التخييل الذاتي فـي كتابات توفيق الحكيم

*مــحـمد بــــرادة

بالرَّغم من الإشادة النقدية التي لقيَتْها بعض روايات توفيق الحكيم، وخاصة روايتي «عودة الروح» وَ «يوميات نائب في الأرياف»، فإن اسم هذا الكاتب اقترن أكثر بريادته المسرحية وبالتجديدات التي حقّقها في مجال المسرح الذهني أو الفلسفي، وفي تجريبيته المتَّصلة بتوظيف التراث الشعبي لكتابة مسرحية تنتمي إلى ما يُعرف، عالمياً، بمسرح العبث.

ويبدو لي أن توفيق الحكيم قد بُخِس حقّه في مجال تأسيس الرواية العربية الحديثة وتوطيد ركائزها. ذلك أن قراءة نُصوصه المكتوبة منذ 1927، وعلى مَسافة خمس عشرة سنة من نشر «زينب» لمـحمد حسيْن هيكل، تلفتُ النّظر إلى عملية « استئناف» قويّة أنجزها الحكيم من خلال نُصوص متمِيّزة في شكلها وثـيماتها ولُغتها. وكان ذلك «الاستئناف» لافتاً للنَّظر لأَن صاحبه مزوَّد بثقافة أدبية وفنية عميقة، ولأن إقامته الدراسية بفرنسا مكَّنَتْه من استيعاب الأشكال التعبيرية الحديثة، ومِنْ إعادة قراءة التراث قراءة نقدية أَتاحت له تحقيق التفاعل المخصب بين الموروث والمكتسب.

لم يبدأ توفيق الحكيم – على عكس معظم الكتاب المجايلين له – بنشر سيرته الذاتية، إلاّ أنه استثمر عناصر منها في نصوصه الروائية بطريقة تجعل شخصية الكاتب الواقعية تَتَوارَى خلف البناء والتّخييل.

من خلال إعادة قراءتي لأهم روايات الحكيم، وبعد أن نشَر نُصوصاً لها طابع سيْر – ذاتي مثل «زهرة العمر» و«سجن العمر»، تبيَّن لي أَن إعادة القراءة يمكن أن تغتني إذا ما استرجعنا ذلك البُعد الذّاتي في رواياته، لا بِوَصْفها سيرة ذاتية، وإنما من خلال مفهوم نقدي، تصنـيفي، أخذ ينتشر في الأدب العالمي منذ ما يقرب من أربعين سنة، وبدأ يُستعمل لتمييز نصوص معيَّنة تعتمد التَّخييل الذَّاتي autofiction الذي يتيح للكاتب أن يتخذ من وقائع حياته منطلقاً للتَّخيل عبر مغامرة اللغة وتوليد إمكاناتها التّعبيرية.

وقد تشَعَّب مفهوم التخييل الذاتي واتخذ تجلياتٍ متباينة، وذهب بعض النقاد إلى أن دلالته وُجدت من قبل عند بعض الكُتاب من دون تنظير ولا قَصْديَّة. ما سنحاوله من خلال هذه القراءة لخمس روايات من روايات الحكيم، هو توظيف مفهوم التخييل الذاتي لاستنطاق جوانب ظلَّت مُبعدةً في القراءات السالفة، ولإِلقاء الضَّوء على الأَهمية الريادية لهذه النّصوص المميَّزة شكلا ومضموناً ولغة.

I. مفهوم التخييل الذَّاتي وتشغيله في قراءة روايات الحكيم

1. تحديـد أَوّلي للتخييل الذاتي

يمكن القول بأن التخييل الذاتي خرج من معطف السيرة الذاتية، لأن الذات تحتل مكانة أساسية في هذيْن الجِنسيْن التعبيريين، ولأن السيرة الذاتية رغم استنادها إلى تَعاقُدٍ مع القارئ لقول «كل الحقائق» عن حياة كاتبها، فإِنَّها لا تستطيع أَنْ تَستغني عن التخييل الروائي. وعندما نتابع تطور الإنجازات النصيّة للسيرة الذاتة، نجد أن أهم العناصر المكوِّنة لها، وهي: المرجعية، السَّريرة، التعاقب، الأنا، أَضْحتْ موضع تساؤل وإعادة نظر داخل النّص السير ذاتي نفسه…(1)ثم تفرَّغت عن السيرة جُنيْسات تعبيرية مثل: المذكرات الحميمية (le diarisme) والصورة الذاتية (autoportrait)، فَخلْخلتْ عناصر السيرة الذاتية لأنها تعتمد التجزئة وعدم الاسترسال، وتَنَوُّعَ حالات النفس، والتجاوُر والتكرار…. من ثمَّ بدأ مفهوم التخييل الذاتي يكتسب فضاء خاصاً يميّزه عن السيرة الذاتية، لأنه مع إمكان توظيف وقائع الحياة المعيش، لا يكون الغرض عند الكاتب هو مطابقة النّص مع «حقيقة» الأنا. على العكس، يجعل الذَّاتي من الهويَّة مجالاً للتخييل فلا يَعُودُ ممكناً المقارنة بين الحقيقي والمزيّف، بين الواقعي واللاّواقعي. وعلى ضوء ذلك، يجوز القول: لعلَّ نَص التّخييل الذاتي ماهو إلا محكيُّ شخصيّتُه الرئيسيَّة تُدعَى «أَنا» وهو أنا مجهول أكثر ممّا هو معروف، لأنه مُتبدِّل، ملتبس، يُخفي أكثر ممّا يفصح حسب منظور التحليل النفساني.

هذا الالتباس الحائل دون تحديد الأَنا، ودون الجزم بأحادية الذات والهويّة، هو ما دفع الكثير من النقاد إلى القول بِانْتِــفاء التمييز بين الرواية والسيرة الذاتية مادام التخييل ضروريا ومؤثراً في تشكيل النَّص؛ إلاّ أن التحوّلات التي عرفتها الكتابة الأدبية منذ الخمسينات باتجاه مجاوزة الحدود المميِّزة للأَجناس التعبيرية وباتجاه افتراض «موت» الكاتب وقيام النّص باستقلالٍ عنه….، كل ذلك أَثار ردود فعل، وخاصةً مع عودة فلسفة الذَّات الفاعلة (le sujet) فبرزتْ اتجاهاتٌ لِتَذْويت الكتابة من خلال «بَعْثِ» المؤلف والاحتفاء بمحكياته الشخصية وبتخييلاته الذاتية …. وعلى هذا النحو تشكَّل فضاء بين الرواية والسيرة الذاتية يجمع بينهما إلا أنه يعطي الأسبقية لتوسيع فسحة الكتابة والاهتمام بمغامرة اللغة أكثر من لغة الحكي وسرد الوقائع، وهذا الفضاء الجديد هو ما اصطلح بعض المبدعين والنقاد على تسميته بـ «التخييل الذاتي». لكن قبل أن يبرز المصطلح مقترنا ببعض النصوص في سنة 1965 عند جيرزي كوزانسكي(2) من خلال روايته «الطائر المبرقش»، ثم عند سيرج دوبروفسكى3 في نصه «خيوط» سنة 1977، فإن تجليات خصائص هذه الكتابة التخييلية الذاتية وُجدتْ في نصوص سابقة عند أمثال بيير لوتي، وجان جونيه وسوليرس وآخرين… لذلك فإن لهذا المصطلح «ما قبل تاريخه» أي الفترة التي لم تنتقل فيها الكتابة من مرحلة التلقائية إلى مستوى الوعي والتنظيم لتلك الممارسة. ومن هذه الزاوية، نرى أن كتابات توفيق الحكيم وآخرين تندرج ضمن التخييل الذاتي لكن بِتَجِلِّياتٍ ومكوِّنات مختلفة بعض الشيء.وهذا ما سنحاوله في التحليل اللاَّحق.

2 ــ تجليات التخييل الذاتي في الآداب الحديث

يعتبر سيرج دوبروفسكى أَبرز مَنْ رَوَّج لمفهوم التخييل الذاتي وحرص على وَصْف نصوصه الإبداعية به. وفي مجموع الروايات التي نشرها، حرص على أن يستوحي حياته ليقدمها في شكل يختلف عن السيرة الذاتية وعن الرواية، جامعاً بين مبدأَيْ الحقيقة والمتعة مُطلِقًا العنان للكتابة المتدفقة لِيُسَطِّر «ملحمة الأنا» يقول عن كتابته: «يتعلق الأمر بالتخييل، تخيل الأحداث والأفعال الواقعية المحض، وإذا شئتم فالأمر يتعلق بتخييل ذاتي نتيجة الانتقال من لغة تحكي مغامرةً إلى مغامرة لُغةٍ بعيداً عن حكمة الرواية وتركيب جُمَلها سواء كانت رواية تقليدية أو جديدة. إن التخييل الذاتي هو عبارة عن لقاءات، وخيوطِ كلمات وجناسات وسجع وأصوات متنافرة…» إن دُوبروفسكي لايحرص على توفير حكاية تَنْتظم تَّخَييلَهُ، وإنما يعطى الأسبقية كما لاحظ أحد النقاد(4) لإيجاد بنية زمنية تمكّنه من ابتداع أسلوب عنيف يَنْقَادُ من خلاله لِلُعْبة التنقلات والتركيز والتَّثْبيت، كما لو أن كتابته تُعيد تجسيدَ عمل المحلِّل النفساني عبر استعارة لا ينضُب معينُها…

وفي مقابل دوبروفسكي، نجد أنطوان بْلُونْدانْ يعمد إلى صْوغ خرافات يقدم من خلالها الذات وكأنها قصص حقيقية، وبذلك يغدو ضمير المتكلم شخصاً آخر لأن الأحداث تنفصل عن سياقها التجريبي. وفي اتجاه مقارب، نجد كتاب «رولان بارت» بقلم رولان بارت» حيث يلح الكاتب على أن ما يسرده يُعتَبر واراداً على لسان شخصية روائية، ثم يأتي بصور فوتوغرافية لعائلته وطفولته تتقاطع مع فقرات السيرة. وهذا التفاعل بين «الواقعي» والتخييلي يرجح ابتداع الذات في مشاهد ومواقـف متعددة تـتعدى إطار السيرة الذاتية.
وقد كثرت النصوص التي تستوحي هذا الاتجاه التخيلي الذاتي مثلما نجد عند الروائي الفرنسي باتريك موديانو، وجورج بيريك وكلود سيمون (خاصة في روايته الأخيرة: «حديقة النباتات»؛ وفي النصوص الأخير لألان روب كريـيه.ويمكن أن نعتبر سيرة جان جونيه «مذكرات لص» (1949) نصا تخيــيليا ذاتيا لأنه يرفض التقيُّد بتعاقد السيرة الذاتية وينطلق وراء الحلم والاستيهامات التي تولَّدتْ في نفسه نتيجة كَوْنِه طفلاً لقيطاً. وهو لا يريد أن يسترجع طفولته وشبابه وإنما يعيد صياغتهما استنادا إلى وَعْيه الراهن….
وفي الأدب العربي، نجد نصوصاً في بعض ما كتبه كل من فاضل العزاوي، وجمعة اللاَّمي، وغالب هلسا، وإدوار الخراط، وأحمد المديني…، مع اختلافات في الشكل والكتابة.

