خاص- ثقافات
*أحمد ثامر جهاد
“الإنسان رب حين يحلم، وشحاذ حين يفكر..” هولدرلين
يقول بيكاسو” التقنية هي ما لا يمكن تعلمه في الفن”. لطالما أضاءت هذه العبارة الطريق أمام اؤلئك الذين ينشدون بلوغ الجودة الإبداعية على غير صعيد، وليس من المستبعد أن البعض اعتبرها إشارة متعالية صادرة عن فنان يلهمه الغموض المصاحب لعملية الإبداع أكثر من إفشاء أسرار خلق اللوحة.
في مجال الكتابة ربما يعدنا الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز بأمر مشابه، وهو الذي اشرف على إدارة ورشة كتابة السيناريو بين مكسيكو وهافانا، حين يعتبر أن عملية تركيب القصص وروايتها والتي أثير حولها الكثير من الجدل هي فقط ما يمكن تعلمه في ورش الكتابة، لكن كتابة قصة جيدة يبقى سرا من أسرار الكاتب، يختلف من مؤلف إلى آخر، لذا فإن إرشادات الكتاب المحترفين ونقل خبراتهم يمكن أن تسهل مهمة الكتابة أمام الكتاب المبتدئين وتقودهم إلى جادة الصواب، إلا أن المسار الوحيد والممكن لكتابة قصة أو رواية جيدة هو ما تخلقه القصة أو الرواية ذاتها، ولا يمكن بحال من الأحوال اتباع وصفة جاهزة يقدمها أحد خبراء الكتابة. ربما يدفعنا ذلك إلى القول إن الكتابة مثلها مثل حزمة الضوء، يستحيل علينا منحها لأحد، إنما يمكن فقط الإشارة إليها.
ومع أهمية اكتساب المعرفة وصقل الخبرات في ميدان الكتابة بشكل عام، إلا أن الموهبة ما زالت تشغل حيزا أساسيا في تفوق كاتب ما على سواه، حتى لو استبدل مفهوم الموهبة اليوم بتعبيرات أخرى تخفف غموضه المتعالي من قبيل حبّ الكتابة والإخلاص لها وممارستها بصبر وولع وأناة. ومع ذلك فإن شهادات المؤلفين وخبراء الكتابة، فضلا عن تضمنها قدرا كبيرا من الإمتاع والفائدة، فإنها تمنح الكاتب المبتدئ العدة الضرورية التي يتطلبها مشروع الكتابة، والذي يلزمنا الاعتراف أنه مشروع ذاتي في نهاية الأمر.
إن المهارة التي تجعل من الكاتب حاذقا في التقاط ما هو جوهري وهو يعيد كتابة نصه على نحو أصيل ومؤثر هي ذاتها الشحنة غير المرئية التي تنتقل إلينا وتجعلنا نهيم بنص ما فيما ننفر من آخر. ألم يقل ماركيز :” إن العالم ينقسم بين من يعرفون رواية القصص واؤلئك الذين لا يعرفون ذلك، مثلما هو منقسم بشكل أوسع بين من يتغوطون جيدا ومن يتغوطون بصورة سيئة..”
كان غابو ينصح المشاركين في ورشة كتابة السيناريو قائلا:” على أحدنا حين يكتب أن يكون مقتنعا بأنه أفضل من سرفانتس، أما عكس ذلك فان المرء سينتهي إلى أن يكون أسوأ مما هو في الواقع”.
ربما كان ماركيز يهدف إلى رفع الروح المعنوية لأعضاء الورشة لتقليل خسائرهم حينما يواجهون اللحظات العصيبة والشاقة عند الشروع بتأليف الكتب. ففي حقل الكتابة الأدبية عامة والقصصية على نحو خاص سيكون من المفيد الاطلاع على تجارب الكتاب العالميين والاقتراب من فهم عوالمهم، وكذا الطرق التي يعبرون فيها عن أفكارهم، مع الانتباه إلى خصوصيّة كل كاتب.
ولنا أن نستعيد خلاصات غارسيا ماركيز الذي تهمه عملية الإبداع أكثر من أي شيء آخر في هذا العالم، وهو يقول:”إن كل قصة تحمل معها تقنيتها الخاصة، والمهم بالنسبة للكاتب اكتشاف تلك التقنية. فعلى الدوام القصة موجودة،لكنها غير متاحة لشحيحي الخيال،إنها هناك تحت القشور والمظاهر الخادعة للواقع. لكن عثورك على خيط قصتك لا يعني أنك فزت بكل شيء،لأن صياغتها كحكاية جيدة هو التحدي الأشد صعوبة في الأدب عامة، مما يعني أنك بمواجهة ما هو جوهري في فن الإبداع القصصي أو السينمائي، إنها التقنية التي تجعل من القصة قصة وليست أي شيء آخر..”
سيعتبر البعض أن تلك كلمات ساحرة، هادية، لا سيما أنها لكاتب قد أذهل العالم بحكاياته، وربما يراها البعض الآخر غامضة ومراوغة، لكنها بالنسبة لمن جرب فعليا الاشتباك مع شيطان الكتابة ستبدو أقرب إلى الحقيقة الماثلة التي تعيد تعريف الكتابة بوصفها فن تخليق الكلمات الدالة. إنها بالنسبة لآخرين أقل تفاؤلا ما زالت حيلة ذاتية جميلة لتسويغ الوجود الإنساني وتجرّع عبثيته،عرفتها البشرية منذ فجر التاريخ، فيما ورث عالمنا عن أسلافه نصا أسطوريا بني على رصف الكلمات بذكاء ورشاقة وحكمة.
أي شيء آخر يمكن له ان يجلي أسرار الكتابة ويوثق عظمتها أكثر من كتب الأولين؟
***
ما ينبغي الانتباه إليه في حقل الكتابة الإبداعية هو أن إتباع أية إرشادات مهما كانت قيمتها لن يخلق بالضرورة كاتبا جيدا. ذلك أن الجزء الذي يصعب الحديث عنه هو ما يمكن استدعاء جملة بيكاسو ثانية لوصفه. عليك دائما أن تكون ذاتك ولا شيء آخر. فأنت لست سوى كتابك.
ربما من المفيد الإشارة هنا إلى أنه حتى في ورش الكتابة التي تقام في غير مكان، فإن الكثير من الإرشاد الاحترافي للكتاب المشاركين لا يثمر إلا عن ولادة كاتب أو اثنين ممن يمتلكون أساسا مواهبهم الخاصة، ناهيك عن اندفاعهم الجاد للكتابة، وصبرهم على مشاقها. فحتى الكاتب الموهوب لن يبلغ الجودة إذا لم يكن صبورا بما يكفي، لأن الكتابة تشبه إلى حد ما صناعة طبق فاخر لمائدة مميزة.
***
يتساءل غابو : أي سر هذا الذي يجعل مجرد الرغبة في رواية القصص تتحول إلى هوى يمكن لكائن بشري أن يموت من أجله؟
________
*كاتب عراقي.