توفيق الحكيم . . رجل الأسرار الغامض


*إبراهيم اليوسف

احتل اسم الأديب المصري الكبير توفيق الحكيم (1898-1987) الذي تصادف ذكرى رحيله اليوم 26-7-2014 مكانة جد مرموقة، ليس في المشهد الثقافي المصري- وحده- فحسب، وإنما في الفضاء الثقافي العربي، عامة، وذلك من خلال القيمة الإبداعية لما قدمه على امتداد عقود من حياته .وقد كانت المرحلة التي فتح فيها عينيه على الحياة، وتشكلت خلالها ملامح وعيه، وترسخ حضوره، وقوي عوده، وتأصل استشرافه المستقبلي- إن جازت التسمية- جد غنية، فقد تمت فيها أحداث كبرى مصرياً، وعربياً، ودولياً، ومن بين هاتيك الأحداث الكبرى الحربان الكونيتان الأولى مابين عامي (1914-1916) والثانية مابين عام (1939-1941) ناهيك عن أن مصر في تلك الفترة كانت تشهد انحسار قبضة الاحتلال العثماني، وظهورالاحتلال الغربي، إضافة إلى نكسة حزيران وحرب أكتوبر، وقبل كل ذلك استقلال مصر، والانتقال من العهد الملكي إلى الجمهوري، وماترتب عبر سياسات الإصلاح الزراعي والتأميم، ومن بينها الثورة المصرية ،1919 بل وتأميم قناة السويس، وهي الفترة التي وضع فيها مخطط سايكس بيكو الذي ضاعت خلاله بعض الخرائط، وظهرت أخرى، ناهيك عن سلسلسلة استقلالات البلدان العربية بما يعني ثنائية ظهور الاحتلال وانحساره، وما تلا ذلك من المرحلة التي سميت بالحكم الوطني في عدد من البلدان العربية .

وإذا كانت تلك الفترة التي عاشها الحكيم هي الفترة السياسية الأكثر بروزاً في الخريطة السياسية في العالم أجمع، فإنها كذلك الفترة الأبرز ثقافياً-في المقابل- فبين حدي الفضاء الزمني في هذه الفترة نفسها، ظهرت أكثر التيارات والمدارس الإبداعية والفكرية والفلسفية، ناهيك عن أنها كانت مرحلة الإنجازات العلمية الكبرى، وبلغ فيها الوعي المعرفي درجة عليا، ناهيك عن انحسار الأمية، ورفع مستوى التعليم، وقطع الصحافة أشواطاً متطورة، بفضل ظهور الطباعة، بل وإيفاد طلبة العلم إلى أوربا، وعودتهم، بعد أن تشربت أرواحهم بمفاهيم جديدة، كان من شأنها أن تطور الحياة الثقافية في مصر إلى مدى بعيد .
يروى عن السيرة الأولى للحكيم أنه ولد في أسرة ريفية، في قرية “الدلنجات” في محافظة البحيرة، من أب مصري وأم من أصل تركي، حاولت أن تنشئه على طريقتها، وتبعده عن مجايليه، وهو ما أعطى الطفل فرصة كبيرة للالتفات إلى عالمه الداخلي، بيد أنه لم يستمر على هذا المنوال من العزلة، وإنما سيتصرف في توجيه دفة حياته، كما يريدها، وذلك بعد أن انتقل مع عمومته إلى القاهرة، حيث سطوة المدينة، وبهرجتها، وغواياتها، ما جعله يعنى بالمسرح، عبر فرقة جورج أبيض التي كانت بوابته الأولى إلى عالم هذا الفن، وقد جاء ذلك في مرحلة عمرية، كان خلالها في ذروة القلق، نتيجة بعده عن دائرة حنو أمه، التي يبدو أنها أثرت في شخصيته إلى حد بعيد، ومحاولته الاستعاضة عن ذلك، من خلال علاقته بعالم المرأة، بما وفرته له حياته الجديدة، بعيداً عن سطوة الأهلين .
يبدو أن من شأن الدراسات السيكولوجية، وعلى ضوء سيرة الحكيم، أن تبين لم اتخذ هذا الكاتب الكبير موقفاً أقرب إلى العدائية من المرأة، كما سجل عليه، لدرجة أنه وسم ب”عدو المرأة” وإن أمكننا المجازفة والإشارة إلى محطتين رئيستين في حياته، فيما يخص المرأة، أولاهما الأجواء التي فرضتها عليه أمه، وهو ذو الروح التواقة للخروج من وراء أضلاع قفصها المحكم، وثانيتهما تتعلق بفشل تجربة الحب الأولى مع جارته، في القاهرة، والتي جاءت فور تحرره من أسر الأم الحريصة على وليدها، ومن أطرف ما يقال أنه تزوج، وهو على مشارف عامه الخمسين، ولم يعلم أحد بسر زواجه، رغم أنه رزق بطفلين هما: إسماعيل وزينب، ما دعا مصطفى أمين للكتابة بما معناه: إن من شأن الصحفيين الحصول على أخبار “السراي” بيد أنهم عجزوا عن معرفة زواج الحكيم إلى فترة طويلة .
تجربة السجن
استهوته عوالم المظاهرات الأولى التي عرفتها مصر، في استهلالة الثورة المصرية، ما جعله ينخرط فيها إلى جانب عمومته، بيد أنه ألقي القبض عليه، كي يحوله والده إلى “المشفى”، ويعيده إلى عالم دراسة الحقوق الذي اختاره له بنفسه، كي يؤمن له منحة دراسية، يوفده خلالها إلى أوربا، بيد أن غواية المسرح التي وقع في مصائدها في القاهرة، استفحلت، فباتت خشبات المسرح الباريسية تستهويه، يمضي جل وقته فيها، إلى أن تناهى ذلك إلى مسامع والديه، ما أعلماه بضرورة العودة، خالي الوفاض، في العام ،1927 ليعمل في جهات وظيفية، مفصلية، متعددة، ومتقدمة، في أكثر من وزارة، ومن بينها إدارة دار الكتب المصرية، أو العضوية العاملة في مجمع اللغة العربية، أو المجلس الأعلى لرعاية الثقافة والفنون كوكيل وزارة، ومن ثم كوكيل لمصر في اليونسكو في باريس، وكمستشار في جريدة الأهرام، وعضو في مجلس إدارتها .
ورغم الاضطرابات الهائلة التي تمت منذ بداية وعي الحكيم، بل رغم خصوبة الحراك السياسي، إلا أن الرجل حاول أن يخط لنفسه مساراً خاصاً، دون أن ينخرط في أي حزب معين، وبهذا فقد بقي مستقلاً، وإن كانت أفكاره ليبرالية، وطنية .
عودة الوعي
اعتبر الرئيس المصري الراحل عبدالناصر أن كتاب “عودة الروح 1972” للحكيم من أهم الكتب التي نظرت للثورة، لذلك فقد عده الأب الروحي للثورة، ومنحه أكثر من جائزة وقلادة، وكان في إمكان الحكيم زيارة عبدالناصر في أي وقت يشاء، ويروي المصدر نفسه أنه تم الإغماء على الحكيم أثناء تشييع عبدالناصر إلى مثواه الأخير، فكتب فيه مرثية جد مؤثرة، وإن كان سيتراجع عن تفاؤله في تلك المرحلة، عبر كتاب آخر هو “عودة الوعي”، ويعد نفسه قد انجرف مع سيل العاطفة الجامح، بل إنه تهجم على عبدالناصر خلاله بكل عنف، يقول: كانت الثقة فيما يبدو قد شلت التفكير، سحرونا ببريق آمال كنا نتطلع إليها من زمن بعيد، وأسكرونا بخمرة مكاسب وأمجاد، حتى غاب عنا الوعي بل اختلف مع السادات، لاسيما عندما كتب بيان الطلبة-بيده- ووقعه مع نجيب محفوظ ما جعل السادات يقول عنه: “رجل عجوز استبد به الخرف، يكتب بقلم يقطر بالحقد الأسود، إنها محنة أن ترى رجلاً رفعته مصر لمكانته الأدبية، إلى مستوى القمة، ينحدر إلى الحضيض في أواخر عمره”، وإن كان محمد حسنين هيكل سيجمعه بالسادات، وقد وقف بعد ذهاب الرئيس السادات إلى إسرائيل، إلى جانب مشروعه التطبيعي-مع لويس عوض وآخرين- ما جعله يفقد بعضاً من شعبيته .
عرف الحكيم رغم غنى نتاجه الإبداعي، في عالمي المسرح والرواية، بل والمقال، واللغة، والمبحث، أنه يأتي في مقدمة المسرحيين العرب، وإن كان مسرحه ذا نوعين: أحدهما ذهني، وهو ما تندرج ضمن إطاره أغلب نصوص الرجل، وثانيهما ممسرح، وهو النزر اليسير من إبداعاته في هذا الميدان،و يعد بعض النقاد أن مسرحية “أصحاب الكهف” ورغم أنها تنتمي لمسرحه الذهني، غير القابل للمسرحة، إلا أنها أول مسرحية عربية، ناضجة، مكتملة الشروط، والأدوات، إضافة إلى تصنيف آخرين لروايته “عودة الروح” كأول رواية حديثة، بل إن أعماله الإبداعية الغزيرة استطاعت أن تكرس اسمه، لاسيما أن من بينها أعمالاً جد مهمة، مثل: “نهر الجنون” و”براكسا” .
توفيق الحكيم أحد الكتاب الأعلام الذين تركوا، ولا يزالون يتركون أثرهم في نفوس شعوبهم، من خلال إبداعاتهم التي كتبوها، وهو رغم ما يسجله-بنفسه- على نفسه، من مآخذ إلا أنه كان ابن مرحلته، والشاهد على أحداث هائلة تمت في حياته، وتفاعل معها، على طريقته، إلى تلك الدرجة التي لايمكننا الآن الحديث عن الخط البياني الثقافي، بل السياسي، في مصر، من دون أن يكون هناك الحيز المناسب لقامة هذا الرجل الذي تعايش مع اللحظة الزمنية، وعكسها عبر مراياه، خلال أكثر من شكل سردي، ما جعله قامة ثقافية عالية، لها ظلالها التي لا تزول .
_________
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *