوباش.. لستم على استعداد للتضحية، وبالتالي من الصعوبة على جمهوري الواسع من القراء الاقتناع بكم، أو التصديق بكونكم حقيقيين…أما من سيقرؤونني مترجما في لغات العالم الأول فسيمقتون سحناتكم.
ساد صمت رهيب، قطعه الكاتب بمناداته على شابة حسناء كانت تقف في الخلف:
– يا أنت.. إيه أنت.. تعالي .. قد تنفعين في إحدى مراحل الرواية لأعيرك لساني وإحساسي. لنحاول الآن تجريب مهاراتك في الحياة.. تعالي فرّجينا…
تقدمت الحسناء ترتعد، أمسكها من يدها مبتسما، كأنه يشجعها على التماسك. ثم أدخلها إلى غرفة نومه، وهو على العتبة، أكد الكاتب على أنه لا يريد سماع أدنى حركة تفسد عليه راحته، ثم لوّح بسلاحه نحو المحتجزين مشيرا إلى جثث قتلاه.
مر وقت غير محدد قبل أن يستفيق الروائي. لم يستطع أن يقدره، أهو ساعة أم ساعتين، أو يوم أو يومين. عندما فتح باب غرفته فوجئ بهروب جميع المحتجزين، حتى الجثث تم تهريبها ولم يبق منها سوى أثر دماء على البلاط الممسوح وعلى الجدار الرمادي. فتش عن الفتاة التي نوى تجريبها فلم يجد غير حقيبة يدها.
اتجه الروائي تائها نحو الباب الخارجي الذي كان أقفله بجدار مموه، فوجده على حاله، أشعل غليونه للتفكير في الأمر، ارتدى بذلته، همّ بالخروج، فاكتشف أنه نسي الباب، أزاح الجدار الوهمي فوجد خلفه جدارا حقيقيا من اسمنت. صعد إلى السطح فرأى الشارع خاليا، وحدها كلاب ضالة كانت تنافس قططا على صندوق قمامة.
في نهاية النهار تراءت له جموع من متظاهرين يحملون صورا بأحجام كبيرة ولافتات ويهتفون بشعارات كالغمغمة غير مفهومة، لكنه ميز وجوه متزعمي المظاهرة، إنهم هم، هم من كان يحتجزهم قبل ساعات أو يوم في بهو منزله. حتى الطفل والمرأة مع الشيخ والشاب ممن كان قد أرداهم برشاشه الأوتوماتيكي، كانوا يسيرون في المسيرة. وشاهد الفتاة الحسناء التي أراد تجريبها تصنع بأصابع يدها شارة النصر، وباليد الصانية تمسك بيد الشاب القتيل. أراد أن يصيح فخانه صوته. ثم رأى المتظاهرين يغيبون في نهاية الشارع من دون أن يعرف غايتهم.
نزل إلى غرفته حائرا، أشعل الغليون، وأخذ يفكر متسائلا بصوت مسموع في ما الذي وقع ويقع، وما معنى أن يكون المرء كاتبا وروائيا، وهل هو كائن حي أم شبح ووهم.
مشى ببطء وسط ممرات البيت، ثم وقف أمام خزانة الكتب، سحب رواية قديمة من تأليفه، ما أن فتح الصفحة الأولى حتى فوجئ بسطور الكتاب تتحول إلى سائل أسود برائحة عفنة، ظل السائل يقطر من الصفحات، ثم من خزانة الكتب التي لم يلمسها حتى امتد إلى السقف لم يفلت الكاتب من الغرق والاختناق.
في الغد لما وصلت الخادمة وجدت جثة الكاتب ملقاة على أرضية غرفة النوم وبجانبه قارورة سم قاتل ورسالة يشرح فيها سبب إقدامه على وضع حد لحياته. سيقرأ المحقق بخط كتب بيد مرتعشة عبارة: “غاب الأبطال الحقيقيون واختفوا”.وفي سطر آخر: “إن ضميري هو من أملى علي أن أغيب وأختفي أنا الآخر من عالم يتكاثر فيه الجبناء تكاثر الذباب البليد”. ثم إمضاء الكاتب واسمه. وفي حقيبة يد نسائية صغيرة تم العثور عليها في غرفة نوم الميت وجدت ورقة مرقونة بالآلة الكاتبة تتضمن نفس العبارات المخطوطة على الورقة والموقعة باسم الكاتب.
أبان التشريح الأول لجثة الكاتب خلوها من أي تسمم، وتعرضه لضربات عديدة بنواحي متفرقة من جسده. وأمر المحقق بإلقاء القبض على الخادمة بتهمة قتل الكاتب. لكن المرأة العجوز نفت أن تكون هي القاتلة، وحكت للبوليس حكايات غير مكتملة حول حياة الكاتب وتصرفاته وأفعاله، وقصة الأشخاص الذين يجلبهم معهم كل ليلة من الشوارع والحانات الليلة والملاهي، ولغز اختفاء ضيوفه الليليين. وحقيقة علاقته النسائية. إلا أنه لما تمت مراجعة آخر المكالمات الهاتفية التي أجراها القتيل وجد البوليس أنها كلها مهاتفات صادرة عن سكرتيرة دار النشر التي كانت تتولى نشر روايات الكاتب، وأن بعض تلك المكالمات تهديدات بتقديم شيكات من دون رصيد صادرة باسمه إلى القضاء، وبعضها الآخر تغزل متبادل بين السكرتيرة والكاتب واتفاق على مواعيد ليلية.
تقرر استمرار إيقاف الخادمة بسبب تطابق رقم هاتفها مع رقم هاتف سكرتيرة دار النشر. من أجل تعميق البحث والتحقيق، خصوصا وأن البصمات التي جمعت من عين المكان كانت لأشخاص غامضين. لكن الغريب هو توصل التحقيقات إلى عدم وجود أي دار نشر تحمل الاسم المسجل على روايات الكاتب المنشورة. “دار الذبابة المضيئة”.