حوار مع الكاتب راي برادبوري ( 2)

*ترجمة وتقديم لطفية الدليمي

متى ما كانت لديك فكرة تطوف بذهنك ويمكن لها أن تغير ولو جزءاً صغيراً من العالم تكون آنذاك مشروعاً لكاتب خيال علمي واعد

الحوار
*  لماذا تكتب رواية الخيال العلمي؟
رواية الخيال العلمي هي رواية أفكار ، والأفكار تثيرني على الدوام ومتى ما بهرتني فكرة ما  ،غمرني الأدرينالين كما أنني في الوقت ذاته أستمد طاقتي في الكتابة من الأفكار ذاتها . رواية الخيال العلمي تتناول أية فكرة تحوم في الرأس ولكنها لم تتحقق على الأرض بعد لكنها ستفعل يوما ما وستغير كل شيء وستغير كل واحد منا ولن يبقى شيء دون أن يطوله التغيير، ومتى ما كانت لديك فكرة تطوف بذهنك ويمكن لها أن تغير ولو جزءاً صغيراً من العالم تكون آنذاك مشروعاً لكاتب خيال علمي واعد . رواية الخيال العلمي هي دوما رواية الممكن وليست أبدا رواية المستحيل . تخيل مثلا قبل ستين سنة عند بداية مهنتي الكتابية لو انني فكرت بكتابة قصة عن امرأة تتناول حبة ( اشارة الى حبة منع الحمل ، المترجمة ) ستهدم واحدا من اركان الكنيسة الكاثوليكية الخاصة بمنع التحكم في الإنجاب وتؤدي الى إطلاق موجة تحرير النساء فربما كان الكثير سيتهكم من هذه الفكرة لكنها تقع في حدود ما هو محتمل الحدوث ويمكن لها أن تكون أساسا في رواية خيال علمي عظيمة . أود  أن أضيف هنا : رواية الخيال العلمي لا تتناول ما هو ممكن حسب بل ما يمكن حسابه،فعندما ظهرت السيارة الى الوجود كان يمكن لنا أن نتنبأ حينها بعدد الضحايا الذين ستتسبب فيهم مثلما توقع كاتب الخيال العلمي في نهاية القرن الثامن عشر .

*  هل يمكن لرواية الخيال العلمي أن تحقق أهدافاً تعجز عنها الكتابة الإبداعية في مجالات أخرى ؟
–  نعم أرى ذلك ،لأن الكتابة الإبداعية في المجالات الأخرى لم تنتبه جيدا للتغيرات التي طالت حضارتنا في الخمسين سنة الأخيرة : الأفكار الرئيسية لزماننا فيما يخص التطورات الهائلة في الطب و استكشاف الفضاء والمجالات العلمية الحيوية التي أثرت في تشكيل حياتنا بشكل حاسم .

*  هل ترى في نيلك جائزة الإنجاز المميز في الأدب الأميركي إشارة الى أن رواية الخيال العلمي أضحت مدعاة للتقدير والاحترام اللائقين؟
–  نعم، لكن الى حد ما  حسب، لقد استغرق الناس الكثير من الوقت لكي يعترفوا بنا نحن معشر كتاب الخيال العلمي ويتوقفوا عن السخرية منا . عندما كنت شاباً لو حصل أن أحداً منا ارتاد حفلة و أخبر أحداً من الحاضرين أنه كاتب رواية خيال علمي لكان نصيبه الازدراء ولما انقطع الحاضرون لحظة عن مناداته ( فلاش كوردون ) او ( بك روجرز ) بطريقة منفرة . أذكر قبل ستين سنة لم تكن ثمة رواية أو روائي في ميدان الخيال العلمي وحتى عام 1946 لم يكن أكثر من اثنين من الانثولوجيات في هذا الميدان والغريب أننا كنا فقراء الى حد لم يكن بمقدورنا شراء أي من هذه الأنثولوجيات في تلك الأوقات لكن الحال تغير كثيرا مع نهاية الخمسينات وبدأت مراجعات كتب الخيال العلمي تظهر بانتظام في المجلات الأدبية الرصينة.
13935012_1345341092161387_5311162324813761812_n

*  هل ترى أنّ رواية الخيال العلمي توفر للكاتب وسيلة لاستكشاف فكرة مفاهيمية ما ؟
–  خذ روايتي : ( فهرنهايت 451 ) التي أتعامل فيها مع موضوعة حرق الكتب، وهو موضوع أجده على درجة قصوى من الأهمية . ينبغي دوما على الكاتب أن يكون في منتهى الحذر حتى  لا ينزلق الى وعظ الناس بشكل مباشربدل أن يروي حكايته في شكل رؤية مستقبلية  فيصوغ فكرة رجل إطفاء يضرم النار في الكتب بدل إطفائها والتي أراها فكرة رائعة في ذاتها حيث يدفع القارئ فيها في خضم مغامرة اكتشاف : أن الكتب لا ينبغي لها أن تحرق أبدا ، فيبدأ القارئ في قراءة الكتاب الأول ويقع في سطوة الحب وبعدها يندفع في خضم الحياة في مسعى لتغييرها ، إنها قصة تشويق عظيمة تحتوي بداخلها الحقيقة الثمينة التي تريد توصيلها الى الآخرين . أستخدم في العادة استعارة ( بيرسيوس ) ورأس ( ميدوزا ) عندما أتحدث عن رواية الخيال العلمي، فبدلاً من النظر مباشرة في وجه الحقيقة فإنك تحدق في السطح البرونزي للقناع العاكس للضوء ثم تعود لاحقاً مستلاً سيفك لتقطع رأس الميدوزا . ترمي رواية الخيال العلمي للنظر الى المستقبل عبر النظر في الإشعاع المنعكس عما يلوح أمامنا في هذه اللحظة، لذا ستكون لنا رؤية باعثة على الاستمتاع  وإن كانت متشظية. وفي العادة يحصل فعل الاستمتاع هذا بطريقة غير واعية و بطريقة هادئة يكون فيها المرء بعيداً عن الشعور المخاتل بالتفوق المفاهيمي الأجوف .

*  هل تقرأ روايات خيال علمي لمعاصريك من الكتّاب ؟
–  لطالما اعتقدت أن عليك قراءة القليل وحسب في ميدان اشتغالك متى ما انخرطت فيه، ولكن من الجيد في نقطة شروعك بمشوارك أن تعرف ما الذي يفعله المبرزون فيه . عندما كنت في السابعة عشرة من عمري قرأت جميع  أعمال ( روبرت هينلين ) و ( آرثر كلارك ) والكتابات المبكرة لـ كل من ( ثيودور ستركيون ) و ( فان فوكت ) غير أن الأسماء الكبيرة لدي ظلت على الدوام ( هيربرت جي.  ويلز ) و ( جول فيرن ) وأرى نفسي على الدوام ميالاً الى نمط فيرن في الكتابة عن المثل الأخلاقية والارتقاء بالإنسانيات، فقد كان فيرن يؤمن أن الكائن الإنساني حالة غريبة في عالم غريب للغاية وأن بوسعنا الانتصار في مشوارنا البشري بالسلوك طبقاً لما تمليه علينا موجبات الحساسية الفائقة لضمائرنا التي تقودها الأمثولات الأخلاقية الرفيعة .
14045653_1351780348184128_2391824349718678797_n

*  هل تقرأ  عادة  لكُتّاب أصغر منك؟
–  أفضل في العادة أن لا اقرأ لكتاب أصغر مني في ذات الحقل الإبداعي الذي نكتب فيه، فقد يحصل غالباً أن تصاب بإحباط كبير لاكتشاف أنهم يعالجون الفكرة ذاتها التي تعمل عليها، لذا من الأفضل لك أن تمضي قدماً في عملك ولا تشوش على ذاتك .

*  في أي  وقت  بدأت الكتابة ؟
– بدأ الأمر معي منذ قرأت ( أدغار ألان بو ) الذي اعتدت تقليد نمطه الكتابي منذ أن كنت في الثانية عشرة وحتى بلغت الثامنة عشرة ، و قد فعلت الأمر ذاته مع ( أدغار رايس بوروز ) وكنت أكتب في الغالب قصص رعب تقليدية من النوع الذي يستهوي المبتدئين في العادة . كانت سنة 1932 هي السنة التي اختمر فيها كل شيء لدي عندما بلغت الثانية عشرة، عندها اعتدت الإنصات الى الكثير من برامج المذياع المثيرة للخيال وكان من الأمور المعتادة وقتذاك أن أستمع الى أحد البرامج كل ليلة، وبعد انتهائه أجلس وأكتب المسودة الكاملة للبرنامج معتمداً على ذاكرتي وحدها ، وقد كان لي ايضا ولع طاغٍ في الرسم وكنت ميالا لرسم الشخصيات الكارتونية وكنت أعد مجلداتي الخاصة من طرزان مشفوعة برسوماتي الخاصة بالتزامن مع ظهور مجلد ( طرزان ) أسبوعيا كل يوم احد  . كنت أعرف منذ صباي المبكر انني سأنخرط في واحد من مجالات الفنون : فقد كنت وقتها أرسم وأمثل وأكتب .

13876680_1345341725494657_489959843449536636_n
*  تبدو في صباك منفتحاً على جملة من المؤثرات؟
– كنت أرى نفسي كومة ملصوقة من النفايات يمكنها دوما أن تلتهب بوهج عظيم !! ، كان لدي شغفي الأدبي وأتخيل نفسي  قطاراً يتنقل عبر أميركا في منتصف الليل ويدير حوارات مع كتّابي المفضلين : ( جورج برناردشو ) الذي كان مولعاً بالرواية المؤسسة على الأفكار و قد كتب هو ذاته بضع روايات يمكن إدراجها في خانة الخيال العلمي . كنت وكتّابي المفضلون نتسامر حتى منتصف الليل ونحن نقلب الأفكار ونتساءل مثلا : “إذا كان هذا هو حال المرأة في عام 1900 فعلى أية حال ستبدو إذن عام 2050 ؟ ” .

*  من ذا الذي سيكون على متن القطار جنباً الى جنب مع برناردشو؟
–  كثير من الشعراء :  هوبكنز  ،  فروست  ،  شكسبير  ، ومثلهم من الكتاب :  شتاينبك  ،  هكسلي  ، و توماس وولف.

*  كيف ساعد  هؤلاء  الكتّاب الذين ذكرت في ارتقائك الأدبي؟
–  كان  توماس وولف رومانتيكياً عظيماً وعندما تكون في التاسعة عشرة يفتح وولف أبواب العالم ونحن دوما نفيد من كتّاب محددين في أوقات محددة من حياتنا وربما لا نعاود الرجوع اليهم بعد مغادرتنا تلك الأوقات، وأرى أن وولف كاتب مثالي لمن هو في التاسعة عشرة . عندما تقع في هوى ( شو ) وأنت ابن الثلاثين فسينتهي هذا الهوى في الغالب لأن يكون هوىً أبدياً، ويصدق الأمر ذاته مع كتب بذاتها لـ ( توماس مان ) فقد قرأت ( موت في البندقية ) وأنا في العشرين وما زلت أراه افضل في كل مرة أقرأه فيها . الأسلوب هو الحقيقة . عندما تقرر أن تدون ما تريد قوله عن ذاتك ومخاوفك وحياتك فإن هذا سيكون أسلوبك وسيتعين عليك العودة لمن ذكرت من الكتاب لإرشادك كيف تستخدم الكلمات لتتناغم مع الحقيقة . تعلمت من ( شتاينبك ) كيف أكتب بموضوعية ومع ذلك أمرر رأيي بسلاسة وبلا تعليقات إضافية ثقيلة . تعلمت الكثير من ( جون كولبير ) و ( جيرالد هيرو ) أيضا وعشقت أعمال عدد من النساء الكاتبات وبخاصة ( يودورا ويلتي ) و ( كاترين آن بورتر ) .
13934565_1345340978828065_8782288453429670524_n
*  واحدة من أكثـر أقاصيصك شعبية في مجموعتك (السجلات المريخية) هي ( ثمة مطر ناعم سيهطل There Will Come Soft Rain ) تحكي فيها عن منزل ممكنن mechanized تدوم فعالياته بعد القاء قنبلة ذرية وليس ثمة من بشر في القصة . كيف راودتك هذه القصة ؟
–  بعد قصف هيروشيما رأيت صورة فوتوغرافية لأحد جوانب منزل مهدم مع ظلال لأجساد بشرية احترقت وتركت آثارها على الجدار من هول فعل القنبلة، وكما ترى فقد تلاشى الناس لكن ظلالهم ظلت باقية وهذا ما أثر في كثيرا ودفعني لكتابة القصة.

*  بعض المقاطع من قصصك في السجلات المريخية وبعض كتبك الأخرى أيضاً تبدو غنائية  الطابع   lyrical  بقوة . من أين جاءتك تلك النزعة الغنائية؟
– جاءتني من قراءة الكثير من الشعر في كل يوم تقريباً من أيام حياتي . كان كتّابي المفضلون دوماً ولا يزالون هم القادرين على قول الأشياء بطريقة جيدة، وقد اعتدت دراسة ما تفعله ( يودورا ويلتي ) التي تمتلك قدرة مدهشة على وضعك في أجواء الفعل والشخصيات و فضاء الحركة من خلال سطر واحد من الكتابة .

*  وماذا عن بروست وجويس وفلوبير ونابوكوف : الكتّاب الذين يميلون الى التفكير في الأدب بمؤثرات الأسلوب والشكل ؟ هل أثر هذا اللون من التفكير فيما تكتب؟
– لا لم يؤثر. حاولت أن اقرأ بروست وأدرك جمال أسلوبه لكنه يدفعني دوما للنوم لا محالة في كل مرة أقرأ عملاً له ونفس الشيء ينسحب على جويس الذي لا أرى له أفكاراً عديدة فيما يكتب وأنا بطبيعتي ميال الى عالم الأفكار ولا أطيق وجودي في عالم لا أندهش بما يدور فيه من أفكار .
______
*المدى

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *