*د. سهى نعجة
خاص ( ثقافات )
“أنا العطف بين كلّ نقيضين، جزء من هذه المتلازمة المستمرة، وحلقة في سلسلة من الصفحات المتلاحمة، حاضري نتيجة لا منطقيّة لماضٍ عشته، ومستقبلي سيكون منبثقًا عن غيب لم أعشْه
بعد، وما زلْت ألاحق حرف عطف هاربا علّه يعطف النور على عتمةِ دربٍ يسلكني..
قد أكون لست أنا”
أحمد صويري
الإبداع قابل للجمال، وليس لعمليات التجميل
أحمد صويري
لا رغبة لأحمد الصويري الشاعر السوري المقيم في السويد، ذي الروح النهر التي ترفض السقوط في الواحد، والكلمة الفضاء التي تؤمن بأن “القصيدة لا بدّ من أن تكون سرّا يبحث القارئ عن مفتاحه”، والإيقاع الشجيّ الشجنيّ المعمّد بالفرات حقيقة ومجازا ؛ إلا بقارورة ياسمين دمشقيّ تصلّي للشمس، وبجديلة عنب تشهق الشّام آهة آهة، وبغيمة حبلى تهدل أنثاه مطرًا، وتنام على زند فجر يحلم بتفاصيل عشق مخضّب بحنين وريحان تنهدُ له ناياتُ البراري، وتَخْشع له القوافي، فتخْضَرّ روح القَصيد، وتخضلّ الأمنيات.
مهر أحمد الصويري الحياة مدّا وجزرا، ورتّلها صَدًى وسُدًى، فتشظّى بمآلها، وبنارها تلظّى، وجاهد ليظلّ؛ ليكون؛ فلا بدّ من آنٍ تصير فيه الحرائق حدائق، ويصير النزيف عزيفا يبلسم القلب، ويعيد لعصافير روحه مجد الطيران؛ لا بدّ من أوان تجيء فيه امرأة تضيء زمانه بكلّ اشتعاله، فيسرفُ في التقاطِ لوزِها غير قانط من عقوق بعض الفصول.
انحاز الصويري الذي اكتظّت ذاكرتُه بضباب المرحلة، وبرائحةِ الموت، وبالنّهارات الضريرة يفحّ منها الغبار، وبالحنطةِ المقدّسةِ المراقة على قارعةِ الجوعى، وبالحناجر الخناجر، وبغيابِ أهلٍ يقصِفُ نعناعَ الروح ويُضلّلها، وبشرشِ النّبض الشَّحوب، وبابتساماتٍ عابسةٍ يابسةٍ شائخةٍ دائخةٍ، وبارتحالٍ قسريٍّ بلا هويّة أو جواز سفر، وبدمعٍ عقدَ البيعةَ مع الدّم، وبأصابعَ أخذتْ تغطّ في هذيانها وتحترفُ مراوغة المحال، وبنحلةٍ عَشِقت سنبلةً تراودها كلّ يوم ألف مِقْصَلة، وبمصابيح خانت الخطى، وبفجر حنث ميعاده وتعلّل بغريد مشروخ، وبمدى يعجّ بضجيج الصمت، وبقامات ممتدّة من أظافر، انحاز إلى سياق الإنسان العربيّ: الخاصّ منه والعامّ، يجبر كسره بمعمار
شعريّ شفيف رهيف، أنيق رشيق ينتصر فيه للوطن أنى كانت جراحاته:
لا أتقن العيش في روحٍ ولا جسدِ
يصطادني الوجد لكن ليس يقتلني
ولا حياة يواري ماؤها رمدي
فإن حييتُ على الآهات في ولهٍ
أو متُ، فالعمر في عينيك يا ولدي
انتصر الصويري للغة تجاهد وتكابد، ولبصيرة الأصابع في الليل الضرير، ولموسيقى وفيّة للخيبات تصهلها مهرته الشعرية التي لم تحرن عن ماضيها العمودي، وإن نشدت الفضاء لرئتيها قاب خشعة مدروسة مضبوطة محدودة لقصيدة التفعيلة الموّارة بآليات كسر التوقع في البنى الصرفية والتركيبية فيرتهن المتلقي لمسافة توتر أمّارة بشعريّة الدهشة ومركزية الترجيع الموسيقي فيها المنحدرة من أغوار الدوال اللغويّة المكابرة النبيلة الكريمة المحتد، ومن الأقاصي البهية الشامخة الرئيّة الغنيّة باستئصال الوحدات اللغويّة المتمردة ، فعفّ عن السائد والشائع والمألوف، وطفق يشتبك بوحدات لغويّة جزلة مكينة مشعّة صقيلة مشرقة متوهّجة تغتني بمحمولاتها الفكرية، وبما ينجم عن علاقة التجاور والتعاقب بين الدوال اللغوية، وببريقها اللغويّ وإن قلّ روّادها في مناورة/ محاولة ضمنية تعيد الاعتبار للدوالّ المختزنة في المعجم العربيّ التي لا أنصار لها أو شفعاء، شأنه في هذا شأن خليل حاوي الذي قال فيه نزار قباني: “كان لا يستعيد أصابع الآخرين، ولا يشرب من محابرهم ، طازج الحروف، يهدر بحنجرة نسر” (اللغة العليا/ أحمد المعتوق، ص215) مؤكّدا حتمية التوازن بين اللذة الجمالية المعرفية وبين البنية النصيّة المكثفة للرؤى الكلّية والجزئية التي تستبطن النصّ الشعريّ فتحيل المتلقي إلى مشارك في إنتاج النصّ وتشكيل مساراته الفنية والرؤيوية، وقراءته الاستكشافيّة والتأويليّة، ومنشغل بسؤالاته المستسرّة، وبمآلات خطابه الشعريّ غير المنفك عن ثنائيّة الزمان والمكان، الزمان الذي باح به عبر زمن الفعل الذي تواتر في النصّ والدوال التي تشي به نحو: (الليل)، و(العمر)، و(الوقت) و(الأقدار). والمكان الذي تجلّى مركزيّا في (المنفى)، وهامشيّا في (الشطّ)، و(السموات) و(الأرض):
تتضرّع فيك خيوط الوهم
ترتّل قبل نزوح الليل
أسامي كلّ المنفيّين
فتنطقها أوراق الغار
تميل إليك أوائلها
وقيامة هذا العمر
على وشك استحضار النبض
ولكنّ الحزن كبيرٌ
وكبيرٌ صومك
يا قلبي المصلوبَ على
شفةٍ من نارْ
الشطّ يمدّ إليك يداً
فاغرق في آثار الخطوات
ولملم من رمل المنفى
ملح الدمعات المنسيّات
ولا تقبلْ منه الأعذارْ
الشمعة هذي
تحرق روحك
فاستحلفها
قبل نزيف الوقت
أنِ
استعري في وجه البعد
ولا تتعرّي كالأقدارْ
لا مجدٌ دونك في السموات
ولا
في الناس مسرّتهم
والأرض بلا عينيك
قفارْ
لقد استمدّت القصيدة شفرات جماليّتها من “التفنّن بإدارة المقاطع والتراكيب والجمل الشعريّة حسب ما يبغي من وقفات تختلف مددها الزمنية، وحسب ما يريد من الضغط على بعض الحروف أو تكرارها” ( ترجيعات النصوص،راشد عيسى، ص24) ومن مركزية التركيب الإضافي نحو: (نزوح الليل)، و(خيوط الوهم)، و(أسامي كل المنفيين)، و(أوراق الغار)، و(قيامة هذا العمر)، و(استحضار النبض)، و(قلبي المصلوب)، و(آثار الخطوات)، و(رمل المنفى)، و(ملح الدمعات)، و(نزيف الوقت)، و(وجه البعد)، ومن الأفعال التي اتخذت غالبا صيغة الأمر، صريحا كان نحو: (فاستحلفها)، و(اسْتَعِري)، و(فاغرقْ)، و(لملمْ) أو المضارع المسبوق بحرف النهي (لا )نحو: (لا تتعرّيْ)، و(لا تقبلْ) في دعوة صريحة معلنة لقول (لا) في سياقها المنشود، والأفعال المضارعة (تتضرّع)، و(ترتّل)، و(فتنطقها)، و(يمدّ) و(تحرق) التي لم تحمل معنى الأمر -على قلتها في القصيدة -بأن الشاعر في تعالق ضمني مع الخذلان والتشظي والانكسار والتشرذم والتهشم والتشرنق في دائرة الهمّ الوجداني الوطني، فهو ليس حدثا ماضيا، وتاريخا صار سجلا للموتى – على حدّ قولة نزار قبّاني- إنه واقع يوميّ معيش يكشف عن انشطار الذات العربية والإنسانية واحتقانها وجُواحها، وصهيلها المجروح، وهديلها المشروخ، وأزمة المرجعيّات ما جعل القصيدة تسير في نسق شبه دراميّ تمتدّ فيه اللوحات السردية الحركية والصوتية؛ يشي بهذا الأفعال التي بدأت فيها القصيدة: (تتضرّع)، و(ترتّل)، التي استحضرت حالة ابتهال دينيّ تتناغم ومقام اليأس والرجاء.
أما موسيقاه فقصيّة اكتنزت بالكثافة الإيقاعيّة لحرف (الراء) الذي تمكن من الشاعر، فدار في غالبية الكلمة حيث تكرر خمس عشرة مرة في القصيدة مازجت بين حضورها في بنية الكلمة كأن تكون فاء للدال اللغوي، نحو: (فترتّل)، و(رجل)،و(روحك)،أو عينا، نحو: (تتضرّع)، و(أوراق)، و(فاغرق)، و(تحرق)، و(تتعرّى)، و(الأرض)، أو لامًا، نحو:(العمر)، و(استحضار)، و(كبير)، و(آثار)، و(استعري)، أو عينا ولاما، نحو: (مسرّتهم)، ناهيك روي الراء الساكن الذي وحّد القصيدة وكان معادلا موضوعيّا لحالة الشتات والمزق التي تنهد في الروح، نحو: (الغارْ)، و(نارْ)، و(الأعذارْ)، و(قفارْ)، حيث القفلة الساكنة لصوت الراء الصامت اللثوي المكرر المجهور توازي حالة السكون والحداد السلبية الجبرية التي ما انفكّت تضرم الجمر في الروح ، وتخلخل الذاكرة التي تمور بالمتناقضات والمفارقات؛ فالدوال الأربعة كلها تشترك في صوتين صائت طويل هو الألف، والصامت الساكن الراء ، كما تتواشج الوحدات المعجمية الأربع في بؤرة الحقل الدلالي الذي يمتح منه الشاعر زمنه الرؤيوي، فالنار، والأعذار والأقدار والقفار كلها تنحدر لتصعد إلى الدال المفصلي الرجوى والمأمول (الغارْ)، الدال الإشاريّ لفسحة تنويرية تهجس بها نفس الشاعر.
إن كسر عمود الشعر ههنا عبر عدم تعاقب القافية، أو التقفية الداخلية والنزوع إلى وحدة التفعيلة، لم يخلّ ببنية القصيدة، وإنما ساعد على نمو موسيقاها المتدرج المتصاعد المتباين تشتتا وتماسكا وانسجاما وتوازيا وتبادلا وتكرارا، ليصير للإيقاع (الحزم الصوتية المتآلفة والمتنافرة) فاعلية مزدوجة: صوتية ودلالية، ناهيك الفاعلية الزمنية لأن تكرار الإيقاع إعادة للماضي فكأننا في اللا زمن- على ما يرى الغذامي-(الخطيئة والتكفير، ص26)
وقصائد الصويري مثقفة، تأنس بها النفس، ويستزهر الفؤاد ولا سيما حين تتكثف الحالة الانفعالية للشاعر فيتناص مع التراث، كما في استحضار مدولول (التفاحة) التي جاءت موصوفة ومسبوقة بالفعل( تُغريك) لتؤكد أنه في حالة استرجاع لمرحلة البدء والتكوين، فهذه تفاحة (آدم) سرّ الغواية الأزلي :
“تُغريك
كالتفاحة الأولى بحلقك
ما تزال تغصّ بالروح التي تخفيك
والدنيا بغير صليل بحّتها
ضياعْ”
واللافت للنظر أن الصويري يوزع القصيدة توزيعا مدلوليا يشي بالرغبه في التماهي مع الآخر ، لكنّ الآخر ناء ٍعنه قسرًا، منكفئ على نفسه، محفوف بالتيه وبالعتمة وبالنظرات العالقة في درب الشتات الشائك الطويل المقفر المقفّى بالمعاني المعنّاة بالإياب، وبالحلم يتأبّط ضوءا لا يجيء
الرحلة الأولى لعينيها
صناديقٌ مغلّقةٌ
ترتّب في متاهات الأبوّة
تيهها المحفوف بالنظرات تفترش الهوى
تستلّ من عرق الغريب شرارة الطلع المقفى
بالكواكب ساجداتٍ
تحت ظلٍّ الباقيات من الشموس
بلا شعاعْ
ويبلغ اللهاث حيث الضوء منتهاه ههنا في الدوال اللغويّة الحمّالة لمعنى (الضوء) وضده (العتم) حقيقة أو مجازا نحو: (لعينيها)، و(مغلقة)، و(تيهها)، و(متاهات)،و (النظرات)، و(شرارة) و(الكواكب)، و(ظلّ) (الشموس)، و(بلا شعاع). إن هذا المشهد البصريّ : المعلن والمضمر ترجمان لتوق النّفس فسحة نور تضيء ولا تعمي –على حد قول أدونيس-
