محفوظ والنقد الداجن

*خيري منصور

لا تستمد معاودة الكتابة عن نجيب محفوظ مبررها من مناسبة سواء كانت عشرية او مئوية، لأن مثل هذا الاستحقاق يجعل من إعادة قراءته والكتابة عنه مناسبة مستمرة ومتجاوزة لطقوس التقاويم.

في العشر العجاف التي مرّت منذ رحيل محفوظ شهد العالم العربي ومنه مصر متغيرات عاصفة، تزامن معها وبدراماتيكية رحيل مثقفين، منهم روائيون وشعراء وفنانون ممن ولدوا في ثلاثينيات القرن الماضي وعبدوا لمن بعدهم طرقا بالغة الوعورة. وقد يكون ما كتب عن نجيب محفوظ من حيث الكم يتجاوز الحصر، لكن أغلبه كان على طريقة وقع الحافر على الحافر، ونادرة هي الحفريات النقدية التي كشفت المسكوت عنه في هذه القارة الروائية، ذات التضاريس الصّعبة، فهو ما قبل نوبل ليس ما بعدها على صعيد التعامل النقدي، رغم أن الجوائز مهما بلغت لا تضيف إلى منجز الكاتب لأنها تأتي تتويجا له وفي أعقابه، وربما لهذا السبب اعتذر عن قبولها برناردشو في شيخوخته.

ما يهمنا في هذا السياق هو ما تعرض له محفوظ من اختزال نقدي عندما صنّف في خانة الواقعية، فهو في معظم رواياته يقبل قراءات متعددة على المستويين الواقعي الفائق حسب تعبير الناقد البيريس، والتأويلي الذي يتعامل مع ممكنات النص. ولو اخذنا من أعماله «اللص والكلاب» و«السمان والخريف» و«ميرامار» و«الشحاذ» و»ثرثرة فوق النيل»، لوجدنا أنها واقعية جدا بمقياس ما، ورمزية جدا بمقياس آخر، ففي «اللص والكلاب» لا يتجسد اللصوص في النموذج الذي قدمه لسعيد مهران الذي شغل الناس في القاهرة لبعض الوقت واقترنت باسمه عدة جرائم، وكذلك الكلاب، فهم الذين يرتدون أقنعة القضاة، ويتذرعون بالفضائل الملفقة لممارسة جناياتهم.

إن إدانة محفوظ لسعيد مهران ليست مطلقة، لأنه ضحية أيضا، وهذا الموقف الإشكالي بحد ذاته يجعل من قراءة محفوظ مهمة قد تكون أشد عُسرا مما يتصور المدرسيون وهو في حشده لنماذج بشرية في «ميرامار» و«ثرثرة فوق النيل»، يقدم أهم المهن كما تتجسد لدى أشخاص غالبا ما لا يؤتمنون على ما عهد به إليهم، فالممثل والصحافي والكاتب والمحامي وطالبة الجامعة والزوجة في «ثرثرة فوق النيل» تحركهم بوصلات معطوبة أخلاقيا وسياسيا، وحاصل جمعهم في النهاية هو النسيج الاجتماعي الذي أصابه التهرؤ، أما في «ميرامار» رغم التشابه المكاني بين عوامة على النيل وبانسيون إلا أن النماذج تبدو أقل تجانسا مما أتاح للصراع أن يتصاعد، فثمة الصحافي الوفدي المتقاعد والشاب الشيوعي الذي لم يتخل عن رومانسيته، والسياسي الانتهازي والإقطاعي العجوز والعدمي والسيدة الأوروبية التي تدير المكان، وبين هؤلاء جميعا تقف زهرة الشابة الريفية وكأنها قطعة حلوى مغمورة بالذباب ولعاب الذئاب.

إن هذه الفتاة في «ميرامار» قد ترمز إلى مصر، كما هو حال ريري في «السمان والخريف» وأذكر أن الراحل محمود مرسي الذي لعب دور بطل «السمان والخريف» عيسى الدباغ قد قال لي ذلك ذات يوم. وثمة قرائن تجزم بأن انتصار زهرة في «ميرامار» وإصرارها على النجاة من الصيادين وكذلك ريري في «السمان والخريف» هو انتصار مصر ذاتها على كل من حاولوا اقتسام لحمها سواء بالعض أو بالسكين، وحين كتب محفوظ رواية «الشحاذ» كانت الرياح المقبلة من الغرب وبالتحديد من فرنسا مُثقلة بروائح الوجودية وسؤال العدم، لكن شحاذ محفوظ بقي يراوح عند تخوم أبطال الروايات الوجودية من طراز روكنتان في رواية «الغثيان» لسارتر، وما أصاب الشحاذ في رواية محفوظ هو غثيان أيضا، لكن من طراز آخر، فالرجل فاقد للأحساس بجدوى الحياة ويطرق كالمتسول كل الأبواب لعله يجد إجابة عن سؤال الوجود لكن بلا جدوى، ورغم أن بطل «السمان والخريف» وفدي سحب البساط من تحت قدميه بعد ثورة يوليو/تموز إلا أنه كان مشوبا حتى في عمله السياسي بقلق ساهم في دفعه إلى المغامرة بلا أي ضمانات حين لاذ بالإسكندرية.

وهذا ما لاحظه ناقد حصيف هو محمود أمين العالم حين كتب عن رؤية محفوظ للإسكندرية، وهي رؤية علقت بها أصداء استشراقية بحيث بدت كما لو أنها مخلوعة من سياقها كما جسّدها لورنس داريل في الرباعية، ولعل ما دفع أمين العالم إلى هذه الملاحظة هو تكرار هروب شخوص روايات من القاهرة إلى الإسكندرية بحثا عن ولادة أخرى. وإذا كان محفوظ تميّز بالانضباط في حياته وعمله الوظيفي فذلك كما اعترف هو نفسه لإخفاء فوضى تعج بها أعماقه، ويحسب له أنه لم يكن في حاجة إلى إثارة أي عواصف سواء في فناجين أو صحف وشاشات كي يلفت الانتباه إليه، فهو أدرك منذ البداية أن معادلة الإبداع وكما وصفها الشاعر الروسي يفتشنكو تتلخص في أن المبدع هو حاصل جمع منجزاته ولا شيء آخر، وهذا ما يفسر تواضعه غير المفتعل، وأذكر للمثال فقط أنه سئل عن علاقته بتوفيق الحكيم فأجاب أنها علاقة التلميذ بالأستاذ. وفي الحوار الشهير الذي أجرته الإعلامية ليلى رستم مع طه حسين بحضور نخبة من الروائيين والنقاد منهم عبد الرحمن بدوي ويوسف أدريس وأنيس منصور وعبد الرحمن الشرقاوي ونجيب محفوظ، كان محفوظ هو الأكثر تواضعا في أسئلته وكيفية تلقيه للإجابات، فهل تكفي عشر عجاف كالتي عشناها منذ رحيله لآن نكتشف مساحات أخرى من قارته الروائية؟
______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *