*نور الدين محقق
للكتابة سحر لا يقاوم للذي قد ابتلي بها. فالكتابة ابتلاء جميل لكن لحظة الانتهاء منها. وهي تصبح واجبا صعبا للذي يكون ملتزما بها تجاه صحيفة يومية معينة بحيث يظل في هوس البحث عن الموضوع المناسب للكتابة عنه، وحين يجده بعد مشقة يصبح في هوس مضاعف يتمثل في كيفية تناوله. هنا تصبح المعاني غير مطروحة في الطريق كما يقول الجاحظ وتصبح الصياغة صعبة المنال. أستحضر هنا حالة الكاتب العالمي غابرييل غارسيا ماركيز وهو يتناول في روايته «ذكرى عشيقاتي الحزينات» التي ترجمها إلى اللغة العربية رفعت عطفة، شخصية بطل الرواية الذي كان يعمل محررا في إحدى الصحف، وكان مكلفا فيها بكتابة زاوية خاصة به تنشر كل يوم أحد بالإضافة إلى كتابة أخبار وتعليقات قصيرة من حين لآخر حول الموسيقى والمسرح وغير ذلك.
كانت هذه الزاوية تشكل هوسا بالنسبة إليه، وقد ظل يكتبها طوال أكثر من نصف قرن. كان هاجسه يتمثل في كيفية مجاراة التطورات التي حدثت في مجال الصحافة وفي كيفية كتابة الزوايا الصحفية وتناول القضايا الجديدة بأفق مختلف، لكنه هو رغم هاجسه هذا، ورغم تنبيه مدير النشر له بضرورة مسايرة العصر، ظل محافظا على طريقته التقليدية وعلى حرصه الشديد على لغته وطريقة تفكيره في كتابة هذه الزاوية. وقد نجح أخيرا في كسب ثقة القراء من جديد حين «انتهبوا إلى أنها لم تكن فقط لعجائز بل أيضا لشباب لا يخافون أن يشيخوا.
عندئذ عادت الزاوية إلى قسم الرأي، وأحيانا إلى الصفحة الأولى». هكذا حتى حين أراد أن ينهيها، ذات لحظة يأس وتعب، مقدما استقالته رفض المدير ذلك بحجة أن الزاوية ناجحة جدا وأن هناك الكثير مما يجب أن يكتب فيها. وحين وقع البطل وهو في التسعين من العمر في الحب حول مضامين هذه الزاوية إلى الحديث عن الحب وبعث رسائل الحب إلى حبيبته من خلالها. بل طلب من رئيس التحرير نشر هذه الرسائل بخط يده بدل الخط المطبعي. وقد لاقت هذه الزاوية في مضمونها وشكلها الجديدين نجاحا باهرا تمثل في تدفق رسائل القراء مبدين إعجابهم بها.
لقد تفوق الكاتب العالمي غابرييل غارسيا ماركيز في وصف نفسية الكتاب الذين يكتبون في الصحافة عموما وكتاب زوايا الرأي والزوايا الأخرى فيها بشكل خاص، وهم يبحثون عن المواضيع ويجتهدون في عملية صياغتها بالشكل الصحفي المطلوب، مبينا مدى شغفهم بالكتابة من جهة أولى ومدى وجلهم من عدم الوصول إلى قرائهم كما يرجون من جهة ثانية، وضرورة تقبلهم للنقد الموجه إليهم من جهة ثالثة ليس من القراء فحسب بل حتى من زملائهم أهل الثقافة. يقول سارد الرواية في حقهم ما يلي «بدا أهل الثقافة، كما هي العادة، متخوفين ومنقسمين». من هنا وجب «أخذ ردود الفعل بالحسبان عند الكتابة» كما يقول غابرييل غارسيا ماركيز في نفس الرواية وعلى لسان بطلها دائما.
إن الكتابة تتطلب قبل عملية التحقق المنشود قراءة متعمقة، كما تتطلب مجهودا في عملية تحويلها من إطار التحقق بالرغبة إلى إطار التحقق بالفعل صبرا مضنيا.
ويزداد الأمر صعوبة كلما كانت الكتابة مشروطة بموعد محدد، وفي بعض الأحيان بموضوع معين. وهو ما نجده في الغالب يحصل في كتابة الزوايا الصحفية سواء تعلقت بالرأي أو بالفنون أو بالآداب.
إن الكاتب في هذه اللحظة يكون ملزما بالكتابة وفق شروط الصحيفة التي يكتب فيها ووفق الحيز المسموح له به. وهو إلى هذا وذاك عليه أن يحقق المنشود من كتابته وأن يجعل القراء يتجاوبون مع ما يكتب وإلا تعرضت زاويته للتهميش وربما للحذف. لكن في مقابل هذا كلما كانت الزاوية ناجحة فهي تحقق لكاتبها صيتا وتحوله إلى كاتب معروف لدى القراء يتابعون ما يكتب وينتظرون يوم صدور زاويته بشغف.
_______
*عُكاظ