إن التخييل الذاتي سِــمَة مهيمنة في نصوص تَضْفر المعيشَ بالتخييلي ضَفْراً يَؤُولُ إلى تذويب المعيش في المتخيّل وإبراز الذات المحوِّلة والمبتـــدَعة باستمرار.

3 ــ التخييل والذات عند الحكيم:

في المسرحيات التي كتبها توفيق الحكيم، سواء ما اصطُلح على تسميته بالمسرح الذهني أو ما سُمِّي بمسرح المجتمع، نجد أن الكاتب غالبا ما يصطنع قالباً تعبيريا يطرح من خلاله قضايا فكرية واجتماعية وسياسية بطريقة لا تكاد تظهر فيها ذاتيتُه وتفاصيل حياته. بينما نحس، عند قراءة رواياته، أن الكاتب يوظف ويستحضر وقائع ومشاهد من سيرته بطريقة تبرز معها ذاتــُه في التلفُّظ والرؤية. وعلى خلاف مَع ما فَعَلَهُ زملاؤه من الكُتَّاب، فإن توفيق الحكيم لم يكتب سيرته الذاتية في مطلع حياته الأدبية، ولم ينشر لمحاتٍ من سيرته إلا في سنة 1964 «سجن العمر»، بعد أن توقَّف عن كتابة الرواية. على ضوء هذه الملاحظة، فان قراءة روايات الحكيم تلفت النظر إلى حضور «أناه» مُتدثرةً بغلائل التخييل. صحيح أنه يُعبر من خلال شكلٍ روائي، إلاَّ أن بروز «أنا» التخييل بقوة، يُبرّر اعتماد مفهوم التخييل الذاتي لاستجلاء ملامح تلك الذات المعبَّر عنها، والوقوف عندما حقَّقَهُ هذا الاختيار على مستوى الكتابة وعلى مستوى الإلحاح على الفردانية بوصفها أفقا لتحرير الذات ولبلورة وعيها داخل المجتمع. ذلك أن سياق الثلاثينيات في مصر، كان مُقترناً بالنضال من أجل استكمال الاستقلال وإرساء أسس ليبرالية تعترف بالفرد وبدوره في تغيير القيم والعلائق…فهـي ليست فردية نرجسية أو انعزالية، على نحو ما سنبين عند تحليل الروايات. لقد كان توفيق الحكيم بمساره الغني والثقافي والاجتماعي، ملتقى لتفاعلات ثرية عملت على تقليب تُرْبَةِ الحقل الأدبي المصري منذ العشرينات. ورغم اتفاقه مع مبدعين آخرين من جيْله في بعض التصورات والمثُل، فإنه سعى إلى تمرير رؤية لها خصوصيتها إذْ جعل من النص الروائي وسيلة لرسم ملامح عالمٍ يستند إلى تخييل ذاتيّ وسَّع أمامه إمكاناتِ التعبير وبنيات الشكل….
من هذا المنظور، نحاول أن نستعيد حضور «ذات» الحكيم التي حرص دوْماً على أن يجعلها متوارية خلف أقنعة «موضوعية».

إن التخييل عند الحكيم يزيل الحواجز بين الواقعي واللاَّوَاقعي، ومن ثمَّ لا يعود ممكنا المقارنة بين الحقيقي والكاذب كما هو الشأن في بعض القراءات للسيرة الذاتية. هكذا يكون التخييل، عند الحكيم، وسيلة لنسج الشخوص واللُّغات وتأثيث الفضاءات، وتغدو الذاتُ جزءا مندمجاً في عملية تشييد النَّص وإسماع صوتها وتطلعاتها من خلاله. لكن ذات الحكيم، رغم حفاظها على بعض الثوابت، فإنها تتبدَّل عبر أجواء التخييل وسياقاته وتبقى منفتحة على صُوَرِه ومُـكوّناته. من ثم فإن نصوصه السردية بقدر ما هي روايات، بقدر ما هي تخييل ذاتي يُعطى للأَنا حضوراً مركزياً نستطيع أن ندرك دلالاته من خلال قراءةٍ تُحلّل جدلية التخييل والذات عند توفيق الحكيم.

II. تجليات التخييل الذاتي في خمس روايات
ضِمْنَ المنظور المحدَّد لهذه الدراسة عن التخييل الذاتي في روايات الحكيم، فإننا لا نستطيع أن نُقدم تحليلاً عامَّا لمكوِّنات النصوص وتركيبها الغني. لذلك سنجتــزئ التحليل لِنحْصُرَهُ في ما نعتبره عناصر مُشخّصة للتخييل الذاتي، استناداً إلى شخصية المُتَلَفِّظ في الرواية والتي هي شخصية تتوفر على ملامح تلتقي ببعض ملامح الكاتب توفيق الحكيم. وهذا لا يعني أننا نفترض تطابقاً بين الشخصية الروائية والكاتب، لكننا نفترض تداخُلاً وتقاطعاً على مستوى التخييل المشكِّل لفضاءٍ واقعيّ وتخييلي في آنٍ، هو فضاء مُبْتَدَع يستقبل الذات المحتمَلَة للكاتب محفوفةً بإضافاتِ المخيِّلة واللاوعي، ومتفاعلة مع سياقات التلفُّظ وإرغاماته الاجتماعية.

في الخمس روايات المختارة، نلاحظ أن ثلاثا منها تَنْحِتُ فضاءات في أرجاء المدينة والريف المصرييْن وهي: «عودة الروح»، «يوميات نائب في الأرياف»، «الرباط المقدّس»، بينما الروايتان الأخريان، «عصفور من الشرق، «راقصة المعبَد» تستوحيان فضاءَ باريس وأجواء أوربا المعطرة بأريج الفن والثقافة الرفيعة والأوبرا و الغناء…
يتعلَّق الأمر، إذن، بذات مركَّبة إذا صح التعبير، لأن الكاتب عاش في مجتمعيْن مختلفيْن، وتشرَّب ثقافتين متغايرتيْن، وحَلُمَ دوْماً بأن يحقق «تعادلية» تصطفي أفضل ما في الحضارات الكونية.

1 ــ عودة الروح
يبدو «محسن» أقرب إلى الاسم المستعار للكاتب الضّمني، لأنه يلتقي معه في كثير من السمات، ومن خلاله يستعيد بعض الوقائع الحياتية في الطفولة والمراهقة، خاصة عندما كان يقطن مع أعمامه بالقاهرة. ومن تلك السمات المشتركة بين محسن والكاتب، افتتانه بالغناء والعوامل، حبه للموسيقى والشعر (قراءته في ديوان مهيار الديلمي) وتطلّعه وهو لا يزال تلميذاً في المدرسة إلى أن يصبح الصوت المعبر عن الشعب:
« بكره احنا اللي نكون لسان الأمة الناطق !
(…) فاندفع قائلا:
عباس ! وظيفتنا بكره ما تكون التعبير عما في قلب الأمة كلّها. فاهمْ؟
يا سلام ! لو تعرفوا قيمة القدرة على التعبير عما في النفس… التعبير عما في القلوب» ص. 127.

في «عودة الروح»، هناك تخييل ذاتي يقوم أساساً على رسم صورة الذات منذ الطفولة وكأنها تجسيد مُبكِّر لما ستكونه في المستقبل. إن الذات الكاتبة توظف عناصر من السيرة لتُعيد تخييل الذات في ماضيها ضمن تَنَاسُق معيَّن، ولأجل ذلك ينزع الحكيم إلى تخريف الذّات (fabulation de soi) بجعلها موضوعاً لحكايات ومواقف يمتزج فيها الواقعي باللاَّواقعي، للاقتراب من صورة الذات كما يتخيلها الكاتب الآن وهي تتحرك، وتفعل في فترات منصرمة. من هذه الزاوية ندرك ذلك المشهد الذي يصور «محسن» وهو تلميذ في الإعدادية، عاقلاً، مُتَرزّنَا، ميَّالاً إلى المناظرة ومطارحة الشعر مع صديقة عباس ومع «مَنْ يتفق معهما في طبيعتهما الروحية الهادئة»، يطرح سؤالا كبيرا لمعرفة ما هي السعادة، وعندما يطلب منه أستاذ الإنشاء أن يلقي ارتجالاً موضوعاً يختاره بنفسه، يقف ليكتب على السبورة: الحب، ويأتي ردّ فعل الأستاذ مستنكراً، مُوبّخًا، بينما تشبث محسن بموضوعه شاعراً بنوع من الاعتزاز: «(…) ولكنه لم يفقد تلك الثقة والقوة التي دفعته إلى كتابة تلك الكلمة الجريئة أمام طلبة مساكين اعتادوا أن يسمعوا كلمة العلم والمذاكرة والتحصيل والمثابرة ولكنهم لم يسمعوا كلمة «الحب» و«الشعور» ولا «القلب»، وإنْ سمعوها فمحرَّف معناها إلى المقصد الدنيء كأنما الحياة ليس فيها غير شيئيْن لا ثالث لهما: العلم والفساد، فالعلم عندهم مُرادف للحب والقلب» ص 130. ذاتُ محسن، هنا، تتخايل عبرها ملامح من ذات الحكيم الذي سيُبلور هذا التعلّق بالقلب والروح في كتاباته ومسرحياته، وتخييل ذات محسن في سنٍّ مُبكّرة إنما هو تأكيد على وجود تلك البذرة التي طبعت شخصيتـه بالأسئلة المقلقة والطّموح إلى ارتياد عوالم الفكر المطلق.

ونجد نموذجا آخر لهذا التخييل في الفصل التاسع بالجزء الأول من «عودة الروح» والمتعلق بانجذاب محسن إلى الأوسطى لبيبه شخلع العالمة. فهو، هنا، يُفْرِدُ عدّة صفحات لتخيل تلك العلاقة عبر وصف التفاصيل وسرد القصص الطريفة التي وقعت للأوسطى شخلع ومصاحبته لها في الأفراح معتبراً نفسه أحد أفراد التخت. في هذا الفصل يستعيد الكثير من الحكايات والتفاصيل المتعلقة بالأوسطى شخلع التي نجد توفيق الحكيم يتحدث عنها في سيرته «سجن العمر» باسمها الحقيقي: الأوسطى حميدة: «… ثم ازداد تردّدها على منزلنا عندما انتقلنا بعد ذلك بسنوات إلى القاهرة وأُصيبت جدّتِي بالفالج ونصح له الطبيب بصفاء البال والسرور، فتعهّدتْ بها الأوسطى حميدة كلما خلا وقتُها من العمل…» (ص.75). وهي نفس الشخص التي يهدي إليها الحكيم قطعة «العوالم» قائلا: «إلى الأوسطى حميدة الإسكندرانية أول مَنْ علَّمني كلمة «الفن»(5). وفي هذا النص القصير المعنون بـ «العوالم» نجد طريقة أخرى في تخييل علاقة الحكيم بالأوسطى حميدة، لأنَّ ما كتبه في هذه الصيغة أشبه ما يكون بمسرحية قصيرة حيث إن السرد المقتصد هو بمثابة إشارات توضح الحركة وتوزع الحوار…
بينما في عودة الروح» يلتحم التخييل بالذات، ونحسُّ أن تلك العلاقة التي وُجدتْ في حياة الحكيم، قد تحّولت، عند الكتابة، إلى عنصر جوّاني فاعل في أعماق نفسه. إنه في «عودة الروح»، يتحرر بفضل التخييل، من التحوُّطات ومن الرقابة الاجتماعية لِيُوحيَ لنا بأن العلاقة بين الطفل مُحسن والأوسطى حميدة كانت تنطوي على عواطف مُلتبِسة:
«(…) وما رآها وتبيَّنها حتى ذهب عنه النّوم فجأة، وارتجفت أهدابه واحمرَّت وجنتاه، واضطرب قلبه قليلاً لا يدري لماذا… ثم تخلص بسرعة من أحضانها وجرى. إن مرَّ السنوات لن يمحو أبدا من ذاكرته تلك اللحظة الحلوة السعيدة التي فتح فيها عينيْه ليرى نفسه بين ذراعيْها يتلقَّى قُبلاتها… ولما شاءت الظروف بعدئذ أن تتزوج شخلع من الحاج أحمد المطيب، أحس محسن كآبة وخيبة آمال وشبه سراب يزول، وشيئاً كالقنوط يحلُّ في أعماق نفسه دون أن يدرك لذلك أسباباً…» ص. 173

واضح هنا، من خلال المقارنة بين ما كتبه الحكيم عن نفس الحادثة والعلاقة، أن اللجوء إلى التخييل الذاتي في «عودة الروح» قد أضفى على الواقعي بُعداً جديداَ ومُحِوّراً، مَرَدُّهُ إلى تدخل الذات المتلفِّــظــة بصوتها ومشاعرها.
تطالعنا صورة أخرى للتخييل الذاتي في مواقف التعاطف مع الفلاحين ومع «الشعب» (أسرة أعمامه) ومع كل ما يرمز إلى الجماعة؛ ذلك أن محسن يشعر بنفسه أقرب إلى أبيه الفلاّح منه إلى أُمه ذات الأصل التركي والتي كانت تزعم أنها هي التي مدّنت زوجها (نجد إشارة إلى ذلك أيضا في سجن العمر). وفي «عودة الروح» إشارات كثيرة تجعل من ذات محسن ذاتا جمعية متعاطفة مع الخادم مبروك ومع الفلاحين في العزبة ومع الجماهير الثائرة في شوارع القاهرة. نسوق نموذجا لذلك: «وجاء ميعاد النوم وقادوا محسن إلى حجرته الخاصة، حجرة جميلة غالية الفرش، وأغلق عليه الباب (…) فاكتأب لهذه الوحدة وأوحشه المكان، وحـنّ إلى سريره بجوار أسرة أعمامه في تلك الغرفة «العمومية» ذات الخمسة أسرة ينحشر فيها «الشعب» بأجمعه حشرا. واشتد به الحنين ولما يمض به ليلة حتى أدرك أنه كان هناك في نعيم، وأن هناك إنما هي الحياة وما كانت أهنأها حياة، حياة الجماعة تلك، حتى في متاعبها ولحظاتها الشقية…» ص. 13 الجزء الثاني .

على هذا النحو، طوال الرواية، تتخذ ذات محسن طابعا خاصا من خلال التخييل الذي يجعلها مندمجة في أسرة أعمامه رغم أنها أقل ثراء ورفاهية من أُسرته. ولعل تصوير ذات محسن على هذا النَّحو، مشدودة إلى أبعاد جماعية، يعود إلى ذلك الأساس الضِّمني الذي يرتكز عليه نَصُّ «عودة الروح» وهو أساس مُستَمدّ من تاريخ مصر القديم وأساطيرها، والذي يربط صيرورة الفرد» إلى حيث الكُلُّ في واحد» إن هذه الفكرة تتردد بكثرة وتغدو بمثابة اللَّحمة التي تسند شعب مصر في ثورته سنة 1919 والتي وجد محسن نفسه هو وأعمامه مندفعين إلى ساحتها…

ومن هذا المنظور، تتبلور ذات محسن عبر بُعديْن متلاحميْن: ذات مُتفرِّدة لأن محسن يحب الأدب والغناء والعزف على البيانو ويكتب الشعر…، وفي نفس الآن، يحس أن ذاته جزء لا ينفصل عن الجماعة التي تتّسع لتشمل الشعب.
إن هذا التَّخريف، للذَّات (ذات محسن) والنظر من خلالها إلى الماضي وإلى المستقبل، هو ما جعل توفيق الحكيم يبتعد عن اللغة- المعيار التي تقتصر على حكي الوقائع وترجمة الأفكار إلى كلمات. بدلا من ذلك، نجد في «عودة الروح» لغة مختلفة عن اللغة السائدة آنذاك، لأنها لغة تبحث عن إيقاع وتعبيريَّة يَرْتَقِيَانِ إلى مستوى التخييل الذاتي وإلى تصوُّر الذّات الحكيمة لخصوصية التجربة. ومن ثم أصبحت لغة الكلام جزءًا أساسيا في النّص تلتقــط النبض الحيوي وتكسّر تراكيب الجُمَل وتحقق تباعداً عن السَّائد البلاغي. كذلك تلعب السخرية دوراً بارزاً في تخصيص الفضاء والشخوص وتمييز كلام الذات المُـتلفّــظة.

2 ــ يوميات نائب في الأرياف
في هذا النّص، هناك ما يوحي بوحدة الهويّة بين السارد المستعمل لضمير المتكلّم وشخصية وكيل النيابة وشخصية توفيق الحكيم الذي اضطلع بهذه الوظيفة فترةً زمنية في طنطا ودسوق الغربية. وعلى رَغـْـم أن العنوان يشير إلى «يوميات» فإن القراءة تكشف شيئا آخر، إذ لا يقتصر الأمر، كما في جنس اليوميات، على تسجيل بعض الوقائع باقتضاب وبحسب أهميتها، بل إن البناء العام للنّص، وعلى امتداد اثْنَتي عشر يوما، يهتمُّ بوصف التفاصيل والفضاءات ورسم ملامح الشخوص، ونقل عيِّنات من كلامهم وحواراتهم. كل ذلك يجعل النّص أقرب ما يكون إلى بناء روائي له حبكة تنتظم السرد والأفعال، وقصص تتضافر، رغم اختلافها، من خلال رؤية السارد وترتيـــبه للحكيْ.
يعلن الكاتب في مُستهلِّ الكِتاب أنه يريد أن يتحدث عن الجريمة وعن علاقته بها وبمن عايشهم في الريف، وهو إذ يكتب ذلك في يوميات فلأنها «لن تُنشَر» وستكون كتابتها فقط للتنفيس عن ضيْقه:
«(…) هنا في هذه اليوميات، أَملك الكلام عنها وعن نفسي وعن الكائنات جميعا أيتها الصفحات التي لن تُنْشَر ! ما أَنتِ إلا نافذة مفتوحة أطلق منها حريتي في ساعات الضَّيق !»ص .3

إن هذه الإشارة الموازية للنص، لا يمكن أن تحجب الطابع التخييلي الذي يتخلَّل النص ويلحمه، وذلك رغم توظيف الكاتب لعناصر سير ذاتية ووصفه لأجواء وأحداث واقعية. ونستدلُّ على هذه الملاحظة بأن النص يتَّجه أكثر إلى وصف الحالة النفسية والذهنية لكاتب اليوميات وإبراز ردود فعله أمام الموافق التي يوجد فيها أو يشاهدها… ومن ثمّ فإن النص، رغم أنه يبدو بمثابة نسج مُرقـــّع يضم شخوصاً وأحداثا متباينة، إلا أنه يكتسب وحدةً شبه متجانسة، مَصْدَرُها تلك الرؤية التخييلية التي يسلكها الكاتب في السرد والوصف والتعليق، وداخلها تأخذ ذاتــُه مكانة أساسية.

إن أساس التخييل الذاتي في «يوميات نائب في الأرياف» هو حرص الكاتب على أن يجعل من ذاته الكامنة وراء وكيل النيابة ذاتاً مُفرغَة من هوُيَّتها المألوفة، مفصولة عن خصائصها المتصلة بحب الثقافة والموسيقى والجمال. تغدو الذات هنا، أشبه ما تكون بالرُّوبـو، تؤدي عملها «القانوني» وسط شروط لا إنسانية. ونجد صدىً مباشراً لذلك فيما سجله بإحدى رسائله إلى صديقه أندريه في «زهرة العمر» متحدثا عن عمله كوكيلٍ للنيابة:
«كل ما يكتنفـُــني اليوم من مناظر وجماد وإنسان لا يثير فيَّ شيئا مما يرفع النفس فوق ذاتيتها ! فكلّ ما حولي هو مما يهبط بالنفس أَدنى من ذاتيتها ! إني أعيش في جو الجريمة، وأَحياناً في عالم الغرائز الدنيا ! إني مع القبح الآدمي، الماديّ والمعنوي ليل نهار، وجهاً لوجه… ! « ص .188
في «يوميات نائب في الأرياف»، يكتشف توفيق الحكيم عالم الحقيقة الأرضية بعد أن انجذب طويلاً إلى عالم الخيال والمجرَّدات. وَمُعايشتُة للجريمة وللسلوكيات الغرائزية، أَرْعبَتْ كِيانَهُ لأنه بدأ يـُحس بتلاشي المشاعر والقيم جرَّاء تلاشي الرَّمز الذي يضفي صفة الإنسانية على الأشخاص ويحدد قيماً ايجابية للعلائق والأشياء:
«… ولماذا لم يعد منظر الجثث أو العظام يؤثر في مثلي وفي مثل الطبيب، وحتى في مثل اللّحاد أو الحراس هذا التأثير؟ يخيل إليّ أن هذه الجثث والعظام قَدْ فقدتْ لدينا ما فيها من رموز، فهي لا تعدو في نظرنا قطع الأخشاب وعيدان الحطب وقوالب الطين والآجر (…) لقد انفصل عنها ذلك الرمز الذي هو كل قوَّتها. نعم، وماذا يبقى من تلك الأشياء العظيمة المقدسة التي لها في حياتنا البشرية كل الخطر لو نزعنا عنها ذلك «الرمز»؟ …» ص .101

من ثم يمكن القول بأنَّ النَّواة الأساسية في تخييل الذات داخل اليوميات»، هي سيرورة الانتقال من الوضع الإنساني إلى اللاّمبالاة وجمود المشاعر أمام مشاهد العنف واحتقار القانون للمواطن وكأن السارد، وكيل النيابة، يعيش في حظيرة للحيوانات مُستسلماً لكوابيس يختلط فيها الواقعي باللاّواقعي، وربما يفوق الواقع ما تتصور المخيلة.

نتـيجة لذلك، فإن الذات الفاعلة، المتكلمة في «يوميات نائب في الأرياف» تغدو مُفرغة من مقوماتها ومشاعرها الإنسانية، مُستَـلــبة تجاه ذلك القانون الذي يحدد طرائق التحقيق ومعاملة الضحايا والمجرمين:
«وأَذكر أنى تركتُ ذات مرّة جريحاً يعالج سكرات الموت، وجعلت أصفُ سرواله وتكتَّه وبَلْغَتَه ولَبْدتَه، فلما فرغت انحنيتُ على المصاب أسأله عن المعتدي عليه، فإذا بالمصاب قد تُوفي…» ص .12

لكننا نجد، وسط قتامة هذا الفضاء وجمود «إنسانية» وكيل، النيابة، إضاءاتٍ قليلة عبر شخصية «ريم» الريفية الجميلة التي تجذب كلَّ من رآها، والتي اتُهـمتْ بقتل قمر الدولة ثم عُـثــر عليها – بعد فرارها- مقتولة.وبموتها، انطفأ ذلك الأمل الذي كان يراود الوكيل في اللقاء بذلك الشيء الجميل:
«وأُطرقتُ قليلا أفكر في سوء حظنا، لا من حيث العمل، ولا لأن «ريم» مفتاح من مفاتيح القضية، بل لأنها كانت صورة بديعة هزّت نفوسنا جميعا، عاقـِــلـَنا ومجنوننا، ومخلوقا حُلواً منحنا أُويقات حلوة ولحظات مشرقة، ونسيما عليلاً هبّ على صحراء حياتنا العاطفية في هذا الريف القــــفـْــر…» ص. 158.
ويتضح من صياغة هذه الفقرة، ولجوء كاتب اليوميات إلى نون الجماعة، واصفا حزن ومشاعر الآخرين، أنه يريد إبراز القيمة الرمزية لـ «ريم»، لأنها لم تكن مجرد امرأة جميلة، بل كانت رمزاً للأشياء الجميلة المفقودة وسط بيئة البشاعة وسيادة الغرائز…

إن الحكيم، في هذه اليوميات، كأَنَّما يستكمل تخييله الذاتي من خلال استيحاء الأجواء المغايرة لفضاءات القاهرة وباريس، والمعاكسة لأحلام المثقف، الفنان، المتطلع إلى الإبداع والجمال. على خلاف صورة الذات كما تطالعنا في روايات الحكيم الأخرى، تقدم «يوميات نائب في الأرياف» ذاتا تُجابِهُ بشاعةَ الواقع وتُشخِّص المواقف والمشاعر عارية من دون تجريد أو أَصباغ. ذلك أن كُلُوح الواقع، هنا، يُـبطل التطلعات المثالية ويكاد يشلُّ التعلُّق بسماوات الروح ورموزها.

3 ــ عصفور من الشرق
يأتي هذا النَّص المسرود بضمير الغائب، شكلا روائياً مشـتملاً على عناصر البناء المألوفة من مشاهد وشخوص وحوار واسترجاعات، مثله مثل «عودة الروح»؛ إلاَّ أن الفضاءات هنا، تستوحي ،أساساً، باريس بعد الحرب العالمية الأولى بأجوائها الاجتماعية المتوتـرة وتنظيمات العمال المتصاعدة، وتـصوّر أيضا استئناف الحياة الثقافية والفنية… والشخصية المحورية تحمل اسم محسن وهو نفس الشخص الذي رافقنا خطواته الأولى في «عودة الروح» ونرافقه هنا في رحلته الدراسية الجامعية التي سيؤثر عليها استكشاف ذخائر باريس الموسيقية والأدبية والجمالية. إنه نفس «المحسن»، إذ نجد في «عصفور من الشرق» إشارات إلى ثروة 1919 وإلى تأليفه أغاني وطنية كان يلحنها هو بنفسه ويُغنيها زملاؤه خلف قضبان السجن، وإلى الامتحان العسير الذي تعرض له والده المستشار يوم طلب منه الإنجليز أن يُصدر حُكما زوراً لصالحهم فَرفَض…

لكن «محسن» في «عصفور من الشرق» يعيش تجربة مغايرة لأن ذاته تواجه حضارة وثقافة وفضاءات مختلفة. به شوقٌ إلى المعرفة بدون حدود، وتطلّع إلى أن يُصبح كاتباً، ورغبة جارفة في أن يُحب ويَنْعم بمسرَّات الغرام ومعاشرة المرأة… هي إذن، تجربة الذّات (الحكيمية؟) في مواجهتها لـ «الآخر» بوصفه سلوكا وقيماً وثقافة. منْ هذا المنظور، يمكن القول بأن تخريف ذات محسن يوظف ثلاثة عناصر في صياغتـه: علاقته مع عائلة أندريه صديقه الفرنسي الذي سينشر الحكيم فيما بعد (سنة 1943) رسائل كان يبعثها إليه؛ ثم علاقته بـ «سوزي» الجميلة التي كانت تعمل بشباك مسرح الأوديون، وأخيرا علاقته بـ «إيفان» العامل الروسي المولع يالثقافة والأديان والتفكير في مصير العالم….

إن نواة التخييل الذاتي، في هذا النّص، تبدو ملتحمة ومتحدرة من الاستعارة التي يتضمّنها عنوان الرواية: كأن «محسن» المُلْتَحِف بشرقِيته وأحلامه الفنية وروحانيته، هو عصفور زائر لباريس بوصفها السماء الرحيبة التي كان يؤمل أن يجد فيها أمانيه ومقاصده. ولم يكن بوسع العصفور أن يحلق في سماوات غريبة ثم يغادرها وهو على نفس الحال. خلال الزيارة أقام محسن علاقات، واكتشف حضارة تقدس الموسيقى والفن والأوبرا والمسرح والعقل، وعاش أسبوعين مغموراً بلذائذ الحب والعواطف ثم ارتدَّ إلى الوحدة والتأمل ليستحضر الصورة الأخرى للحضارة الشرقية التي يدافع عنها إيفيان: «… إن أوربا اليوم في أزمة شديدة، لا شك أنها أخطر أزمة مرّت بها، ذلك أنها قد تنبَّهتْ أن ما زعمتْهُ مدنية عظيمة قد أفلس، وظهرت من تحت الريش أنياب الخنازير البرية (…) فلنرحل معا الى الشرق، إن أجمل ما بقي لأوربا إنما أخدتــْه عن الشرق ! لم تعد حياتي هنا ! ماذا نصنع الآن ها هنا؟ حتى راحة النفس لا نجدها هنا. إن العودة إلى الهدوء والصفاء هي في عودتنا إلى فضاء الصحراء، هناك نستنشق بملء رئتينا، لا دخان المداخن، ولكن رائحة السماء…» ص 180

لكن الطائر/ محسن فَقــَـــد براءته الأولى، لأنه حلَّق عالياً وتَغَلْغَل في سماوات الفن، وانتشى بسيمفونيات فاجـنــر وبيتهوفن، ونهل من ينابيع المعرفة العميقة وارتوى من شفاه الحب… ثم وجد نفسه غريباً لا يقدر على الاستمرار بعد فشله في مغامرته العاطفية، ولايستطيع أن يــقـنــع بِبَركَة حاميته الطاهرة السيدة زينب. انتقل من الطمأنينة إلى الشك والحيرة. يقول محسن في رسالة إلى سوزي:
«…إني مثل ذلك «الملحد» الذي طُرد حديثاً من حظيرة «الإيمان» فتشرَّد بعد ذلك «بقلبه» لا يدري أين يسكنه، مثله مثل صعلوك من صعاليك الحياة، إذا طلع النهار انساق إلى تـــرّهات العقل حتى يجنّ الليل، فأوى «بقلبه» إلى حيطان «العقيدة» ينطرح فوق الأفاريز…» ص 146
غادرتْ ذاتُ محسن أحاديَّــتــها وصارتْ ترى بأكثر من عينيْن وتُقارن بين شرق وغرب لتكتشف التناقضات والمفارقات:» … وإنك قد تستطيع اليوم أن تقتلع من رأس الشرقي عظمة السماء، ولا تستطيع مطلقاً أن تقتلع منه عظمة «العلم الأوربي الحديث»، وإنه لمن اليسير أن تسفه عند الشرقي الآن «رسالة» الأنبياء، ولا يمكن أن تُسفِّه لديه «رسالة» القوة المادية الحديثة !» ص .191

ولِتَجْلية هذه السِّمات المستجدة من التخييل الذاتي، يُلبس توفيق الحكم «محسنا» أردية وأقنعة مستمدة من نصوص وسانفونية وشخصيات تاريخية تركتْ بصماتها على صفحة نفس محسن الباحث عن حقيقة ذاته وعن أجوبة لأسئلته في سياق مغاير لسياق الشرق المُطَمْئِن.على هذا النحو، يمكن فَهْم التناص الوفير الذي يحضر بطرائق مختلفة في «عصفور من الشرق»؛ إنه يشير إلى كارمن و إلى الشُّعراء: آنا كريون وعمر الخيام وحافظ الشيرازي؛ مُستشهداً بأشعارهم، كما يلخص مقارنة بين الديانات الثلاث وبين الماركسية والفاشستية، ويستحضر أسطورة ماها دوفا الهندية، وسيمفونية بارسيفال لفاجنر، والسيمفونية التاسعة لبتهوفن… هكذا اتسعت مرجعية محسن وتعدّدتْ مكوِّناتها وأصبح يبحث عن ذواتٍ قريبة من حالات ذاته ليَتَماهَى معها، على نحو ما فعل مع بيتهوفن مورداً رسالة بعث بها هذا الأخير إلى شقيقيه قائلا:
«مِثلُ هذه الحوادث كانت تُلقِي بي على أعتاب اليأس، وكادت تًغريني بأن أضع حدا لأيامي ! ولكنه الفن وحده هو الذي أبقى على حياتي… آه إنه ليشق عليّ ترك هذا العالم قبل أن أعطى كل ما أحس داخل نفسي من مخلوقات لم تزل بعد في طور التكوين !…» ص. 164
إن صورة ذات محسن، هنا، تختلف عن صورتها في «عودة الروح» لأنها خرجت من الاطمئنان المطلق إلى عتبات الشك والحيرة والتساؤل الفلسفي. بارتيادها لفضاءات جديدة واستيعابها لثقافة وحضارة مُغايــرتيْن، باتت ذاتُ محسن أكثر حضوراً وإدراكاً لكيانها واستقلاليتها. ومن هذا المنظور، يمكن اعتبار «عصفور من الشرق» بمثابة إعلان عن ميلاد «أنا» حاملة لِسمَاتِ الفردانية الإيجابية ما دام صاحبها يتعاطى مع المجتمع والثقافة والمذاهب تعاطياً نقديا قائما على التمحيص والتحليل.

4 ــ راقصة المعبد
لعل هذه الرواية الصغيرة هي أقرب ما كتب توفيق الحكيم إلى جنس التخـــييل الذاتي الذي يتكوّن من محكي مسرود بضمير المتكلم ضمن إطار تخييلي الاَّ أن شخصية الكاتب تَــتَـبدَّى من حين لآخر عبر وقائع مُتَّصلة بحياته واحتمالات الوقوع فيما يُسْرَد مُسنَدة بـ «مفعولات حياتـيـة»(6)…
«راقصة المعبـد» رواية تمتح أيضا من فضاءات أوروبا وباريس، والشخصية الساردة هي كاتب شرقي حضر مهرجان سالزوبورج الشهير ثم عاد الى باريس في القطار رفقة صديقه الذي يُترجم إبداعاته إلى اللغة الفرنسية. في القطار، أثناء الرحلة، تبدأ المغامرة مع راقصة بولونية وتستمر بعد ذلك في باريس.

لايحمل السارد اسماً، ولكننا نجد المترجم يناديه بـ «الكاتب الشرقي» المحب للعزلة والهدوء والابتعاد عن الناس، إلاَّ أنه ضعيف أمام الجمال على رغم ما عرف عنه من انه «عدوُّ للمرأة» لأنها تُهدّد حريَّته… إن الـــتخييل الذاتي، في هذا النَّص، يتــــشخص عبر مغامرة لم تكتمل، إلا أن ذات السارد/ الكاتب تأخذ حيِّزَا كبيرا في الفعل والكلام وكتابة النَّص كتابة موشاة بالتخـيـُّل والحلم. إنه يقدم نفسه على أنه يتعيش من الكذب:
«فقلت له باسماً:
– صدقتْ فراستك، أنا من أولئك النفر الذين خُلقوا كي يملأوا الدنيا كـذبـا وتمويهاً…
فقال الشيخ للفور:
– إن أردت الحقّ، فكل الفن في الكذب سواء، ولكني أحسبُ الروائي أطولهم باعا وأملأهم جعبة…
– سيـّما وإن كان شرقيا من صلب مُـؤلفي «ألف ليلة وليلة»…
فقالت الجميلة وهي تنظر إليَّ باسمة:
-يسرني حقاً أن أرى كاتباً من سلالة تلك الفئة العجيبة، ولكني لا أحب أن تُسمىَ فنّك كذباً، إن الكذب المتَّسق هو أصدق من الصدق. ما الفنُّ إلا كذب مُتَّسق جميل…» ص.58/59

وبالفعل يحلق النَّص في مسالك لا يمكن أن نُميِّز داخلها بين ماهو حقــــيقي وما هو «كاذب» لأن غلالة التخييل تشمل المحكيات والحوارات وأحلام اليقظة.
في الفترة الأولى، داخل القطار المتّجه إلى باريس، نظن- ومعنا السارد/ الكاتب- أنه قد أوقع الراقصة البولونية الجميلة في حبائله؛ ولكـنـنا نتبيّن، والسارد معنا، أن الأمر يتعلق بتآمر بين الشيخ الظريف وبين الراقصة لأنهما أرادا أن يُوقعا الكاتب الشرقي قنيصةً يُذِلانها لأنها تعلن عداوتها للمرأة. لم تتم المغامرة، أي لم تكلّل بقصة حب كما كان يتمنى السارد، إلاّ أنها حركتْ قلبه الهامد وجعلته يجري وراء الراقصة الحسناء التي أعرضت عنه. وللتعويض عن هذا الفشل، يلجأ السارد إلى اله الفن وراقصات معبده:
«في هذا البرزخ بين الأرض والسماء، وفوق هذا الجسر بين القدرة العلوية والموهبة البشرية، لمحتُ في الظلام عجلةً تشبه عجلات قدماء المصريين، تأتي مسرعة يجرها ثمانية جياد شُهْب كتلك الجياد المطهَّمة الجميلة التي شاهدتُ رسمها يزيّن سقف قاعة التدخين الكبرى في مبنى المهرجان ! (…) فَحَدَدْتُ البصر إلى الراقصات الجميلات فإذا بينهن نساء قد عرفتهن في يوم من الأيام: فتلك «سنيَّة» وتلك «ريم» وتلك «سوزي» وهذه … عجباَ، عجباَ ياإلهي وهذه «ناتالي» ….» ص 137/138
على هذه الشاكلة، يأخذ التخييل الذاتي مداه عبر الكتابة المحّررة من مقتضيات الواقعية وأطرها الصارمة. وبذلك تغدو الذّاتُ الكاتـبة مجالا فسيحا للتخيل والتذكُّر: هناك علامات تحيل على ذات الحكيم، إلاَّ أنها ليست محدودة في سياق معيَّن، بل هي الذات بالمعنى الواسع إذ تنزع الى التعالي عن المواقف الظرفية لتعبّر من خلال «الأنا» العميق عن شبكة من المشاعر والأفكار والأحلام والاستيهامات الباقية في اللاَّوعي: «… آه إني أعرف الساعة في قلبي سهاماً أربعة منغرسة فيه كأنها السنابل… آخرها ذلك السهم المنطلق من قوس الراقصة البولونية…»
في الروايات الأربع التي يذكر أسماء نسائها اللائي تعلَّق قلبه بهن، يتعلق الأمر بما يشبه الجُرح الكامن لأن حبه لم يتمّ ولأن شيئا ما يعوق التوافق بينه وبين المرأة التي هو ضعيف أمام جمالها… من ثم يستمر التخييل الذاتي لِيُوجد امتدادات للحب المستحل في مجال أوسع، هو مجال الفن والتفكير التجريدي في الكون والحياة. ومثلما لجأ، بعد فشله في تجربته مع سوزي في «عصفور من الشرق» إلى المقارنة بين الشرق والغرب، نجده هنا ينقل التخييل إلى حوار مع اله الفن:
«… وكأنما شيء قد وخزني في قلبي، فقمتُ أصـيح في جوف الظلام:
– يا إله الفن، لماذا تفعل بي ذلك؟ لماذا تصنع بي ذلك دائماً؟
(…) آه ! ما من مرَّة صادفتُ فيها امرأة هزّت نفسي إلاّ كانت تلك هي النهاية ! لماذا يا إله الفن يروق لك دائما أن تجرح وتُذلّ هذا القلب الذي هُيّئ لخدمتك؟ ….» ص 133/134.

وعندما يخاطبه إله الفن يقتنع بهزيمته. يقول له إله الفن:
«… أنتم جميعاً في خدمتي، أنتم لي وما ملكتْ أيديكم أنتم رقيق مشدود إلى عجلتي، لكم أن تنظروا إلى راقصات معبدي، وأن تتأملوا جمالهن وأن تلتــقــطـوا أزهارهن، وأن تستلهموا حسنهنّ وحبّهن… ولكن اذكروا دائماً أنهن لسن لكم؛ كل ما لكم من متاع حقيقي هو هذه الحبال من اللّيف التي تربطكم أبدا إلى عجلتي ! (…) أنتم أيضا معشر الخيَّاطين المنوطين بصنع أرديتي يجب أن تكون لكم قلوب قد غـُــرستْ فيها السِّهام. هذا عملكم ! ..» ص.140

هكذا تغوص ذات الكاتب الشرقي في ردهات معبد إله الفن، ساجدةً أمام راقصاته، متناسية نتالي تلك الراقصة البولونية التي هي من دم ولحم. دائما يتدخّل التخييل، عند الحكيم، ليبتدع صورة أخرى للذّات تُمَكِّـــنـُها من الاستمرار محلّقة في سماوات الفن والفكر، «متعالية» على الحياة الدنيا وما تَقْتضيه من تنازلات عندما يتعلق الأمر بمنطق جمال المرأة !

5 ــ الرباط المقدس
يتمُّ السرد في هذه الرواية من خلال ضمير الغائب ومن خلال سارد عالم بكل شيء، إلا أن التَّبئير يظل قريباً من وجهة نظر «راهب الفكر» الذي ينسق «خيوط» المحكيات ويتابع الأحداث عن قرب ويشارك فيها… وكثير من سِمات راهب الفكر تُذكرنا بشخصية توفيق الحكيم: فهو كاتب معتصم ببرجه العاجي، ينشد الوحدة ويتجنب لقاء الناس، وهو متعلق بالمثاليات ويؤثر العيش في صحبة الكتب، لا منغمساً في الواقع ومشاكله… بينما الشخصية الرئيسية الثانية، وهي المرأة الجميلة التي اقتحمت عليه خلوته وأشركتْه في همومها وأخذ قلبه يتعلق بها، لها طبيعة مناقضة: تحب الحياة وتلعب التنيس وتتردّد على الحلاَّق وتحب الكذب…
وهذا التعارض بين الشخصيتين الرئيستين يُتيح تعددية في الرؤية واللُّغة كما يُتيح إدراج نصيْن بضمير المتكلم : واحد في شكل رسائل كتبها راهب الفكر إلى الزوجة التي انقطعت عن زيارته، والآخر هو «الكراسة الحمراء» كتبتْها الزوجة لتحكي قصة مغامرتها مع ممثل جميل أثناء سفر زوجها…
ومن هنا نجد أنفسنا أمام تخييل مزدوج، مُركَّب، يَنْطق بأكثر من صوت ويُخرج ذات الحكيم من مسارها التخيــــيلي الســابق:فـشل في الحب ولجوء إلى سماوات المثالية والفـن…، إلى موقف غيـر مسـبوق : وهو وجود صوت المرأة المعبِّرة عن ذاتيتها والرافضة لمنطق الكاتب المتشبث بفرض وصاية المجتمع والزوج على الزوجة. هذا الصَّوت يقول لراهب الفكر:
«… إن كلَّ مَنْ يرفض الحبّ، عندما يأتي، هو ذلك الذي حلَّت عليه الخيبة ! مضى عهد القديسين والأولياء الصالحين ! اخرج معي الآن إلى المجتمع الحاضر لتعرف في أي عصر تعيش… إنه ليُدْهشني في رجل مفكر مثلك أنه مازال يحيا مع شـبح الأفكار الميّتة، وخرافات الكتب القديمة !» ص 284
من هذه الزاوية، نلاحظ أن التخيل الذاتي في هذه الرواية يأخذ تجليا مختلفاً عن الروايات السابقة رغم احتفاظه ببعض العناصر السابقة.
نجد في هذا النص أيضاً، اللجوء إلى التَّخييل عبر التَّناص من خلال استحضار رواية أناتول فرانس عن المومس «تاييس» ومغامرتها مع الراهب بافنوس… ونجد نصّا لأبي بكر الرازي عن العلاقة بالمحبوب، ونجد حديثاً عن الزوجات المثاليات لكل من ماركس، ودزرائيلي، وأوزوريس، والنبي محمد بن عبدالله… فحضور مثل هذه النصوص والنماذج التاريخية إنما هو تأكيد لذلك الجانب المثالي الذي يتغذّى بالكُتب والقيم المتعالية على الأرض والذي نجده في مجموع تخييلات الذاتٍ عند الحكيم. لكن الجديد، في هذه الرواية، هو تخييل ذات أخرى مناقضة ومُتِمّمة في آن لتلك الذّات التي كانت تبدو مشدودة إلى السماء أكثر مما هي عائشة على الأرض. وبالفعل، فإن «الكراسة الحمراء» التي كتبتْها الزوجةُ المتمردة، تبدو أكثر إقناعاً وتأثيراً من بقية صفحات الرواية سواء على مستوى التخييل أو على مستوى الجرأة في الدفاع عن حرية المرأة وفردانيتها:
«… أنت رجل مفكر، حرّ التفكير، فكيف تنسى أن الحرية هي أساس كل شيء الآن؟ والمرأة مثل الرجل، مخلوق له حريته، والزوجة لم تعد قطعة أثاث توضع في حُجرةٍ مغلقة في منزل الزوجية، بل هي آدمية لها حق التنفّس والحياة، ولا بد أن تكون لها حريتها، وأن تذكر دائماً أن لها قلباً حرًّا قد خُلق لينبض بالحب والكُره، وأن لها جسماً حرًّا لا يُمْلَك إلا بإراداتها ورغبتها، وأن الزَّواج لا ينبغي أن يفسَّر بأنه قَيْد يوضع في عنق المرأة، إنها اليوم ترفض كلَّ قيد حتَّى وإن كان من ذهب !…» ص 258
هناك واقع جدد في المجتمع المصري خلال الأربعينيات تشير الرواية إلى بعض تأثيراته على الحياة الاجتماعية خاصة في «الطبقات الراقية»؛ وهو مُقترن بالتطلع إلى الفردانية بوصفها عنصرا ضروريا للتحديث وإعادة تحديد التعاقد بين الفرد والدولة… وكل تلك التحولات تسائل ذاتية الكاتب والمبدع… لذلك لم يكن باستطاعة الحكيم، المعروف بحساسيته وذكائه وطاقته الراصدة أن يستمرَّ في نفس التخييل الذاتي القائم على ثنائية الأرض/ السماء، العقل/ القلب… إنه، في «الرباط المقدس»، تخـــيَّل ذاتاً أخرى، ندًّا للأولى تُزعزعه عن وَضْعه المريح الذي كان ينتصر للخيال على الواقع هنا، يُنَبِّهه صوت الذات الأخرى إلى أن «… المادة هي المادة بحرارتها المنبعثة من داخلها، لا من المعاني التي تــُسْبَغ عليها !» (ص.285). وشيئا فشيئاً يدرك راهب الفكر أن منطق الذات لا يمكن أن يخضع للتقسيمات التجريدية الثنائية لأنها تقوم على وحدة لغزية تتمنع عن الفهم:
«… إن في الإنسان منطقة عجيبة سحيقة لا تصل إليــها الفضيلة ولا الرذيلة، ولا تَشع فيها شمس العقل والإدارة، و لا ينطق لسان المنطق، ولا تطاع القوانين والأوضاع، ولا تتداول فيها لغة أو تستخدم كلمة …» ص 222
إن التخييل الذاتي المرتدي، هذه المرة، لأكثر من قناع، يتيح للحكيم الاقتراب من تلك الحالة القصوى حيث تنتفي الحدود بين الفضيلة والرذيلة وتــــتحرر الذات من منطق العقل والكلمات… وإذا نحن أمام محكيات تستعصي مقارنتها بما هو حقيقي أو كاذب، وأمام تخيل للهوية ذاتها التي تتقمص صوتين متعارضين إلا أنهما يتطلعان نحو أفق للتكامل، نحو تلك «المنطقة العجيبة السحيقة إلي لا تصل إليها الفضيلة ولا الرذيلة»، فيكون التحرر وتفريد الذات.

III. «زهرة العمر» و«سجن العمر» : إضاءة التخييل الذاتي؟
لم ينشر توفيق الحكيم «زهرة العمر» (سيرة ذاتية – رسائل، 1943) وَ «سجن العمر» (سيرة ذاتية 1964) إلاَّ بعد أن نشر رواياته الخمس، أو بالأحرى أربعاً منها ونشر الخامسة «الرباط المقدس» سنة 1944، أي بعد سنة على نشر «زهرة العمر». ومعنى ذلك، كما سبقتْ الإشارة، أن الحكيم لم يبادر إلى نشر سيرته الذاتية في مطلع حياته الأدبية وهو ما أتاح له أن يستثمر كثيراً من مكوّناتها في نصوصه الروائية المعتمدة – كما حاولنا إظهار ذلك – على تخييل الذات بحرية أَوسع…

وإذا كانت العلاقة بين السيرة الذاتية والتخييل هي علاقة واردة لا يمكن للكاتب أن يزعم التقيُّد المطلق بالواقع والحقائق، فإننا نستطيع أن نعقد مقارنة بين ما ورد في الروايات وما جاء في السيرة الذاتية، لا بهدف التثبت والتأكد من صحة العناصر البيوغرافية، وإنما للوقوف على تنويع التخييل وطرائق التفاعل بين المعيش والمعبَّر عنه…

لكننا، في هذين الكتابيْن اللّذين يقدمهما الحكيم على أنها سيرة ذاتية، نجد أن كتابتهما تنطلق من تصوُّر معين ومن إطار تخييلي واضح؛ فهو يحدّد هويّة السيرتين على هذا النحو: «…. ولستُ أدري أهي مجرّد مصادفة أن أكتب عن تكوين الفكر في «زهرة العمر» قبل أن أكتب عن تكوين الطبع في «سجن العمر»؟ إن زهرة عمرنا الفكر، وسجن عمرنا الطبع…»7
ثم إن الرسائل التي يقوم عليها كتاب «زهرة العمر» هي رسائل يُخبرنا الحكيم أنه كان قد تَبادَلَها مع صديقه الفرنسي أندريه الذي يَرِدُ اسمه في «عصفور من الشرق» ثم استردَّها بعد سنوات لينشر ترجمته بدون أن ينشر واحدة من رسائل أندريه إليه. ومعنى هذا أن الرسائل يمكن أن تكون متخيَّلة ولاحقة، كتبها الحكيم ليرسم مساره الثقافي وتفاصيل مغامرته الفكرية والعاطفية بالديار الفرنسية. بعبارة أخرى نستوحـيـها من كلام الحكيم: «زهرة العمر» مخصصة لـ «المكتَسَب» بينما «سجن العمر» هي عن «الموروث»: «أنا سجين في الموروث، حرَّ في المكتَسَب… وما شيدته بنفسي من فكر وثقافة هو مِـلكي، وهو ما أختلف فيه عن أهلي كل الاختلاف. ها هنا مصدر قوتي الحقيقية التي بها أقاوم…» (سجن العمر، ص. 220).

مهما يكن من حقيقة تلك الرسائل، فإنها تقدم صورةً عن حياة الحكيم في باريس، خاصة الجوانب المتصلة بالثقافة والموسيقى والفن والأدب. وهي تشتمل على الإشارة إلى بعض الأحداث البيوغرافية مثل علاقته القصيرة مع سوزي والببغاء «محسن» الذي أهداه إليها (وهي واقعة نجدها في عصفور من الشرق) ومثل شروط العمل القاسية التي اشتغل فيها وكيلاً للنيابة في طنطا ودسوق… ولكن معظم صفحات «زهرة العمر» هي عن «سنوات التعلُّم» والتكوين في مجالات ثقافية ومتنوعة. ومن ثناياها، ندرك كيف واجه الحكيم مشكلتـه مع الكتابة والحوار، وفهمه للكلاسيكية والمودرنـزم ثم انتقاداته لطرائق تدريس اللغة العربية مع إعادة تأويل وتقييم للأدب العربي القديم والأدب الشعبي… في هذه الرسائل، تبدو لنا ذات الحكيم موزَّعة بين فضاءيْن: باريس بغناها الثقافي والفني المذهل، ومصر بجفافها الثقافي ومشكلاتها الاجتماعية والقانونية (اكتشفها من معايشتــه للجريمة وهو وكيل نيابة). ونلمس تخوّفات الحكيم من أن ينتصر «الواقع» الكالح على مطامحه الأدبية والفنية:
«… مات ذلك الفنان، وحلَّت روحه في جسد رجل قانون ! أترى الفنان يا «أندريه» يُبعَث من موته يوماً؟ ولكن؟ (…) كيف السبيل إلى الفن الآن، والمجتمع، كما ترى، قد هيَّأ لي مكانا في أَحضانه لا أستطيع منه فكاكاً؟ «أندريه أندريه ! أخشى أن يُحطمني المجتمع، يُحطم الفنان فيّ … ربما كان قد حطّمني وكسّرني، ولكني أُقاوم…» ص.219.

إن «زهرة العمر» لا تتقيّد بالتعاقد السيْر ذاتي المعهود، لأنها تختار وتنتقي لحظات من إقامة الحكيم في باريس ومصر، وتركّز على الجوانب الفكرية والثقافية أكثر من تفاصيل التجارب والأحداث. ومن ثمَّ تأخذ التأملات حيّزا كبيراً وهو ما يجعلها أقرب إلى مذكرات فكرية أو مذكرات حميمية…
في «سجن العمر» ينحو الحكيم اتجاهاً آخر في كتابة سيرته الذاتية، ذلك أنَّه يضع لها هدفا يحاول الوصول إليه من خلال الإجابة على أسئلة تَشْغله:
«هذه الصفحات ليست مجرد سرد وتاريخ لحياة… إنها تعليل وتفسير لحياة. إني أرفع فها الغطاء عن جهازي الآدميّ لأَفحص تركيب ذلك «المحرك» الذي نسميه الطبيعة أو الطَّبع، هذا المحرك المتحكّم في قدرتي، الموجه لمصيري…» ص.11

