نعم، الكلب قدّمته لي بريجيت باردو، هدية أثناء رحلتي الثالثة إلى باريس. اختارته لي من بين مجموعة كلابها الظريفة، وأوصتني به خيراً. قلت لها: لأنه منك أنت بالذات يا ست بريجيت، فلن يرى مني إلا كل اهتمام.
غير أن عبد الغفار شعر بالمهانة ما إن وطئت قدماه أرض مطار اللد عائداً إلى البلاد، شعر بالمهانة لأن تلك هي المرة الأولى التي يصطحب فيها كلباً، ولأن الكلب لا يبدو على قدر من المهابة مثلما هو الحال مع كلاب أخرى. نعم، كلب صغير مثل أرنب خانع، وله أذنان طويلتان متهدّلتان نحو الأسفل، ولولا أنني خفت من زعل الست بريجيت لطلبت منها أن تهديني بدلاً منه كلبًا آخر له هيبة الكلاب.
ضمّته إلى صدرها، قبَّلته على أنفه الدقيق عدة مرات، ثم سلّمته لي، فقبلته احتراماً لها، ومضيت خارجاً بعد أن وعدتني بإرسال دفعة من المال، للعناية بالكلب الصغير وبالكلاب الثلاثمائة التي ساقتها إلينا مدافع قوات الاحتلال.
في المطار، داهمتني رغبة ملحّة في ترك الكلب، وفي التنصّل من المسؤولية عنه كأنه لا يخصني، وبذلك أنجو من سخرية ابن عمتي عبد الستار، وابن أختي نعمان. لكنني خفت، فقد يقتادني الإسرائيليون إلى السجن بتهمة التسبّب في زعزعة أمن المطار. اقتدت الكلب وأنا أتمنى في قرارة نفسي لو أن رجل الأمن يشقّ بطنه بحثاً عن متفجرات، فأخلص بذلك من عبء تحمّلته بسبب الست بريجيت. قبض رجل الأمن على الكلب وقال: أيش هذا؟ كلب؟ مرّر جهازاً إليكترونياً على جسده، ولم يُظهر الفحص أيّ شيء غير اعتيادي، فلم يفارق الكلب صاحبه عبد الغفار الذي لم يكن يألف الكلاب أصلاً، ولم يكن يتوقذع أن تتعرّف إليه بريجيت باردو التي قرأت باهتمام مذكّرته التي وجهها إلى الأمين العام للأمم المتحدة، بعد أن نشرتها كبريات الصحف في العالم، وتداولتها محطات التلفزة في أقطار عديدة، مطالباً بوضع حدّ للكلاب الضالة التي أقضّت مضجعه وحرمته من النوم لأشهر طوال، فقرّرت الكتابة إلى عبد الغفار ودعته إلى زيارتها في باريس. أرسلت له تذكرة السفر وغطّت تكاليف الرحلة، وأنـزلته ضيفاً عليها في بيتها، وذلك من أجل هدف واحد هو: إقناع عبد الغفار بأنّ قتل الكلاب حرام.
فاقتنعتُ في الحال، وعدتُ من رحلتي الأولى إلى باريس وأنا متحمّس للمحافظة على الكلاب. كنت أعرف أنني سأتعرّض لانتقادات لاذعة من عبد الستار، سيقول: ماذا جرى؟ قلبتْ مخك بريجيت باردو؟ وقعتَ في غرامها بعد أن شاب شعر الراس؟ لم أقل له ذلك بالضبط، لكنني قلت شيئاً قريباً منه، فأنا أعرف أن بريجيت باردو منصرفة الآن إلى العناية بالكلاب وبالقطط (وما أشبه من هذا الكلام، على رأي أحد مذيعي الفضائيات)، لكنني قلت: يا سبحان الواحد الأحد، كيف تغيرتَ يا عبد الغفار! وكيف أصبحتَ متحمساً للكلاب الضالة، لا تجد أي أذى من نباحها المتكرر القبيح! ليس قبيحاً كما تدّعي يا عبد الستار، كلّ ما يتطلبه الأمر هو التعوُّد على سماع النباح.
