في اللحظة التي كان يرن فيها جرس الباب في الرابعة مساء من يوم 6 شباط (فبراير) 1938 كان بول فاليري في موعد خاص مع الحياة. الرجل الهش الذي ترك وراءه أيام الشباب ولم تكن قد أدركته الشيخوخة بعد… استقبلته صاحبة البيت، سيدة سمراء في الرابعة والثلاثين بوجه طفولي دائري وشعر متهدل قصير تتلاعب خصلاته يميناً و شمالاً، و على شفتيها ابتسامة عريضة واسعة، شابة مطلقة ومستقلة بنفسها.
طافت به أركان بيتها وغرفتها وحمامها الخاص. لم يكن هو من بادر الى دعوتها أولاً، كان قد قابلها سريعاً في أكثر من مناسبة، لكنها في هذا المساء هي من استضافه الى جلسة شاي بعد أن حضرت درسه الافتتاحي بالكوليج دو فرانس. لكنه ما إن انصرف وأغلق عليه الباب الحديدي حتى لاحت له أعذار الحب الأربعة: «الطبيعة – رجل آخر – امرأة أخرى – السلم». كان بول فاليري في الثالثة والستين يومها حين دخل في حال أطلق عليها صديقه الشاعر الآخر ريلكه «إقليم عدم الشعور بالذنب»… إقليم جين فوالييه العاطفي الذي لم يخرج منه حتى وفاته عام 1945 بعد أن ترك لها وراءه ما يقرب من 1000 رسالة و150 قصيدة شعرية. قبل ذلك بأكثر من مئة عام وبعد لقائهما في جوان 1833، كتب ألفريد دو موسيه هو أيضاً إلى جورج صاند التي كانت تكبره بستة أعوام: «عزيزتي جورج. لدي شيء أحمق وسخيف أودُّ أن أبوح لك به، … أنا أحبك». ومثلما عرفت صاند رجالاً آخرين بمن فيهم شوبان، عرفت جين فوالييه علاقات مع جون جيرودو وسان جون بيرس وآخرين. كذلك الشاعرة الروسية مارينا زفيتايفا (1892 – 1941) التي أحبت أكثر من رجل ابتداء من باسترناك الى إيليا اهرنبورغ، إلى ريلكه في عامه الأخير قبل وفاته عام 1926. في هذا السياق تأتي رسائل باخمان وسيلان التي بدأت في أيار 1948 في فيينا حتى خريف عام 1967. كانت البدايات حالات من التأمل في الوصول الى طريقة تمكنهما من تنفّس وفهم العلاقة. لم تتكرر لقاءاتهما كتلك التي كانت في فيينا والتي تركت لهما فرصة الصداقة وحسب. ستظل محاولات متعثرة ومؤلمة من جهة باخمان بخاصة: «إنني أضع كل بيضي في سلة واحدة وأخسر».
فيما يلي، رسائل تكشف الجوانب المواربة وغير المرئية لبعض الكتاب في حالات الحب التي تسمح بتلمس مزاج الكاتب وتأثيرات العاطفة والشغف بالآخر على سياقات الكتابة والحياة… رسائل تسمح للقارئ بالتجوال في الفناء الخلفي لعوالم الكتابة:
قل لي ولو كلمة (رسالة إنغبورغ باخمان إلى بول سيلان)
ميونخ، 5 أكتوبر1958
بول، عزيزي بول
لقد بقيتُ صامتة لفترة طويلة ليس لأني كنتُ أفكّر فيك كثيراً. لعله من الصدق، أن أظل صامتة لفترة من الوقت من أن أكتب سوى رسالة واحدة لا تقول شيئاً في الحقيقة. ومع ذلك فقد أربكني ذلك كثيراً، لأنني كنت خائفة بشدة لأجلك طوال أيام الاضطراب في باريس.
هذان الشهران أغسطس وسبتمبر: كانا مليئين بالريبة، ثم جاء هذا الأمر الجديد. هل تذكر، مساء تلك الظهيرة، حين تركنا شارع لونشان، وذهبنا لنحتسي شيئا من بيرنو، وسألتني مازحاً إن كنت عاشقة؟ لم يكن ذلك حينها تماماً، ثم حدث في ما بعد بطريقة غريبة جداً، غير أني لا أجد العبارات نفسها المواتية لذلك. عدت قبل أيام إلى كيرنتن، حيث كنت منذ فترة قليلة… لكن لا، إذ عليّ أن أبدأ من جديد وبطريقة مغايرة، وأن أفصح عنه دون تأجيل. في هذه الأيام الأخيرة، الأولى بميونخ، جاءني ماكس فريش ليطلب مني ما إذا كان ممكنا أن أعيش معه، وقد اتخذت قراري. سأظل ثلاثة أشهر بميونخ ثم سأرحل إلى زيورخ. بول، ليتك كنت هنا، ليتني كنت أستطيع أن أتكلم معك، أنا سعيدة، وراضية عن ما حولي من الطيبة والحب والتفهم، لولا أني أحيانا أحزن حين أفكر في نفسي، لأن الخوف والشك اللذين لا يعنيان سواي ولا يعنيانه هو، لم يبرحاني بعد. أعتقد – وأستطيع أن أبوح لك بذلك، كلانا يعرف جيداً– بأنه من المستحيل أن نعيش مع أحد. ولأننا نعرف، ولأننا لا نخادع أنفسنا، ولا نخادع أي أحد آخر، فإنه قد ينتج شيء جميل من الجهد المبذول يوميا، والآن أنا أؤمن بذلك على أية حال. أريد أن أعرف في ماذا أنت تفكّر حين تطرح هذه الرسالة من بين يديك. فكّر في شيء ما طيّب لأجلي! متى ستأتي؟ هل تريدني أن ألقاك بمكان ما؟ هل ستأتي لرؤيتي؟ تكلّم! أريد أن أراك أمام الملأ وفي مستطاعي دائما ان أراك وهو ما يفرحني.
أرسل إلي الآن أشعارك، كل ما هو جديد! قل لي ولو كلمة!
ستغمضين عينيك أم لا حين أقبّلك (رسالة بول سيلان إلى إنغبورغ باخمان)
عزيزتي إنغبورغ
وإذن ستأتين بعد شهرين فقط – لماذا؟ لم تخبريني بذلك، ولا كم من الوقت ستظلين، ولا ما إذا كنت ستحصلين على منحتك. سيمكننا في الوقت نفسه أن «نتبادل الرسائل»، التي تقترحين. أتدرين، إنغربورغ، لماذا لم أكتب إليك إلا نادراً هذا العام؟ ليس لأن باريس فرضت علي صمتاً قاسياً لم أستطع الإفلات منه وحسب، بل أيضاً لأنني لم أكن أعرف رأيك في تلك الأسابيع القصار بفيينا؟ فماذا كان بإمكاني أن أستنتج من سطورك تلك، الشحيحة الأولى، إنغربورغ؟
ربما أكون على خطأ، ربما كلانا يتحاشىى الآخر في المكان اللائق حيث نتوق إلى اللقاء، ربما كلانا يستحق اللوم. باستثناء أنني أقول أحياناً لنفسي أن صمتي قد يكون مفهوماً أكثر من صمتك. بسبب أن الغموض الذي يفرضه علي قديم.
أنت تعرفين: أن على الإنسان دائماً أن يتخذ القرارات العظيمة بنفسه. فحين تلقيتُ تلك الرسالة منك والتي كنت تسألينني فيها عما إذا كان عليك أن تختاري باريس أم الولايات المتحدة الأميركية، كنت أفضّل أن أقول لك كم سأكون سعيداً لأجلك لو أنك تأتي. هل تدركين، إنغبورغ، لماذا لم أفعل؟ قلت في نفسي إذا كنت حقاً أعني لك شيئاً (كي أقول أكثر من مجرد شيء) في أن تعيشي في المدينة ذاتها حيث أعيش، ما كان لك أن تسأليني عن نصيحتي ابتداء – بل على العكس من ذلك.
لقد مضى عام كامل الآن، عام، أنا متأكد، من أنك قد اختبرت فيه الكثير. لكنك لم تخبريني كيف كان، منذ وقت بعيد، شهرا ماي و جوان قبل هذا العام…
كم أنتِ بعيدة أو قريبة مني، إنغبورغ؟ أخبريني حتى أعرف ما إذا كنت ستغمضين عينيك أم لا حين أقبلك الآن.
بول
قلبي أملى علي ذلك (رسالة جورج صاند إلى ألفريد دو موسيه)
صغيري العزيز، لنا مع الأشخاص الذين لا نحبهم ولا نحترمهم مقتضيات خاصة من دون أن نكلف أنفسنا عبء تحفيزهم على شيء. أما في ما بيني وبينك فلن يكون هذا وارداً أبداً، ولن أطالبك بشيء، حتى من دون أن أعرف إلى أي حد ستستجيب إليّ. على الرغم من عتابك لي، فإني مصرة على فكرة أن أخبرك بسبب قلقي الذي ما كان له أن يحدث لولا تدخل الشخص الذي حدثتك عنه. هل لي أن أفتعل سبباً؟ لا أظنك كنت ستجد طلباً ملحاً بقوة وجافاً أمراً رائقاً وحسّاساً بالنسبة إليك. كان علي أن أخبرك بكل شيء. قلبي هو ما أملى علي ذلك، وأعتقد بأن إساءة حصلت في صمت، كنا قد تطهّرنا منها أنا وأنت ضمنياً في رسالة، لم نتجاوزها بتواضع و كرامة.
وحتى أنتهي سريعاً من فصل الشروح، فإني أعتقد جازمة بأننا أخطأنا، بسبب مزاجي المجاني المفترض، بشأن رسالة لم يكن لك أن تكتبها إلي. لا أدري ماذا يعنيه هذا كله. أذكر بأنني كنت محطمة، ولا أذكر بأنني كنت حزينة أو غير راضية بخصوص أي شيء. أذكر بأنني استيقظت بنوهان وعلى جسمي بقع كبدية من أعلى رأسي حتى قدميّ، وبأنني منذ ذلك اليوم لم تفارقني آلام الكبد. كانت آلاما حقيقية دون ذكر وخزات حبي لنفسي. أعترف لك بأنه لا مكان للأشياء الصغيرة بداخلي في هذه الأوقات الصارمة والحاسمة من حياتي.
أوافق تماما على فكرتك في ما يتعلق برسائلنا. من الصعب علي جدا أن أعيد إليك رسائلك، ولو عرفتُ بأن رسائلي لها الأثر ذاته في نفسك، فلن أطالبك بها. لكن هذا كله شأن آخر. لا يهم – رسائلك هي بشاتر في حوزة سيدة مخلصة لي وهي تظن بأنها تحتفظ بجواهر في علبة. هذه الرسائل مختومة وعليها توقيعك. لم أعِد قراءتها من دون أن أختمها من جديد وأعيدها إلى هذا الملجأ الآمن المنيع. لم أفكر بأنه كان من الأفضل الاحتفاظ بها عندي. فقد يفاجئك الموت في أي لحظة ولا تدري أي يد ستمتد إلى أدراجك ما إن تغمض عينيك. قد أكون أفضل منك كحارس لهذه الودائع. ما إن أجمعها سأعطيك عنوان واسم المرأة التي ستطلبها منها، فمن المحتمل أن أسافر أنا أولا في رحلة طويلة.
فقبل كل شيء، سأرسل إليك رسائلك عند عودتي، حتى تستعيد ما تريد. وإذا أردت أن ترسل إلي رسائلي، ما دمت موجودة هنا، فإنك ستوفّر عليّ حمل ثقلٍ كبيرٍ إلى بريد شاتر. أما إذا أردت أن تنتظر رسائلك، فافعل ما تراه مناسبا لك.
وداعا، يا صغيري، وكان الله معك.
كنا جروين… معاً (رسالة ناديا ماندلشتام إلى زوجها الشاعر أوسيب ماندلشتام).
أوسيا، حبيبي البعيد
لا كلمات لي، حبيبي، لأكتب هذه الرسالة التي قد لا تقرأها أبداً. أكتب إليك من مكان خال. ربما قد تعود ولن تجدني هنا. وسيكون هذا كل ما سيذكّرك بي.
أوسيا، كم كانت مفرحة حياتنا معا كالأطفال – كل شجاراتنا ونقاشاتنا، الألعاب التي لعبنا، حبنا. الآن لا أستطيع حتى أن أنظر إلى السماء. لو رأيت غيمة عابرة، فمن سأخبره عنها؟
هل تذكر كيف كنا نعود بالمؤونة لنقيم وليمتنا البسيطة بكل الأمكنة حيث كنا ننصب خيمتنا كبدو رحل؟ هل تذكر طعم الخبز اللذيذ حين حصلنا عليه بأعجوبة وأكلناه سويا؟ ثم شتاؤنا الأخير بفورونيج، فقرنا السعيد، والشعر الذي كنتَ تكتب. أذكرُ اللحظة التي كنا عائدين مرة من الحمّامات، حين جئنا ببعض البيض والنقانق، وكيف امتلأت العربة بالتبن. كان الطقس لا يزال باردا وكنت متجمدة في الجاكيت القصيرة (لكن لا شي من ذلك يشبه ما نعانيه الآن: أعرف كم أنت تعاني من البرد). تذكرت ذلك اليوم الآن. أراه بوضوح، وأعاني من آلامه، أيام الشتاء تلك، رغم قساوتها، كانت أعظم وآخر أوقات سعادتنا التي منحتنا إياها الحياة.
كل ما أفكر فيه هو أنت. كل دمعة أو ابتسامة مني هي لك. أنعمُ بكل يوم أو ساعة في حياتنا الصعبة معا، يا حبيبي، ورفيقي ودليلي الأعمى في الحياة. كنا كجروين يشم أحدنا الآخر، شاعرين بالرضا معا. كم كان رأسك المريض محموما، وكيف بددنا أيام حياتنا بجنون. كم كان ذلك مبهجا، وكم كنا دائما نعرف كيف كان مبهجا. قد تطول الحياة كثيرا. وكم سيكون صعبا وطويلا على كل منا أن يموت وحيدا. هل سيكون هذا مصيرنا نحن اللذين لا نفترق أبدا؟ نحن الجروين الطفلين، هل نستحق هذا؟ هل تستحق هذا، يا ملاكي؟ كل شيء يمضي على حاله كما من قبل. لا أعرف شيئا. ومع ذلك أعرف كل شيء – كل يوم أو ساعة من حياتك تبدو لي بوضوح كما في حالات الهذيان. تأتيني في حلمي كل ليلة، وأظل أتساءل عما حدث لك، لكنك لا تجيب.
في حلمي الأخير رأيتني أشتري لك طعاما من مطعم بفندق حقير. والناس من حولي كانوا غرباء. وحين اشتريته، لم أعرف إلى أين آخذه، لأني لا أعرف أين أنت. ثم حين أفقت من نومي قلت لشورا: «لقد مات أوسيا». لا أدري ما إذا كنت لا زلت حيا أم لا، لكني منذ ذلك الحلم أضعت أثرك. لا أعرف أين أنت. هل ستسمعني؟ هل تعرف كم أحبك؟ لن أستطيع أبداً أن أقول لك كم أحبك. أعجز عن أن اقوله لك الآن. لا أتحدث سوى إليك، إليك أنت وحدك. ترافقني دائما، أنا المتوحشة الغاضبة التي لم تتعلم كيف تبكي ببساطة – أبكي الآن ثم أبكي و أبكي.