ويتواشج المقطع الشعري السابق مع المقطع الشعريّ اللاحق حيث التاريخ مشهد بصري ماضويّ تخشع لجلاله الآفاق والأمداء
من مدّ للتاريخ باصرةً
سيخشع
كلّما فصلٌ أشعّ من الحجارة مورقاً
من أنزل الأحزان
يقرأ شاخصات العمر
تُرفع
إنها صورة بصرية تكاثرت عبر الدوالّ: (باصرة)، و(أشعّ)، و(مورق)، و(شاخصات)، و(مدى)، و(مقلتيه) لم يرتهن فيها الشاعر إلى كثرة المتضادات غير المباشرة، قدر ما حرص على التوزيع الرأسي والعمودي للدوالّ الضمنية لجدلية الضوء والعتمة كما في (أشعّ) (و(مورقا) وضدهما (الأحزان) في قوله:
كلّما فصلٌ أشعّ من الحجارة مورقاً
من أنزل الأحزان
يقرأ شاخصات العمر
ترفع
لقد شاكل الصويري الحسيّ البصريّ المجرد (الرؤيّة) بالإشراقيّ التخييليّ( رؤيا)، وتنازعت الذّات بين ثبات وتحوّل؛ إنّها – الرؤيا- التي مارت بها قصيدته وتمركزت في قوله:
والمدى حين استطالت دفّتاه
تكشّفت في مقلتيه مواسم القمح المسافر
حين لوعته استقى
من دمشَقَ الأوجاع
يلمح فوق نحر الياسمينة
حاضراً لا يُستطاعْ
رؤيا هي حصيلة تضامّ ” مجموعة من التقنيّات التعبيريّة المتّصلة ببعض المستويات اللغويّة، بخاصّة النحو، كشبه الجملة، والتركيب الإضافي، والتعليق النحوي، والإحالات المرجعيّة للضمائر المتصلة والمستترة، وأدوات الربط الجمليّة التي تشكّل المعمار السطحيّ والعميق والأفقي والعمودي للنّصّ الشعريّ، وأنساق تشكليها وتشكيل الصور الشعريّة البكر العذراوات ولا سيما عبر تراسل الحواسّ ؛ لقد تضافرت تلك العوامل كلها لتكوين منظور متماسك في النّصّ، بما يجعل الرؤيا هي العنصر المهيمن على جميع إجراءاتها التعبيريّة، والموجّه لاستراتيجيتها الدلاليّة.
لقد ناس سراج النور في عيني الصويري بعدما هجر الشام: مسرى القلب ومعراج الروح، وهمى غيمه على أصابعه دمعًا مالحًا، واشتد أوار الشوق فيه منجلا ينجلُ الأمل ويوطّن الألم، ويسرق ابتسامة الأطفال، ويفكّك شمل الآباء والأبناء والأزواج، وجفّ ريق كلماته في انتظار رجوع مزعوم، وعزفت موسيقاه عويلَ الأماني، ونعَتَ كُساحَ الياسمين، ونزفَ الدوالي في الضمير الإنسانيّ العربيّ، فتوحّشت آماله في ضوء اغتراب يخلس نبض الروح، ويعلّق الأماني على مشجب ضبابيّ كثيف، وغدت شمسه جبل جليد، وصار حلقه بستان شوك، وتقرّحت قدماه منتعلا حق اللجوء وحق الرجوع متأبّطا قافية ولودا وفيّة، لا تخذله، ولا تقامره، ولا تبيعه زيف الكلام، ولا تشيح بوجهها عنه نحو برتقالات كسلى، ولا تفشي سرّه لمن يعلقون سبحة النور على صدورهم وهم في ضلال يسكبون الموت في كأس تجعد فيه النبيذ، وفي عين اكتحلت بكبرياء الشجن، وفي سراب يحسبه الظمآن ماء، يقول:
لو أنّ بعضك مثل كلّي
كاشفٌ ستر الغياب
لما أدرت الوجه عنك
ولا وقفت بباب غيرك أشتري الزيف المنمّق
أو أقامر بالكلامْ
هم جرّدوك
وأجّروا عينيك للسحب الحزانى
يستقين بك الحِمام
ثمّ اشتروا كفّيك
حنّاءً تزيّن لحية العيب العتيق
وكحّلوا عين الشتات ليشبهوك
وخلف موجتهم رموك
تمرّ من تحت الكؤوس
وكلّ لونٍ يضرب الزبد المسافر فوق وجهك
بالزحام
إن انشغاله بالماضي وبالذكريات وبالأحلام وباليباس وبالعيون المثقلة تعبا وعتبا وسخطا وغضبا، وبالشهيق يخونه زفير فيشرب القلب حسرة، ويسكنه البرد تؤكده القصيدة الآتية حيث غصت بروافد ومرجعيّات دينيّة دالا ومدلولا لها حضورها المفصليّ في الثقافة الدينيّة وهي قصّة زليخة زوج العزيز التي راودت يوسف -عليه السلام- عن نفسه، وهذا الحضور يتكاثر في القصيدة من فاتحتها إلى منتهاها ولا سيما في ضوء استثمار الدوال والتراكيب الدينية الآتية:”،(والسنونَ تمرّ فوقهما عجافاً)، و(والسجن صورة صاحبَيه)، و(زليخةُ تغزل الزور المباغت شهقتيه)، و(وكن سلاماً ،فوق نار الفقد إذ كفّتْ أباك، فلا قميص الروح يورق إذ يجفّف دمعتيه، ولا دوالي الوصل، دانية القطوف)
يمضي إلى غده شريدا
طاعناً في الذكريات
ولحية الماضي تعلّق من فتائلها الحييّة
حسرةً في شاربَيه
يضيق بالأحلام صحواً
والسنونَ تمرّ فوقهما عجافاً
واحتمال الصابرين على أذاهُ
زفرةٌ شابت على برد الضلوع
وبعض حسرة أهلهِ
والسجن صورة صاحبَيه
استودع الذكرى بقلب رحيل من أفتى له
ألقى على الميعاد روح الصدفة الأولى
فرفرفت الغيوم وبلّل القفرَ الملوِّحَ
ماء وردٍ في يدَيه
استبصر الليل الحبيس على ضفاف جفونهِ
والليل سترٌ
كاد يفضح كلّ من وارى على شفتيه ناشئةً
وما زالت تراوده النجوم وفوق لمعتها
زليخةُ تغزل الزور المباغت شهقتيه
وتحت راحتها يميل الياسمين على السطور
فترقص الدنيا لهُ
قطّعنَ شبّاك الأماني
نسوةٌ من أضلعي
وتقول تلك الزيزفونة
أيّها الساقي اتّعظْ
لا تُفشِ ما خبّأتَ من لمحٍ على بصر السماء
ولا تضمّدْ صرخةً في إرث جدّكَ
شذّبتها القافلات
وكن سلاماً
فوق نار الفقد إذ كفّتْ أباك
فلا قميص الروح يورق إذ يجفّف دمعتيه
ولا دوالي الوصل
دانية القطوف
إن لجماليّة معمار النص الشعري عند الصويري: مركزًا وهامشًا، ومنسوبًا عاليا من الوعي النفسيّ والفكري ومكنة على استكناه أبعاد الدهشة السرديّة السيميائيّة في النص الشعريّ، وصوغه بهذه اللغة الناهضة المشمسة المشرقة الوضيئة المضيئة، الماتعة الشائقة، غير المستهلكة، العالية البيان والبنيان ما يؤسّس بجسارة لشاعر أصيل أنيق يروز ذاته النفسية، وذاته الشعرية بما أوتي من ملكات عليا تجيد اللعب المنظم الواعي لحركية الإيقاع وتناوب الضمائر والروابط، في النص الشعري؛ فلا مطّ فيه ولا ثرثرة لغويّة؛ لغة بصيرة وجدانية نشطة رحبة بالتدفق الانفعاليّ والدالي والمدلولي، واسترفاد الكنايات الحبلى بالحدوس البلاغية والإبلاغية العالية، وسبر المعاني العيوف، والتمازج النبيل بين الأصيل والمعاصر .
إن النصوص العشرين التي جاءت في ديوان الصويري الأول الموسوم بعنوان ” نبوءة لما يأتي من الغيم” نبوءةٌ بشاعر يعي بحدوسه وهواجسه وملكاته كيف يرتق حزنه، وكيف يقشع الليل ليتنفس الفجر، وكيف يكتحل النور، وكيف يمتشق الياسمين ،وكيف يسيطر على أدواته الشعرية ليكتب قصيدة تغتني بدوال ودلالات لا تنفد.. لا تنتهي..
فالنصّ الجيّد – كما يقول الجرجاني-كالجوهر في الصدف، لا يبرز لك إلا أن تشقّه عنه، وكالعزيز المحتجب لا يريك وجهه حتى تستأذن عليه، ثمّ ما كلّ فكرة يهتدي إلى وجه الكشف عمّا اشتمل عليه، ولا كل خاطر يؤذن له في الوصول إليه، فما كل واحد يفلح في شقّ الصدفة” (أسرار البلاغة، ص119-120). وهذا تماما ما يميز نصوص الصويري عمودية كانت أو شعر تفعيلة.