بعدين، أنا الصحيح، لما شفت كلاب الست بريجيت، قلت والله إن المحافظة على الكلاب أمر واجب. تقولون لي كيف؟ أقول لكم: صدقوا وآمنوا أنني حينما كنت أناقش أمور كلابنا الثلاثمائة مع الست بريجيت، فإن كلابها كانت تصغي لنا بكل احترام، وبعضها كان يضع يده على صُدغه، يفركه كما لو أنه يفكّر في أمر ما، وأنه على وشك أن ينطق يا سبحان الخالق الجبار! عبد الستار لم يصدّق هذا الكلام.
لم أصدّقه طبعاً، هذا خرط حكي. قلت له: خبّرنا يا عبد الغفار، كيف وجدت ملكة الإغراء؟ هل ما زال فيها شيء يستهوي القلب؟ وإلا يا الله حُسْن الختام! نطَّ نعمان المجنون وقال: أنا متأكّد أن الست بريجيت ترتدي ملابس شرعية الآن.
ثم قلتُ ما هو أكثر من هذا، قلت: أكيد الست بريجيت ما سمحت لخالي عبد الغفار بأن يلمس يدها حينما طرح عليها السلام. خالي فقد عقله وقال: أين سرحت عقولكم يا عباد الله؟ وقلت: كل الحق عليك يا عبد الستار، لأنك أخذتنا إلى البعيد. عبد الستار قال: لا بعيد ولا قريب.
وقال متباهياً إنه لم يترك فيلماً من أفلام بريجيت باردو إلا شاهده. ثار فضول نعمان وسأل: كيف كانت يا عبد الستار؟ خبّرنا. عبد الستار صمت لحظة لكي يشدّ إليه الأذهان، وقال: كيف كانت؟ يا عيني! يا عيني، أي والله كان عندها جسد يلوّع قلوب ملايين الشباب. ذات مرّة، ظهرت في فيلم وهي نائمة بالزَّلْط فوق رمل الشاطئ، والله بالزَّلْط، يا ربي كما خلقتني، ويا سبحانَ خالق الحُسْن والجمال! تمادى عبد الستار في الكلام، همستُ وأنا أشير نحو باب المطبخ: اخفضْ صوتك، النسوان يسمعنك. ثم قلت وأنا مستاء: من يذكر الست بريجيت بسوء أمامي فسوف أخاصمه إلى يوم القيامة. قال عبد الستار محتجاً: أنا لا أذكرها بسوء، أنا أتحدّث عن جمال جسدها الذي شاهدته بعيني هاتين. الصحيح، أن عبد الستار كثير غلبة وثرثار، لذلك قرّر عبد الغفار أن يختصر الكلام كلما ورد ذكر بريجيت باردو في ليالي السهر.
وبناء عليه، فهو لن يذكر لأحد من أهل الحي، أن الست بريجيت كانت تجلس أمامه أثناء زيارته الثانية لباريس، وهي في بنطال قصير يكشف عن فخذيها، تعرضهما أمام عبد الغفار بكل أريحية ودون حرج. كان عبد الغفار يغضّ الطرف عن فخذيها اللذين ما زالا يحتفظان بألقٍٍ ما، ويتشاغل بالنظر إما إلى سقف الصالة، وإما إلى الكلاب الجالسة في صمت، تصغي إلى عبد الغفار، وهو يشرح تفاصيل البروبوزال الذي قدّمه إلى الست، متضمّناً حاجته إلى مئة ألف دولار، لترويض كلاب الحي (حيّنا) وتعليمها، وفقَ أحدث الأساليب، كيف تخفّف من نباحها، وكيف تضع أيديها على أصداغها، كما لو أنها تفكّر في كلام ستقوله بعد لحظات. آنذاك، لم يكن هذا الكلب الصغير قد لفت انتباه عبد الغفار. لكنّه يسير إلى جواره الآن، وحينما يصل البيت ومعه هذا الكلب الأرنب، فقد يسلقه عبد الستار بسخريات لها أوّل وليس لها آخر.
استهجنتُ بالفعل أن أرى عبد الغفار داخلاً الحي ومعه كلب صغير. لم تكن تلك عادته، وكنتُ سمعته غير مرّة، وهو يسخر من الخواجات الذين يصطحبون معهم الكلاب أثناء تجوالهم المسائي في الشوارع. لكن، سبحان مغيّر الأحوال! ولم أقل سوى شيء واحد: هذا الكلب يشبه الكلبين اللذين يملكهما الرئيس بوش.
حينما سمعتُ هذا التعليق الذي أطلقه عبد الستار، تغيّرت نظرتي للكلب على طول الخط. حدّقت فيه بتأمل وانتباه، فوجدت أنه شبيه بكلبَي الرئيس بالفعل، فكأنه رضع معهما من ثدي واحد، مع فارق وحيد: كلبي ليست له شهرة كلبَي الرئيس. فقد كان العالم كله يحبس أنفاسه، منتظراً قرار الرئيس بغزو العراق، فيما هو يلعب مع كلبيه في حديقة البيت الأبيض أمام كاميرات التلفزة، التي بثت صوراً له ولكلبيه، لن ينساها ملايين النساء والرجال، ومن بينهم عبد الغفار بطبيعة الحال.
عبد الغفار اكتشف في كلبه مزايا كثيرة: فهو لا ينبح إلا نادراً، وإن نبح فإنه يفعل ذلك باعتدال، وبصوت خافت لا يخدش الأذن. وهو محبٌّ لسيده مُتفانٍ في خدمته، يُحضر لعبد الغفار الشبشب كل صباح لكي ينتعله ويذهب إلى الحمام، يتقافز من حول عبد الغفار محاولاً الوصول إلى المنشفة المعلّقة على الحائط، لكي يناولها لسيده. وما هو أهم من ذلك، أنه يصغي بانتباه حينما يشرع عبد الغفار في الكلام، ثم يضع يده على صدغه، كأنه يفكر بكلام سيقوله بعد لحظات.
عبد الغفار اعتاد في بعض الأمسيات، اصطحاب كلبه متجهاً معه نحو حديقة بيته الخلفية. هناك، يلعب بالكرة مع الكلب، تماماً مثلما يفعل الرئيس بوش مع كلبيه. كان عبد الغفار يشعر بالنشوة وهو يتماهى مع الرئيس في أمر واحد على الأقل: اللعب مع الكلاب. لكن عبد الغفار كان يعترف في قرارة نفسه، بأن الرئيس أقوى منه، لسبب بسيط، وهو أن لدى الرئيس كلبين، وليس لدى عبد الغفار سوى كلب واحد.
عبد الغفار افتقد كلبه الوحيد ذات صباح ولم يجده. راجت شائعات كثيرة محيّرة حول الكلب: قيل إن نعمان سرقه، ذبحه، سلخ جلده وباع لحمه لسكان المستوطنة المجاورة. وقيل إنه سرقه، ثم صعد إلى شباك حبيبته نهلة، رمى الكلب نحوها، معتبراً أنه يقدّم لها هدية معتبرة، صرخت نهلة من شدّة الخوف، دخل عليها الغرفة والدُها تاجر الأعلاف، وجد عندها كلباً يحاول الاقتراب من سريرها، تفحّصه بعينين خبيرتين فأيقن أنه كلب عريق النسب، استبقاه في البيت عدة أيام، ثم قدّمه هدية لأحد أصدقائه من علية القوم. وقيل إن الكلب ملّ اللعب بالكرة مع عبد الغفار، فمضى يضرب في الأرض عائداً إلى باريس، إلى حضن بريجيت باردو بالذات. وقيل إن الرئيس بوش شوهد ذات مساء يتمشى في حديقة البيت الأبيض، وخلفه ثلاثة كلاب صغيرة، تتبعه بتؤدة ووقار.
______
*روائي وقاص فلسطيني
من مجموعته القصصية “صورة شاكيرا”/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ 2003