هذه أنا ناديا، فأين أنت؟
وداعا
ناديا
ها أنا ذا أتألم من جديد (رسالة بول فاليري الأخيرة إلى جين فوالييه)
قضيتُ ثلاثة أرباع الساعة في العذاب، والباقي مع تلك التي…
كنت قد غفلت عن ساعة ونصف، مع الكاهنين، اللذين لا يسكتان أبدا. هؤلاء الناس فنانون بشكل فظيع. أراد أحدهم، بعد تحسس ومطارحات عن القرح، أن يتحدث عن الشعر والرسم…
ثم وجبة الغداء مع البطرك… ثم عادت إلي نوبة آلام شديدة. وهو ما انتهى بي إلى أبيات من الشعر… للأسف، من النوع الذي يلهمه الألم. وبين صاحبي العُقَابَين يخامرني ما يخامرني… لن أرسل إليك هذا. إنها أبيات حقا قاسية ومريرة. بواقعية، هي من ناحية ما، لا تحتمل… ما هو أفظع من ذلك، هذا العمق الدافئ اللامتناهي كمصدر لا ينضب للسموم. وهذا ما لاحظته في نفسي أكثر من مرة: شعور شديد الغرابة. لو تخيلت، وحاولت جهدي في أن أتخيل، بأن لا أبالي بك، وبأنك لم تعودي بالنسبة إلي سوى ذكرى بلا تأثير، وأن أسمع من يتحدث عنك دون أن يقشعر بدني، وأن أفكر في أي شيء بهدوء من دون أن يعض خاطرك قلبي، ويجعل حلقي جافا. ومن ثم يتمثل لي و يهتاج ألم عابر. ألا أعاني بسببك. هذا أمر خارق. هل سأنجح في الوصول إلى ذلك بعد أن تندمل جراحي: لقد كان هناك شيء ما، تقول الروح لنفسها.
في وسعك من هذه الناحية أن تقيسي عمق هذا الألم. والتفاعل مع فكرة غيابه…
لا أعرف ما إذا كنت في حاجة إلى معرفة خطورة هذا الجرح، لكنك ترينها الآن، وكم كانت حياتي متواشجة بك. أجل، لقد استسلمت بأن أعطيت إحساسي كله لمعبودتي. وأتساءل ما إذا كنت تتخيلين الى أي حد أنا مثخن. سؤال أوجهه إلى نفسي، سؤال خطير. هل رأيت إلى أي حد هو خطير؟ لأنه يعود إلى هذا السؤال: من أنت في العمق؟ والذي قد يقودنا إلى سؤال آخر: في ماذا تفكر عن نفسك؟
وها أنا ذا أتألم من جديد. لا أدري إن كنت أستطيع الذهاب إلى البريد.
أنا الآن في فوضى قاسية (رسالة ديلان توماس إلى باميلا، ه. جونسون)
السؤال الأول. لا أستطيع أن آتي.
الثاني. لا استطيع النوم
الثالث. لا، لقد ارتكبت كل الأخطاء
الرابع. لا أريد أن أرى الطبيب
الخامس. أجل، أنا أحبك
أنا في فوضى قاسية الآن. بالكاد أستطيع أن أمسك بالقلم أو أرى الورقة. يحدث هذا معي منذ أسابيع. وفي الأيام الأربعة الأخيرة اكتملت هذه الحال تماما. أنا على وشك الانهيار. لعلك تذكرين كيف كنتُ حين ودعتك آخر مرّة. بكاردوما حين كنت أحبك كل ذلك الحب ولم أستطع أن أبوح لك. تخيليني في حال أسوأ مائة مرّة من ذلك بقلقي العصبي الذي هو على وشك أن يحطمني إلى أجزاء. لا أستطيع أن أفكر ولا أن أعي شيئا مما أفعل. وحين أتكلم لا أدري إن كنت أصرخ أو أهمس وهذا من الأعراض الفظيعة. هذا كله قلق عصبي، بل أكثر. لكني لم أتخيل أبداً شيئا سيئا كهذا. ثم هذا خطأي أنا وحدي لا غير. وسأخبرك بقدر ما أستطيع وبكل صدق عن الحقيقة. لم أحب أبدا أن أكذب عليك. ستكونين غاضبة جدا علي، أعرف، وربما لن تكتبي إلي أبدا ثانية، لكن، حبيبتي، أنت تريدين أن أخبرك بالحقيقية، أليس كذلك.
لقد غادرت ُ لوغرن يوم الأربعاء صباحا ونزلتُ في بيت ريفي بغووِر. شربتُ كثيرا بلوغرن وشعرت بأنني سكران لحظتها. ثم بقيت في لوغارن مع كليف، الذي هو صديقي منذ أيام ويستر بمكتب المراسلين. في ليلة الأربعاء جاءت خطيبة بيلي. كانت رفيعة ونحيفة وسمراء بفم قرمزي مرتخ وضحكة جاسية إلى حد. خرجنا في ما بعد وسكرنا. وحاولت هي أن تمارس معي الحب طوال الطريق إلى البيت. طلبت منها أن تخرس لأنها كانت سكرانة. وحين عدنا إلى البيت، حاولتْ أن تمارس معي الحب علنا كحمقاء بحضور كليف. غادرتْ هي إلى سريرها وبقيتُ أنا و كليف نشرب قليلا، ثم قرّر كليف بلهجة عصرية بأن يذهب وينام معها. لكنه ما ان إستوى على سريرها حتى صرخت به وهربت إلى سريري. نمتُ معها تلك الليلة ولثلاث ليال أخر. كنا في حال بائسة من السكر، ليلاً ونهاراً. و الآن أستطيع أن أميز كل شيء بوضوح. أظن بأنني أعي الأشياء.
حبيبتي. يؤلمني أن أخبرك هذا لكن علي أن أخبرك لأنني أحب دائما أن أخبرك من أكون حقا. لم أحبّ أن أمنح نفسي من قبل إلى أحد آخر، فقط أنا وأنتِ، أنا وأنتِ ولا أحد آخر. لكني كنت حقا مجنونا وسأظل أسبوعا طريح فراشي. أنا على شفير الهذيان، حبيبتي. أنفقت كثيرا من حبي لك على الفتاة الهزيلة ذات الفم القرمزي والسمعة الفاضحة. أنا لا أحبها مطلقا، لكني أحبك أنت دائما وأبداً. إنها مثيرة لأعصابي. الله وحده يعلم لماذا تحبني. أمس صباحاً تركت خاتم الخطوبة لكليف. وكان عليّ أن أضع مسافة مائة ميل بيني وبينها. علي أن أغادر ويلز إلى الأبد وألا أراها بعد الآن. دائما، أرى فيها شيئا منك، ما يجعلني أصبو إليها. أن أسكر وأصبو إلى أشيائك فيها.
أحبك، باميلا، وأريدك معي. فما إن ينتهي هذا كله حتى آتي إليك على التو. إذا سمحت لي. لا، مهما يكن الأمر جيدا أو سيّئا، سآتي الأسبوع القادم إذا قبلتِ. لا تكوني عصيّة كثيرا أو غاضبة. ما الذي علي أن أفعله؟ حبيبتي، أنا أحبك وأفكر فيك على الدوام. اكتبي إلي عند العودة ولا تحطمي قلبي بقولك بألا أعود إلى لندن لأجلك لأنني مجنون وأحمق. أحبك حبيبتي.
هناك ما لا ينتهي (رسالة مارينا زفيتايفا إلى صديق)
صديقي العزيز
استجمع شجاعتك بكلتا يديك وأنصت إليَّ: هناك شيء قد انتهى.
والآن بما أن كل شيء قد انتهى. استمع إلى ما يأتي.
إنني أحب شخصا آخر… لا يمكن أن يقال ما هو أبسط وأعنف وأعدل من هذا.
هل لم أعد أحبك؟ لا، أنت لم تتغيّر وأنا بالمثل لم أتغيّر. شيء واحد قد تغيّر: تركيزي العصبي عليك. أنت دائما حاضر بالنسبة إلي. لكني لم أعد موجودة بداخلك. ووقتي معك انقضى، تبقى أبديتي معك. أوه… لتتوقف قليلا هنا. فوراء العذابات، هناك ما لا ينتهي، في هذه الشساعة وقع لقائي بك.
أوه… الدفء لا زال دائما موجوداً. فكونك لم تعد سبباً لتعاستي، لا يعني بأنك لم تعد شاغلي. (لا أريد أن أكتب إليك بنبرة دافئة لم تعد ممكنة اليوم، لا في نظرك ولا في نظري). الحياة أكثر شغفا، من علاقتي بك التي تفور بالحياة: العجلى. حبي لك (و هو لا زال موجوداً وسيظل)، حب متوهج. لكن القلق يأتي منك، من معاناتك، – هذا ليس مهما كثيراً بين أناس صادقين: فمن يتألم إذن! أنت صغيري وألمك هو ألمي، وها أنت تراني لا أكتب إليك ما كنت عازمة على أن أكتبه.