في هذا النّص، نجد تفاصيل كثيرة عن طفولة الحكيم وعلائقه بجدَّته وبوالديْه وقصة زواجهما وعن اختلاف طبائعهما، كما نجد ذكرياته عن ثروة 1919 وعن المدارس التي ارتادها، وعن حبّه للعوالم وللموسيقى والمسرح وعن كتابـته لرواية «عودة الروح» ثم الرحلة إلى فرنسا… تفاصيل سير ذاتيه كثيرة بعضُها يلتقي مع ما ورد في روايته الأولى لكن بشكل مختلف.
إلاَّ أن الحكيم يعود، في نهاية «سجن العمر» ليقــدّم» تفسيره لحياته» أو تأويل الأسباب التي جعلته يأخذ مساراً معيّناً في حياته. وهو يفعل ذلك على هذا النحو:
«…. لم تكن شخصية والدي تلك، ولا ميوله الدفينة إذن مما يجعله يتجنب الأدب .. على العكس، إنه فيما يُخيّل إليّ كان يودُّ في دخيلة نفسه أن تتاح له الفرصة للانطلاق على سجيَّته واتخاذ الشعر والأدب مَجَالَهُ وميدانه… تلك ولاشك كانت رغبته المكبـوتة، كبــتها في نفسه مُجتمعُه وظروفُه العائلية والمالية… هذا الترف المسمّى يومئذ «الأدب» لم تكن تسمح به حالته المالية بالتأكيد لاقبل الزواج ولا بعده، وخاصة بعده، والرغبة المكبوتة عند الآباء ربّما كانت هي التي يُورثونها للأَبناء… ولو أَن والدي تمكَّن من إفراغ كل ما في نفسه من رغبات وميول أدبية، لأَعـفاني أنا وحرَّرني من نزعة الأدب، ولكنتُ أنا قَد انصرفتُ طليقا إلى شيء آخر (…) لقد ألقى والدي إذن، على كاهلي أنا مــا لم تُهيئُه له ظروفه هو أن يحمله، فما أنا إلاَّ سجين رغبته هو الذي لم يُحققهَا، بل إني سجين أشياء كثيرة أورثني إياها، فيها الطيب وفيها الرديء، كما ورثت عن والدتي خيرها وشرها….» ص.218/219.
عند هذا المستوى، نجد أن توفيق الحكيم انتقل من السيرة الذاتية إلى التخييل الذاتي إذ أراد أن يفسر ولَعه بالأدب والفن بِكون والده كَبَتَ هويته الأدبية وتخلى عن ميوله بسبب ضغط المجتمع وضيق ذات اليد، فاضطر ابنه توفيق إلى أن «ينوب» عنه ! ليس هناك ما يضفي طابع الحتمية على هذا التفسير «الوراثي»، ومن ثمَّ نعتبره أقرب إلى التخييل.
وقد لا نبعد عن الحقيقة إذا قلنا بأن الحكيم، وهو يفكر ،بَعْدياً، في مساره الفكري والحياتي، عمد إلى بلورة تصوُّر يوحي بنوعٍ من المنطقية والتّلاحم: فخصَّص «زهرة العمر» لما اكتسبه في رحلته إلى أوربا من مفاهيم ومذاهب وإبداعات، وخصص «سجن العمر» للموروث وعناصره التكوينية التي يكون لها امتداد في تاريخ الفرد. وقد بدأ بالمكتسب قبل الموروث مُلاحظاً أنه لا يعرف سبب ذلك.
كل ما نستطيع قوله، دون أن نتبنّى التفسير السيرذاتي الذي يقدمه الحكيم، هو أن التفاعل بين الموروث والمكتسب شيء ضروري وكَامِنٌ وراء جدلية حيوات جميع الناس. وبالنسبة للحكيم، فإنه استطاع أن يُحقق تلاؤماً مُخصباً بين الموروث والمكتسب بمعناهما الواسع، حيث أنه نجح في أن يصـبح كاتبا مبدعاً رغم الإرغامات المجتمعية والعائلية الموروثة. فرغم وجود إرغامات متنوعة مثل بَخْسِ قيمة المسرح والأدب في العشرينيات، وتعلق الناس بمناصب السلطة، وانتشار الأمية…، فإن توفيق الحكيم أنجز الكثير من تطلّعاته سواء على مستوى التكوين الثقافي خلال رحلته الدراسية، أو على مستوى الإبداع والكتابة للمسرح والصحافة؛ وكان ذلك الانتصار على الإرغامات تأكيداً لأهمية صوت الذَّات المبدعة وأهمية الكتابة التي تخلخل الموروث وتصوغ أسئلة جديدة…
6 – توفيق الحكيم وتذويت الرواية العربية
من خلال قراءتنا لخمس روايات لتوفيق الحكم، مُستأنسين بمفهوم التخييل الذاتي، حاولنا أن نُوضح كيف أصبحت الذات، في معناها الواسع، عنصرا تكوينيا وتحويليا للرواية عند الحكيم. ونحن لم نتــقـــيد بالتَّحديدات الراهنة للتخـــــيـيل الذاتي والتي تجعل منه مرادفا لتخيل السيرة تخييلا تاما، أو مجرد تعله لكتابة منطلقة، هذيانية، تهتم بمغامرة اللغة أكثر من الاهتمام بلُغة حكي المغامرة… بل استحضرنا الإرهاصات الأولى للتخييل الذاتي التي كانت توظف عناصر سيرذاتية لتنسج نصاً تخييليا تنتــفـي داخله إمكانات المقارنة بين الحقيقي والكاذب وإن كانت احتمالات الوقوع تظل واردة… ومن ثم فإن هذا النوع من الروايات يكون أقرب إلى التخييل منه إلى السيرة الذاتية «المُتعاقــِـدة» على قول الحقيقة كاملة. وفي هذا الاتجاه، تغدو الذات عنصرا فاعلا ومؤثرا في التخييل والتلفظ وتخصيص اللغة. وعندما نضع روايات الحكيم في سياق ظهورها وتداوُلها، ندرك أهميَّتها الخاصة استنادا إلى هذه الخصائص التخيلية. فقد مضت أكثر من خمس عشرة سنة على ظهور رواية «زينب» قبل أن تصدر «عودة الروح». وفي الفترة الفارقة بينهما لم تكد توجد رواية تستثمر التخـــييل الذاتي وتبتعد عن الروايات التعليمة والتهذيبية التي ظهرت منذ نهاية القرن التاسع عشر عند علي مبارك وفؤاد سليم ومحمود خيرت ونقولا حداد… ومن هذا المنظور، كانت «زينب» منعطفاً في الرواية العربية، لأن محمد حسين هيكل وظّف عناصر من سيرته الذاتية مُتدثراً بالتخـييل، مُشخصاً مشاهد من صراع الفرد مع المجتمع والتقاليد… وقد التجأ هيكل إلى التخييل الذاتي ليتخطى عوائق السيرة الذاتية وما توحي به من تطابق بين شخصية الكاتب وشخصيته الواقعية.

من ثم، يمكن اعتبار روايات الحكيم استئنافاً لمحاولة هيكل، لكن برؤية أوضح وبإنتاج أوسع وأكثر انتظاماً. صحيح أنه منذ العشرينات، بدأتْ تظهر مجموعة من السير الذاتية، لكنها مرتبطة أكثر بالحاجة إلى التعبير عن الذَّات المنتمية إلى طبقات اجتماعية بسيطة أو متوسطة، والتي أخذت تفرض نفسها عن طريق التفوق في مجالات العلم والثقافة والفن، ثم تريد انتزاع الاعتبار عن طريق التفوق في مجالات العلم والثقافة والفن، ومن ثم تريد انتزاع الاعتبار وتأكيده ( على سـبيـل المثال: سِيَرُ كلّ من طه حسين وسلامة موسى وأحمد أمين… ).

مع توفيق الحكيم (وأيضا إبراهيم عبد القادر المازني) أخذت الرواية في مصر تُوطّد دعائمها الحداثية شكلاً ومضموناً من خلال ما اصطلحنا على تسميته بـ«تذويت الرواية» مُتقصِّدين، أُساساً، تمرير الرؤية والفضاءات والوصف والزمن عبر ذاتِ الروائي وتجربته ولغته. ويُفهم التَّذويت بمقابلته مع «موضوعية» الخطابات العمومية التي تزعم لنفسها القدرة على التقاط الحقيقة وتشخيص عناصرها. على نقيض ذلك، تنزع الرواية الحداثية إلى استمداد لغتها وشكلها وأفكارها من تلك الشُّروخ التي تَـــنــحـــــفـــر في ذاتية الفرد وهو يُواجه المجتمع بمؤسساته المنغلقة وقيمه المتكَلِّسة وأَجْوبـته الجاهزة. ومن ثمَّ فإن حضور الذَّات بوصفها موضوعاً للصراع وانعكاساته، ومَرْصداً للتحولات وعواقبها، هو ما يبرّر الخطاب الروائي ويفسح أمامه مجالا للقول المختلف…
من هذا المنظور، نلخص سمات تذويت الرواية عند توفيق الحكيم، في العناصر التالية:
1. تَذْويتُ الكتابة: قراءتنا لروايات الحكيم تشعرنا بأننا أمام كتابة مختلفة عن سابقاتها وعن معاصراتها. ذلك أن التخييل الذاتي البارز في بناءات رواياته استتبع بالضرورة خصائص معيّنة على مستوى تركيب الجملة ونَسْج اللغة والتفاعل مع اللغات الأخرى عبر حضور «الترجمة» في صُلب لغته العربية. لقد كان الحكيم يقرن الرواية بالموضوعات الجديدة التي كانت تحوّلات المجتمع المصري تُـــفرزها منذ العشرينات، وكانت تلك الموضوعات تقتضي كتابة مغايرة على نحو ما اشار إلى ذلك:
«… وحاجة الأدب وقتئذٍ إلى إقرار هذه القوالب الجديدة على نحو جادّ، لتحمل موضوعات جديدة ما كان يمكن أن تحملها غير الرواية والقصة، وقد كانا يومئذ في فجر حياتهما، في حاجة إلى دفع ودعم من كل منْ وهب نفسه للفن، لتطمئن هذه القوالب وتحظى بالاحترام الذي كانت محرومة منه بـيـن غيرها من فروع الأدب…»(8)وبهذا الفهم لوظيفة الرواية وإمكاناتها، أخذ الحكيم يستــثـمر تجاربه الحياتيه وثقافته الواسعة ليجعل من الكتابة عنصرا جوهرياً يبتدع بلاغته الخاصة من خلال إدماج لغة الكلام بحيويتها وتلقائيتها، وأيضا من خلال استحضار التعبيرات التي التقطها داخل اللغة الفرنسية وعمل على صوغها عربياً عبر الترجمة في معناها الواسع الذي يجعلها مُلازمةً لكل تواصل بشري.

هكذا من خلال التناصات الكثيرة في رواياته، نحس لغة مغايرة قد أُدمِجتْ في لغة الحكيم لتقترب من ذلك التخييل الذاتي الذي يُعيد تصوير ذاته في امتداداتها من الطفولة إلى المراهقة والشباب. لذلك جاءت كتابة الحكيم مغايرة للبلاغة المسكوكة التي كان يمـثـلها أمثال مصطفى لطفي المنفلوطي ومصطفى صادق الرافعي. كتابته هو، تحمل بصمات محاورته للغات أخرى، وتحمل هموم وأسئلة ذاته التي عاشت تجربة الحوار مع الآخر وتجربة الذات في أبعادها الفردية وانشغالاتها الميتافيزيقية.

2. جعـْــلُ الرواية منطقة تَماسٍّ بين الفرديّ والجماعي لأن الحكـيم الحريص على فرديته وخصوصيته، أدرك أن الذات لا تكتسب قــيمتها إلاّ من خلال جدليتها الدائمة مع المجتمع والآخرين. ومن ثمّ جاءت رواياته (وبخاصِّةٍ عودة الروح، يوميات نائب في الأرياف، الرباط المقدس) تجسيداً لسيرورة الوعي ونقد العلائق واستبطان القيم الفاعلة… وكل ذلك انطلاقاً من التجربة الخاصة وما تُخلِّفُه في النفس من مشاعر وتأملات. يقول عن تجربته في «عودة الروح»:
«… أما من حيث الموضوع، فإني لم أُرد أن أجعلها سجلاً لتاريخ، بقدر ما أردتُ أن تكون وثيقةً لشعور، شــعور شاب صغير في وسط مرحلة خطيرة لبلاده…»(9)

وبفضل هذا الوعي الروائي، استطاع الحكيم أن يعمل على إقرار الرواية شكلاً للتعبير عن موضوعات تهمُّ الفرد مثلما تهم المجتمع وأن يـنتـــزع الاعتراف بها إذ أقدم على وضع اسمه الصريح على غلاف رواياته رغم أنه كان يمارس مهنة القضاء ورغم أن الأدب لم يكن يحظى بالاحترام الذي يستحقه. وهذا مظهر آخر لِتَذْوِيتِ الرواية حقَّقه الحكيم من خلال إثباته لإمكاناتها المتميزة قياسا إلى بقية لأجناس التعبيرية الأخرى.
3. السمة الثالثة المميّزة لروايات الحكيم، هي تشخيصها لِقيَمٍ فردانية إيجابية كانت بِصدد التَّشكل والانغراس ضمن مشروع ليبرالي ديمقراطي يُخرج مصر من وصاية الاستعمار ومن آليات الحُكْم الملكيّ المطلق…
ولندرك أهمية مساهمة الحكيم في هذا المجال، نشير إلى التَّعالق المعروف بين تذويت الرواية وبين تَبَلْوُر الفردانية (Individualisme)التي هي عنصر جوهري في معمار الحداثة(10). ذلك أن الفردانية جزء بارز في النَّسق الإيديولوجي الليبرالي اقتصادياً وسياسياً، وقد ارتبط في نشأتها، خاصةً خلال القرن الثامن عشر، بمفهوم إيجابي يُعيد للفرد حقوقه في التفكير والانتقاد والاعتقاد تجاه تمامية التفكير والتدبير (holisme) التي سيطرت من قبل. ورغم أن فلسفة عصر الأنوار قامت على تمجيد الفرد، فإنها فعلت ذلك بترابط مع قيمتي المساواة والحرية وهو ما أعطى للفردانية أَبعادها الثورية المتصلة بإعادة تحديـد حقوق الإنسان وتدعيمها ضد كليانية المجتمعات السياسة … وعند بروز الفـرد وانبثاق الفردانية، خاصة منذ القرن الثامن عشر، انعكس ذلك على مجالات التعبير الفني والأدبي، وكان المسرح والرواية في طليعة الأشكال التي استوعبت الدور الجديد والأساسي للفرد في بناء الحداثة. ومــعلوم أنه بدون «التواريخ» والحيوات الفردية لا يمكن تصوّر ازدهار الرواية باتجاه التعبير عن الصراعات والعواطف والأفكار التي لم تَعُد تخضع للتقنـــيـنات البطركية والتعاليم السماوية…

وعندما نستحضر السياق الاجتماعي والسياسي لمصر، ما بين العشرينيات والخمسينيات من القرن الماضي، نجد أن تلك الفترة عرفت جهوداً وتطلّعات إلى بلورة جوانب من الفردانية الإيجابية التي ارتكز عليها المشروع الليبرالي لطلعت حرب وجماعة بنك مصر الذين تأثروا بحركة التنوير التي نقل أصداءها وعمل على تأصيلها مفكرون ومثقفون من أمثال أحمد لطفي السيد ومحمد حسيْن هيكل وعلي عبد الرازق وطه حسين…، وكانت الفردانية والديمقراطية ضمن القيم المتصدِّرة لمشروعهم.

ومـن أســفٍ أننا لا نتوفَّر على دراسات تفصيلــية وموثقة عن نشأة وتجلّيات الفردانية في مصر عبر كل المستويات: الاقتصادية والثقافية والاجتماعية…. لكننا نستطيع القول، بنوع من التعميم، بأن الفردانية في جوانبها الإيجابية ذات الحمولات المتمرّدة الرافضة للموروث العقيم، قد تواجهت في حقول ثقافية وفنية مختلفة: في مجال الشعر من خلال مدرسة الديوان ومدرسة أبولو، وفي الأدب من خلال طه حسين والعقاد وآخرين، وفي السينما من خلال الأفلام التي بدأت ترسم صورة للفئات المتطلعة إلى نموذج حياتي يُحاكي الآخر، وفي الفنون التشكيلية والموسيقى أخذت الإنتاجات تواكب تحولات المشهد الاجتماعي وتعلي من شأن الفردانية التي تطمح إلى الخروج من شرنقة التقليد لتطول أفق الحداثة المرتكزة على جدلية الصراع بين الفرد والمجتمع، بين العقل والنقل…

ضمن هذه الصورة العامة، الخـُطاطية، يأخذ توفيق الحكيم مكانته انطلاقا مما كان يعبر عنه من خلال المسرحيات والروايات والمقالات الصحفية؛ ولكنـنا نقتصر هنا على متابعة مشروعة الروائي ومساهمته في تعزيز قيم الفردانية الإيجابية. لقد تجنب الحكيم – كما سبقت الإشارة – الانغلاق منذ البدء في أروقة «الرواية العائلية» كما يحددها فْرويْد، والتي تُعبر عن شبكة القرابة الأسروية من خلال الاستيهامات الفردية والتحويل (Transfert) والإسقاطات والرغائب الأوديبية للطفل ..بدلاً من ذلك، انطلق الحكيم في سماوات التخيل باحثاً لذاته عن مجال أوسع للفعل والحلم والتأمل. واستطاع، متدثراً بِستار التخييل الذاتي أن يُعيد تخييل ذاته على نحو يلائم بين الواقعي والخيالي لصالح هذا الأخير.

إن الروايات الخمس التي حـلـلـناها، تقدم «الذّات الحكيمـية» مُتدثّرة بمتخيَّلها عبر فضاءات ومواقف وأحداث مُتباينة … إلاَّ أنها تحتفظ ببعض الثوابت التي تُعلي من شأن القلب والمخيلة والروح. ولعل هذه العناصر الثلاثة الأخيرة هي بمثابة أفقٍ للتَّعالي عند الحكيم، إذ كثيراً ما يعود إليها في مسرحياته ونُصوصه الفكرية. ومع ذلك فإن ذات الحكيم، في تفاصيلها وأرديتها ومُتخيَّلتها تكتسي أهميةً خاصة لأنها بمثابة الـوجـه الآخـر للذات الجـماعية التي تـنـشد الـتحرر والتــحـقـق اســتـنـادا إلى قيم الفرادنية الإيجابية الطامحة إلى إرساء علائق توازنٍ مع المجتمع السياسي، والباحثة عن صورة أخرى للوجود، صورة تستوعب أفضل ما في الحضارة الشرقية والحضارة الغربية لتبتـــدع «تعادلية» تعيد تأويل صراعات الكون على أساس مقاومة «الابتلاعية» والدعوة إلى المقاومة: «إذْ بغير المقاومة تنعدم الحياة الإيجابية» .

لقد كان الحكيم ينتمّي إلى فترةٍ وجيْل مشغوليْن بتحقيق النهضة وتحديد الهوية تجاه الآخر، ومواجهة إرث الماضي وعبء الإرغامات والقيود المختلفة … لكن الحكيم تميّز بإدراكه لأهمية الفردانية الإيجابية، المُقاوِمة، وما ترمز إليه من قيم بالنسبة إلى سيرورة التغيير التي لا يمكن أن تتـــمَّ عبر الوعظ أو التشريعات المجرَّدة.

من هنا، جاز القول بأن كتابة الرواية عند الحكيم، استهدفت اختراق الستائر السميكة التي تــُغيــّب الفرد العربي وراء سيْل من الخطابات والنصوص الفضفاضة ذات البلاغة المسكوكة. في المقابل، جاءتْ روايات الحكيم ونصوصه السردية تخييلاً للذات في عواطفها ونزواتها واستيهاماتها ومواجهتها للواقع الاجتماعي والصيرورة التاريخية … من ثمّ، يغدو التخييل الذاتي مدخلاً لقراءة بعض تجليات المتخيل الاجتماعي، واستكْناه ما ينطوي عليه من تصوّرات وقيم.

لـقد تـغـــَـيّـتْ هذه القراءة أن تُدخل في الاعتبار المسافة الزمنية التي تفصلنا عن إنتاجات الحكيم الروائية والتي يَقترب أمدها من الخمسين سنة. من ثمَّ لم يكن القصد هو إعلاء شأن هذا المبدع باسم الريادة والتألق، وإنما حاولنا أن نتلمس بعض الجوانب التي تجعل الحكيم ما يزال معاصراً لنا من خلال إنجازات وحُدوس روائية تستعيد راهنيتها وديناميتها من خلال أُفق التخييل الذاتي الذي زعزع مفهوم السيرة الذاتية التقليدية وفتح مناطق شاسعة أمام الكتابة التي تؤكد أهميته الكاتب بوصفه ذاتا فاعلة، لا بنية غائبة…

ومن هذا المنظور، نجد أن كتابات سردية عربية لاحقة، قد عزَّزت هذا الاتجاه مثلما هو الشأن في بعض نصوص كل من فاضل العزاوي وغالب هلسا، وإدوار الخراط، وجمعة اللاَّمي وسليم بركات وآخرين، يجعلون من التخييل الذاتي أفقا لاستكناه العواطف والتجارب بعيداً عن الحدود الأجناسية الصارمة وعن اللغة الاستنساخية.

الهوامش

1 – استفدنا من دراسات فيليب لوجون المتصلة بهذا الموضوع خاصة دراسته «التعاقد السير ذاتي» واعتمدنا كذلك على Diconnaire Universel des littérateurs الذي أنجزت تحت إشراف بياتريس ديديي، 3 أجزاء، نشر perf، باريس 1994.
2 – Jerzy Kosinski : L’oiseau briole – ed flem
maraion 1966
3 – serge doubrovsky : fils, livre de poche
4 – في دراسة كتبها جاك لوكارم بملحق «لوموند» 24 يناير 1997 عنوان الدراسة: مشاهد من التخييل الذاتي Jacques Lacarme : Paysages de l’autofication
5 – انظر راقصة المعبد، المطبعة الموذجية، 1981، ص 9.
6 – استفدنا من الدراسة القيمة للسيدة ماري داريوساك انظر:
Marie Darrieussecq : L’autofication un genre pas serieux in poetique, n° 107 Septembre 1996, seuil, paris
7 – سجن العمر، مكتبة مصر، ص 220
8 – سجن العمر، ص 124
9 – سجن العمر، ص 127
(10) هناك .

________
*مجلة نزوى

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *