*حسونة المصباحي
“في تقديري أن توفيق الحكيم أعطى مصر أكثر ممّا أخذ منها.. أعطاها الباقي وأخذ منها الزائل”. (د. لويس عوض).
في بداية كتابه “حياتي” يكتب توفيق الحكيم قائلا: “هذه الصفحات ليست مجرد سرد، إنها تعليل وتفسير لحياة. إنّي أرفع الغطاء عن جهازي الآدمي لأفحص تركيب ذلك “المحرك” الذي نسميه الطبيعة أو الطبع. هذا المحرك المتحكم في قدرتي الموجهة لمصيري”. فصار يعدّ كاتب أشهر المسرحيات العربية “أهل الكهف” أيقونة مصرية وركناً ثقافياً عربياً كبيراً لا يمكن نسيانه.
بدايات الخائب الفاشل
يعلم الجميع أن توفيق الحكيم 1898-1987 وزّع العديد من فصول حياته على البعض من كتبه مثل “زهرة العمر” و”عصفور من الشرق” و”يوميات نائب في الأرياف”، غير أنه يروي تفاصيل سيرته في أطوار طفولته ومراهقته وشبابه في كتابه “حياتي” (دار الكتاب اللبناني 1974) بكثير من الدقة والتفصيل والاستفاضة. وهو يقدم كتابه على هذا النحو التالي: “أملي أكبر من جهدي… و جهدي أكبر من موهبتي… وموهبتي سجينة طبعي.. ولكني أقاوم”.
و يشير توفيق الحكيم إلى أن والده الذي كان يعمل في سلك القضاء كان متغيّبا حين ولد في مدينة الإسكندرية. وفي ما بعد سوف تروي له أمّه أنه “هبط إلى الدنيا في صمت، دون بكاء أو صخب أو عويل، شأن الكثير من الأطفال” حتى حسبت أنه ميت من بطنها. ويعلّق هو على ذلك قائلا: “لقد آثرت الصمت والسكون بخلا أو اقتصادا في صياح لا طائل تحته”.
ويتحدّث توفيق الحكيم عن أمه التي عشقت والده من خلال الصورة التي قدمتها لها عائلته. ورغم ذلك تمسّكت بالزواج منه رغم أنّ أمها كانت رافضة لذلك رفضا قاطعا بسبب المهر الضئيل الذي قُدّم لها.
وقد كتب توفيق الحكيم يقول :”لكن ما من شيء كان يقف أمام إرادة والدتي إذا طلبت شيئا و صممت عليه فلا بدّ أن تناله… و أن لها مقدرة عجيبة في إخضاع جميع من معها لإرادتها.. كان هذا شأنها مع أمها وزوج أمّها وأولاده جميعا، ثم زوجها هي فيما بعد. ولم يقف أحد في وجهها إلاّ أختها و لهذا خاصمتها وعادتها طوال العمر”.
من الجبة والقفطان
ويشير توفيق الحكيم إلى أنه أدرك جدّه وهو في السنوات الأخيرة من حياته وكان “شيخا جليلا، مهيب الطلعة يرتدي الجبة والقفطان والعمامة، ويضع على عينية نظارات سميكة”. وكانت هيئته “أقرب إلى صورة الشيخ محمد عبده التي نعرفها جميعا”.
وكان والد توفيق الحكيم متفوّقا في الدراسة. وفي القاهرة حيث درس الحقوق تعرّف على العديد من الشخصيات المصرية الكبيرة، وكان مغرما بالاختراعات والاكتشافات العجيبة و”يحبّ أن يبتدع له بدعة في كل شيء حتى التدخين” حتى أنه خطر له ذات يوم أن يحاول صناعة سجائر من الأعشاب الكثيرة التي تنبت في حقول الفلاحين المصريين. لكن عندما ولد توفيق الحكيم وجد نفسه “أمام رجل رزين وقور مطيل في التفكير متأملا في الكلام قبل النطق به إلى حدّ يكاد يوحي ببطء الفهم والبديهة”. لذلك كانت والدته تتجاسر وتقول له: “أنا أذكى من أبيك.. و أنا أسرع فهما منه”.
مصاب بالشلل لسنوات
وبحسب عائلته، كان توفيق الحكيم “طفلا مزعجا بشقاوته وعفرنته”. فقد كان يعبث بأدوات المنزل ويلقي بها أحيانا في الطريق العام. وعندما بلغ سن الخامسة، أصيب بمرض أقعده عن الحركة لسنوات طويلة. كما أن أمّه مرضت أيضا، وباتت “صفراء الوجه، كثيرة الرقاد في فراشها نحيلة إلى حدّ مُخيف”. وبحثا عن أسباب مرضها، جاء والده بكتاب ضخم باللغة الفرنسية وراح يقلّب أوراقه و يدرسه بصبر وأناة وعناية. وفي ما بعد سوف يحتفظ توفيق الحكيم بهذا الكتاب وسوف يظلّ ينقله معه من بيت إلى بيت و من عمر إلى عمر. وسوف يكتب عن ذلك قائلا: “يظهر أن للكتب أقدارا و أعمارا مماثلة لأقدار الناس وأعمارهم، يعمر منها ما يعمر بغير ما سبب ويختفي منها ما يختفي بغير ما بسبب أيضا”.
وقد عرف توفيق الحكيم الحبّ وهو لا يزال طفلا صغيرا. وكانت الطفلة التي أحبها في مثل سنه وهي ابنة لعائلة من الأقاليم كانت تتردّد على زيارة أهله. وكانت هذه البنت شقراء الشعر. وكان هو يحلم بها في الليل، ويتلهف على لقائها واللعب معها، وحين يلاحظ أنها تولي اهتماما لطفل آخر، كان يغضب وينتابه حزن عميق. حزن الطفل المهمل المحروم من متعة الحب والحنان.
الجمال الفني
وفي مدرسة “الجمعية الخيرية الإسلامية” بدأ الطفل توفيق الحكيم يفكّ رموز حروف الهجاء. وذات يوم جاء إلى البيت شيخ ليحفظه القرآن. وكان هذا الشيخ “جميل الصوت” حتى أن الطفل توفيق الحكيم أخذ يحاول تقليده في تلاوة كلام الله. وهو يفعل ذلك شعر لأول مرة بما يشبه الشعور بـ”اللذة الفنية”. وفي “حياتي” كتب عن ذلك يقول: “لست أذكر بالضبط متى كان أول انفعالي بالجمال الفني؟ لعلّ أول مظهر من مظاهره اتخذ صورة التلاوة القرآنية الجميلة، يوم كنت في الريف بأبي مسعود، أحضروا لي شيخا يحفظني القران ويعلمني مبادئ القراءة والكتابة، في ذلك الوقت من العام، وقت الصيف حيث تغادر البنادر بمدارسها، ولا يوجد في ناحيتنا تلك من الريف وقتئذ كتاب من الكتاتيب، وكان ذلك الشيخ الذي أحضروه جميل الصوت.. يعلمني ويحفظني ساعة، ويتلو القرآن ساعة، و يؤذّن للصلاة في المؤذن القائم على حرف الترعة. وكان الإعجاب بصوت هذا الشيخ في كل الناحية حافزا لي على محاكاته. فكنت أحفظ ما يلقنني إياه من الآيات لأتلوها مثله بصوت جميل”.
جوقة الشيخ سلامة
وازداد إحساس توفيق الحكيم بـ”اللذة الفنية” يوم حضر حفلا أقامته جوقة الشيخ سلامة حجازي، أو لعلها جوقة من تلك الجوقات التي كانت تتخذ اسمه لتطوف في الأقاليم. وفي “حياتي” يصف ذلك الحفل على النحو التالي: “نصبوا لهذه الجوقة مسرحا من الخشب في إحدى رحبات البلد، غطوه بقماش الصواوين رفعت عليه الزينات و تدلت”كلوبات” الغاز و ارتدى أفراد الجوقة ملابس “شهداء الغرام” أي روميو وجولييت لشيكسبير “مُطعّمة بالقصائد والألحان التي لا تخطر على بال، وجعلوا منذ الصباح يطوفون بشوارع البلد في ملابس التمثيل المزركشة هذه، وقد تدلّت شعورهم الشقراء المستعارة على الأكتاف، تعلوها قبعات القرون الغابرة المحلاّة بالرّيش الطويل، والخناجر والسيوف تبرز من أحزمتهم، فيجري خلفهم الصبية والغلمان و يترك أهل الحرف أعمالهم وحوانيتهم وتقف صفوف الجموع تتفرّج عليهم وتطلّ المحجبات من النساء يشاهدن من خلف النوافذ، ويصبح البلد ولا حديث للناس فيه إلا قدوم جوقة الشيخ سلامة”.
ولمّا انتقلت العائلة إلى القاهرة لأنّ والده أصبح قاضيا فيها، انتسب توفيق الحكيم إلى “مدرسة محمد علي الابتدائية”. وفي هذه الفترة من حياته، انجذب إلى الرسم ثم إلى الموسيقى وذلك حين حضر حفلا أقامته إحدى فرق “العوالم” بمناسبة زفاف عمه علي. ويوما ما فاجأته والدته وهو يعزف على العود، فاشتدّ غضبها عليه وصاحت فيه: “لو عرف أبوك يذبحك”.
من المغنواتية إلى الكتب
وأضافت أنه لن يفلح في دراسته أبدا إذا ما أمسك بالعود مرة أخرى، وأنه لن يكون بعد ذلك سوى “مغنواتي”. وفي مدينة “دمنهور” التي انتقلت إليها العائلة بعد القاهرة، شغف توفيق الحكيم بالقراءة وأخذ يلتهم كلّ الكتب التي كانت تقع بين يديه. وبمساعدة والده اكتشف “المعلقات السبع” وشرع يحفظ البعض من القصائد القديمة. كما أنه قرأ العديد من قصص الأطفال. وكان يحبّ أن يقرأ الكتب المحببة إلى نفسه بعيدا عن عيون أفراد عائلته، متخفيا تحت السرير. وفي طفولته، أحب توفيق الحكيم حياة الريف. وعن ذلك كتب يقول في “حياتي”: “كانت حياة الريف في تلك المرحلة من حياتي جميلة على الرغم من شعور غامض أحيانا، واضح أحيانا أخرى، بضياع الفلاح وهوانه. فلقد كان من الأمور العادية أن أرى الفلاحين من حولي يبركون ويمدون أعناقهم إلى الترعة بجوار مواشيهم ليشربوا جميعا بنفس الطريقة. وقد فعلت انأ نفسي ذلك مرات معهم فقد اندمجت فيهم، ولم أعد أفطن إلى أني منهم. وكنت أود لو تمتد بي بينهم هذه الحياة”.
وفي سنوات المراهقة، بدأ توفيق الحكيم يهتمّ بالأدب بطريقة واعية وحقيقية، واكتشف المسرح ففتن به وراح يتردّد على المسارح لمشاهدة الأعمال التي كانت تقدّمها
فرقة “جورج أبيض” مثل “أوديب الملك” و”هملت” و”عطيل”. كما كان يشاهد المسرحيات التي كانت تقدّمها فرقة عبدالرحمن رشدي. و مقارنا بين هذا الأخير وجورج أبيض كتب توفيق الحكيم في “حياتي” يقول: “كان مسرح جورج أبيض أقرب إلى الثقافة الجادّة بحكم دراسته الجدّية في فرنسا في حين أن عبدالرحمن رشدي كان من الهواة الذين لم يتلقوا التمثيل في الخارج عن دراسة أو ثقافة.
لكن كان يؤثر في الجمهور بعواطفه المشتعلة، ويبكي بكاء حقيقيا ويذرف دموعا سخينة وهو يؤدّي دوره. كان هو في التمثيل من جانب والمنفلوطي في الأدب من جانب آخر، أحدهما بصوته المتهدج الباكي، والآخر بأسلوبه النثري المبلل بالعبرات، يستنزفان مدامع الناس، ويعتبران عند الكثيرين مثالا للفن الصادق”.
ويواصل توفيق الحكيم الحديث عن المسرح قائلا: “أما أنا فكنت كغيري من هواة الفن الكثيرين شديد الإعجاب بجورج أبيض.. أحفظ صفحات بأكملها من “عطيل” ومن “أوديب الملك” ومن “لويس الحادي عشر”، ألقيها بطريقته مع بعض الهواة من الزملاء في أوقات الفراغ، ولم يكن يعوقني عن حضور حفلاته بدار الأوبرا إلاّ النقود”.
كاتب الأناشيد للثورات
ومثل أغلب المصريين، كان توفيق الحكيم متعاطفا مع الألمان و الأتراك خلال الحرب الكونية الأولى. وكان يمقت الإنكليز الذين كانوا يحتلون بلاده، ويكنّ إعجابا كبيرا للزعيم الوطني مصطفى كامل الذي كان يقاوم هذا الاحتلال. ويوم وفاته، شعر بحزن عميق. وعندما اشتعلت الثورة الوطنية عام 1919 كتب توفيق الحكيم العديد من الأناشيد الوطنية. وأحيانا كان يحاول أن يلحنها بنفسه. كما كتب مسرحية حملت عنوان: “الضيف الثقيل” وفيها ينتقد الاحتلال البريطاني ويدينه باعتباره “ضيفا ثقيلا”.
وعندما كان طالبا في كلية الحقوق في العشرينات من القرن الماضي، شرع توفيق الحكيم يتعلم اللغة الفرنسية مستعينا بمؤلفات كتابها من أمثال موليير والفونس دوديه وأناتول فرانس وغيرهم. وفي الوقت نفسه بدأ يكتب بعض المسرحيات مثل “المرأة الجديدة” التي يدافع فيها عن حقّ المرأة في السفور وفي العمل، وفي الدراسة، متأثرا بمشاركة نساء مصر في ثورة 1919، وهنّ سافرات. وهو أمر لم يحدث قبل ذلك أبدا.
وقد قدمت هذه المسرحية فرقة “عكاشة”. بعدها كتب أوبريت “علي بابا” التي عهد بتلحينها إلى الفنان القدير زكريا أحمد. وفي هذه الفترة بدأت تلمع في سماء الثقافة المصرية أسماء سوف يكون لها عظيم الشأن في ما بعد مثل طه حسين وعباس محمود العقاد و إبراهيم المازني.
باريس ودراسة الحقوق
وبعد أن أحرز توفيق الحكيم على شهادة “الليسانس” في الحقوق سافر إلى باريس ضمن بعثة دراسية. وفي “حياتي” يصف يوم السفر على النحو التالي: “وفي يوم السفر عانقت والدتي وجدتي ودموعهما تنهمر وذهبت بحقائبي مع والدي إلى الميناء.. وصعدت إلى الباخرة ووقفت على ظهرها أتطلع إلى والدي على الرصيف، وهو واقف تحت شمسيته البيضاء يلوّح لي بيده ثم بمنديله والباخرة تتحرك.. كان منظره، منظر هذا الأب الرزين وهو يكتم شعوره تحت قناع وداع هادئ ما أسال دمعتي على الرغم مني وابتعدت عن مصر وتوجّهت أنا نحو المصير المجهول”.
قضى توفيق الحكيم سنوات طويلة بباريس لم يهتم فيها بالدراسة، بل انصرف فيها إلى متابعة الحياة الفنية والثقافية والأدبية والفلسفية في “عاصمة النور”. وقد وصف تلك السنوات في كتابه المعروف “زهرة العمر”. وعندما عاد إلى بلاده، كانت معه نفس الحقيبة التي سافر بها إلى فرنسا. وكان بها بدلتان وأربع فانيلات وأربعة قمصان وستة مناديل.
كما عاد بصناديق خشبية مملوءة بما كان قد جمع من كتب خلال السنوات الباريسية. أما شهادة الدكتوراه في الحقوق التي سافر من أجلها، فلم يعد بها. لذلك استقبله أهله كما يستقبل “الخائب الفاشل”.
_______
*العرب