رجل في بيتي


*سما حسن


في داخلي كنت أبحث عن قصة الحب التي قرأتها ذات أمسية شتوية وأنا في فراشي الدافئ الوثير، أو التي شاهدتها في فيلم عربي قديم لبطلتي المفضلة التي تتنهد وتبكي وتتألم لضياع حبها الوحيد، وكان لابد من وجود قصة حب في حياتي، فأنا أعيش في خيالي مع بطلات القصص والأفلام، ولم أشعر يوما أني أقل من احداهن في أي شيء، فلم لا أعيش قصة حب مثلهن؟ ولا ضير لو تعذبت وتألمت؟
كنت جميلة ومغرورة، لا أنكر أني كنت مغرورة غرور المراهقة ابنة السابعة عشر، فلا شيء ينقصني لكي لا أتيه بنفسي بين الجميع وأمام مرآتي، أمام الجميع أنا ابنة العائلة والمركز المرموق والمال الوفير، وأمام مرآتي أنا الجميلة الحسناء، ولا عجب أن جدي رحمه الله كان يحلو له أن يقبلني وأنا ما زلت في فراشي ويقول: الحلو حلو لو صحا من النوم، والشين شين لو اتحمم كل يوم.
كنت أضحك ملء فمي وأنهال على جدي العجوز احتضانا وتقبيلا حين يرضي غرور المراهقة بهذا المثل، ولكن المراهقة الجميلة التي لا ينقصها شيء وكانت تبحث عن القصة، تنقصها القصة..
وقد جاءت القصة، وأنا مغرمة وليس بخيالي سوى قصة كاتبي المفضل وأظنه الكاتب المفضل لكل المراهقات: احسان عبد القدوس رواية في بيتنا رجل، كنت أعتقد ان قصتي ستكون مع البطل الذي سيهرب ويختبئ في بيتي وتربطني به قصة حب ويرسلني بأوامره وتعليماته لرجاله ثم يستشهد وأعيش على ذكراه، طبعا بطلة قصة احسان لم تعش على ذكرى حبيبها وتزوجت وعاشت حياتها، أما أنا فسوف أعيش على ذكرى حبيبي البطل………
الانتفاضة الأولى على أوجها في أعوامها الأولى، الشوارع من نار والجدران تشتعل ثورة بشعاراتها، وأطفال الحجارة يتوعدون اسرائيل بالويل والزوال بحجارتهم، والعالم يقف مذهولا ومصفقا أمام معجزات انتفاضة الحجارة، الجنود يجوبون شوارع غزة وأزقتها ليل نهار بحثا عن المقاومين الهاربين، والذين ينتمون لكل فصيل بلا تحديد، الدوريات الراجلة لا تنقطع عن شارعنا النائي ليل نهار، يدقون أبواب البيوت، ويفتشون ويعيثون فسادا ليقولوا لأنفسهم أنهم يعملون، ولكنهم في الحقيقة فاشلون، يعتقلون ويضربون وينكلون، ويمارسون كل أنواع التعذيب للتصدي لثورة الحجارة، ولكن بلا فائدة، وكنت أنا أتحدث بحماسة وأتابع الأخبار بحماسة، وأتخيل نفسي ألتقي ببطلي الذي سأعيش معه القصة التي تنقصني، والذي سأعيش على ذكراه ان مات، وسأحيا معه أسعد حياة إن كتب له العيش.
وظهر بطلي، البطل الذي رسمه خيال المراهقة على وسادتها ليال طويلة، جارنا الشاب فرض نفسه فرضا على أبي وعلى بيتناو فهو معروف بنشاطه السياسي، وكل يوم يقتحم الجنود بيت عائلته بحثا عنه، وهرب في ذلك اليوم إلى بيتنا لأنه بعيد عن الشبهات، بيتنا لا يوحي أنه بيت مقاومين، لأنه كان مميزا بمظهره كفيلا صغيرة على بابها لوحة نحاسية بعدة لغات تشير إلى اسم والدي وشهاداته الجامعية، ولذا فقد قفز المقاوم من جدار إلى جدار حتى وصل إلى بيتنا، وأسقط بيد أبي فلم يستطع أن يعترض وصوت أقدام وأعقاب بنادق الجنود تملأ الشارع طوله بعرضه، وفتح له أبي غرفة كنا نستخدمها كمخزن للمؤن خاصة في أوقات حظر التجوال الذي كان يمتد أياما طويلة، فتحها أبي له وقدم له فراشا لينام على الأرض…..
في الليلة الأولى لنومه في بيتنا، كانت أحداث قصتي تدور في عقلي على شكل حلقات مسلسل تلفزيوني درامي، وقررت أن أقوم بدور البطولة في الحلقة الأولى.
بخطى مترددة، دلفت إلى الغرفة التي أعدها له والدي ليختفي بها، كان مستلقيا على حشية اسفنجية، وعيناه العميقتان معلقتان في السقف، تقدمت منه وقلت له بصوت راجف: الغداء..
انتفض جلوسا وأطرق في الأرض وقال: أشكرك
عيناه العميقتان السوداوان تعلقتا بي للحظة، رغم أنه حاول أن لا يبدو عليه أنه قد فعل، ولكني شعرت بهما، تمسحان جسدي الباحث عن قصة مسحا سريعا،ولكن الغريب أني لم اشعر بأي احساس نحوه، وهو يمسح أنوثتي بعمق نظرته،ولكن اصراري البحث عن قصة جعلني أتخيل أني قد تأثرت بنظرته الأولى السريعة لي، تلكأت في الخروج من الغرفة عله يطلب مني الاتصال برفاقه، أو تهريب سلاح له بحقيبتي المدرسية،أو أو، ولكنه لم يفعل وان كنت قد شعرت أن عيناه قد تعلقتا بظهري وأنا أغادر المكان سريعا خوفا من أن يراني أبي، وقد علم أبي أني قد حملت له طعام الغداء فوبخني بشدة، وحدثت نفسي بعد التوبيخ والتقريع أن أبي ربما قرأ قصة احسان أو شاهدها فيلما، وطلب مني في حزم أن أرسل الطعام مع أخي الأصغر. يجب أن تدور أحداث الحلقة الثانية، تسللت إلى غرفته في اليوم التالي وقلت له في حياء ان كان يرغب في استبدال ثيابه أو الاستحمام في حمام صغير مجاور للغرفة، فهز رأسه نافيا وهو يمسحني بنفس النظرة العميقة.
أصبحت في غرفتي وحيدة يلفني ليلي الذي يحمل فارس أحلامي إلى مخدعي،وبدأت أفكر في القصة التي لا تريد أن تبدأ ولا أن تستمر، لا تريد أن تسير كما خطط لها خيالي، ماذا أفعل؟ لست فتاة، لست جميلة، لست مرغوبة لأصبح بطلة قصة أو بطلة فيلم، الأيام تمر وهو لا يحرك ساكنا وأنا أحاول أن أحتك به مرات كثيرة وفي كل مرة بحجة مختلفة، عمق عينيه لا يغادر مخيلتي، رغم أني لم أشعر نحوه بأي شيء، لم يتحرك بداخلي أي احساس ولكن القصة وشريط الفيلم هما اللذان يسيطران على مخيلتي وعقلي وتفكيري.
ذات مساء جاء أبي ليخبرنا أنه سيغادر، قالها أبي بتنهيدة ارتياح وانفرج وجه أمي الجامد عن شبح ابتسامة سرعان ما تلاشت وهي تتظاهر بلامبالاة لأنها اعترضت منذ البداية على وجوده،غادرنا في ليلة دون أن نشعر به، وفي الصباح دخلت إلى الغرفة التي احتلها أياما، وجدت عينيه في كل ركن وفي كل زاوية، بحثت عن شيء تركه خلفه ولكني لم أجد، تنهدت بخيبة أمل، وقلت لنفسي أني فتاة ناقصة…ناقصة لأني تنقصني قصة.
وتراجعت قصته من حياتنا حتى نادى منادي في شارعنا فجأة منبئا باستشهاده في عملية انتحارية، هرعت الجارات إلى أمه لتعزيتها أو تهنئتها، ذهبت أمي ورفضت أن أصحبها لأن بيوت العزاء لاتدخلها الفتيات الصغيرات، وحين عادت أمي نظرت لي طويلا ولم تنطق ولكني تبعتها إلى غرفتها وسمعتها تهمس لأبي:
قبل أن يخرج للعملية الاستشهادية قال لأمه: ان قدر لي أن أعود أخطبيها لي
اذن كانت هناك قصة، كيف؟ ومتى؟ كيف فكر بي؟ هل أعجبته؟ ماذا أعجبه بي؟ لماذا لم يحدثني؟ هل كنت فتاة أحلامه في الليالي القصيرة التي مكثها في بيتنا؟ كثيرة التساؤلات التي حملتها كل هذه السنين، ولم أجد لها أبدا اجابة ولكني ما زلت أذكر أن عمق عينيه مسح جسدي الثائر الباحث عنقصة ،،،،،،،،،،،، في لحظة.
________
*المصدر: جريدة عُمان

شاهد أيضاً

طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟!

(ثقافات) طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟! إلى يحيى القيسي لَمْ نَلْتَقِ في “لندن”.. …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *