الأحمق

خاص- ثقافات

*حازم شحادة

قبلَ أن أذهبَ إلى الحربِ كنتُ أعتقدُ أن عدوّي هو من يقفُ في الطرف المقابلِ من الجبهة.

كي أنقذَ البلادَ ما عليَّ سوى أن أطلقَ النار عليه.

كم كنتُ أحمقاً.

في السابعِ من نيسان من عام 2012 ، أي بعدَ سنةٍ واحدةٍ من الحربِ السورية اللعينة..

تطوعتُ في صفوفِ الجيش.

أعطوني بندقية ثم أخضعونا ـ نحن المتطوعين الجدد ـ لدورةٍ تدريبية لا تتجاوز الخمسة والأربعين يوماً ثمَّ أرسلونا إلى منطقة ساخنة.

قال أحد الضباط يومها:

ـ أنتم سياجُ الوطن.

أنتم حماة الديار.

أنتم السند الوحيدُ للأمةِ وأنتم الشعلة المضيئة في ليالينا الحالكة.

قال آخر:

ـ أنتم رجالُ الله، أنتم العنفوان، أنتم السادة والقادة..

أنتم البواسلُ والجوارحُ والكواسر.

لم يبق إلا أن يقول:

ـ أنتم نجدة أنزور بجلالة قدره..

ثم قدموا لكلِّ باسلٍ منّا حبتي بطاطا وبندورة لتكونا وجبة.

لم أكترث للأمر في بادئ الأمر.

قلت لنفسي:

ـ بطاطا.. بطاطا.

فليكن.. ما عيبها؟

ثم إنها من الأغذية المفيدة.

مع مرور الأيام والسنوات اكتشفتُ أنّها الوجبة الرئيسية لمعظمِ الأيام في الحرب.

لم يكن علينا محاربة أقذر من أنتجهم الفكر المتطرف وحسب، بل أقذر من أنتجهُم الفساد.

هم يركبون السيارات التي لا حصر لها ويتملكون الأراضي التي لا نهاية لها ويرتادون المطاعم والفنادق الباهظة ونحن علينا أن نرضى بالبطاطا كنعمة من الله، ثم يجب علينا أيضاً أن نحمده ثم نحمدهم عليها.

في واحدة من الإجازاتِ القليلة التي حصلتُ عليها لبّيتُ دعوةَ صديقي إلى المقهى.

كان مزدحماً كما لو أننا في عرسٍ لا في حرب.

قلت لنفسي:

ـ لا بأس.. نحن نحاربُ من أجل أن تستمر الحياة.

بعد ساعةٍ من جلوسنا ركنت أمامَ المحلِّ سيارة فخمة لا أرقامَ على لوحتها وزجاجها مغطى بالكامل.

ترجّل منها شابان يرتديان الزيّ العسكري المموَّه.

لم يكن من الصعبِ ملاحظة الهواتفِ الثمينة في يديهما والنظاراتِ الشمسية الفارهة فوق عينيهما.

قلت لصديقي:

ـ لا شكّ أن هذين العسكريين قد قتلا ثلاثة آلاف داعشي حتى كافأهما الرئيس بهذه الأموال الطائلة.

ضحكَ رفيقي حتى دمعت عيناه وابتلت لحيتهُ ثم قال بصعوبة:

ـ لا علاقة لهذه الشابين بالجيش من قريب أو بعيد..

ـ هرشتُ رأسي فالمدة الطويلة التي غبتها عن المدينة كانت كفيلة بتوليدِ شعورٍ مرعبٍ بالغربة عنها.

ـ من هما إذاً؟

ـ أقولُ لك فيما بعد..

وعادَ ليضحكَ كالمجنون.

عندما عدتُ إلى الحرب شعرتُ براحةٍ أكبر.

هناك، في ساحةِ القتال أعرف من هو عدوّي بالتحديد.

في المدينة كان الأمرُ ملتبساً على الدوام.

العام الفائت..

دارت معركة صباحية عنيفة بيننا وبين الهمج..

كان نصيبي منها تسع رصاصات في قدمي وساقي وبطني.

اعتقدَ رفاقي أنني سافرتُ على متنِ الخطوطِ العزرائيلية بتذكرة ذهابٍ دون عودة إلى العالم الآخر لكنني نجوتُ بإعجوبة.

بعد انقضاءِ مدةِ النقاهة وتسريحي من الجيش بسببِ الإصابات الخطيرة التي تعرضتُ لها فكرت أن أعمل لأكسبَ لقمة عيشي.

من كانوا يقدمونَ لنا حبة بطاطا في الحرب لن يقدموا لنا الكثير بعد أن نصبحَ معاقين.

المهم بالنسبة إليهم أمرٌ واحد:

الحكم.

بمساعدة بعض الأصدقاء الطيبين فتحت (كولبة) لبيع التبغ والقهوة وبعض المواد التجارية الخفيفة.

لا أريد أن أكون عالة على أحد لكن البلدية أزالتها لأنني لا أملك الأوراق والأموال اللازمة.

الحق أقول لكم:

قبلَ أن أذهب إلى الحرب كنتُ أعتقدُ أن عدوّي هو من يقف في الطرف المقابلِ من الجبهة.

كي أنقذّ البلادَ ما عليَّ سوى أن أطلق النار عليه.

كم كنتُ أحمقاً.

_________
شاعر وكاتب قصة قصيرة من سوريا

شاهد أيضاً

قصة “الظل” لإدغار آلان بو

(ثقافات) قصة الظل[1]. إدغار آلان بو ترجمة: عبد القادر  بوطالب                أنت الذي تقرأ ما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *