فرّ مقاتلو “تنظيم الدولة الإسلامية” من مدينة منبج باتجاه جرابلس المحاذية للحدود التركية شمالي سورية، وأعلنت القوات السورية سيطرتها الكاملة على المدينة. تردد اسم “منبج” في وسائل الإعلام، وباتت المدينة واجهة الحدث، وهي في كتب التراث “أول مدن الشام” التي ليلها سحر كله، وهي موطن البحتري وأبو فراس الحمداني.
في منتصف القرن العاشر الميلادي، خرج الإصطخري يطوف البلاد منطلقاً من بلاد العرب إلى الهند، ومنها إلى سواحل المحيط الأطلسي. ووضع كتابه “مسالك الممالك”، وفيه حدّد أقاليم الأرض وممالكها، ثم عرج قدماً على ذكر بلاد الإسلام مفصلة. في هذا الكتاب الموسوعي، ذكر رائد علماء البلدان منبج، فقال: “وأما منبج فهي مدينة في بريّة، والغالب على مزارعها الأعذل وهي خصبة، ومنها البحتري الشاعر وثابت ابنه بها، وسكانها عرب، وبقربها سنجة، وهي مدينة صغيرة بقربها قنطرة حجارة تعرف بقنطرة سنجة، ليس في الإسلام قنطرة أعجب منها، وأما سميساط فهي على الفرات، وكذلك جسر منبج، وهما مدينتان صغيرتان خصبتان، لهما زروع سقي ومباخس، وماؤهما من الفرات”.
في النصف الثاني من القرن الثاني عشر، وضع الشريف الإدريسي موسوعته الجغرافية “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق”، وكتب في وصف منبج: “ومدينة منبج كبيرة، وبينها وبين الفرات مرحلة كبيرة، وعليها سوران، وهي من بناء الروم الأول، وفيها أسواق عامرة وتجارات دائرة وأموال متصرفة وغلات قائمة وأرزاق واسعة، وبقربها مدينة سنجة، وهي مدينة صغيرة متحضرة بقربها قنطرة مبنية بالحجر المنجور وثيقة العقد حسنة الصنعة تعرف بقنطرة سنجة”. في “معجم البلدان”، جهد ياقوت الحموي في تفسير اسم “منبج”، وطرح احتمالات عديدة: “ذكر بعضهم أن أول من بناها كسرى لما غلب على الشام، وسماها من به، أي أنا أجود، فعرّبت، فقيل له منبج”. “وهي مدينة كبيرة واسعة ذات خيرات كثيرة وأرزاق واسعة في فضاء من الأرض كان عليها سور مبني بالحجارة محكم”.
كعادته، ذكر ياقوت الحموي أعلام المدينة، وعلى رأسهم البحتري وأبو فراس الحمداني، وأضاف: “وقبلهما وُلد بها عبد الملك بن صالح الهاشمي، وكان أجلّ قريش ولسان بني العباس ومَن يُضرب به المثل في البلاغة”، وهو من سأله الرشيد يوم دخل إلى منبج: “أهذا منزلك؟” فأجابه: “يا أمير المؤمنين، هو لك ولي بك”. فسأله الخليفة: “كيف بناؤك به؟” فقال: “دون بناء بلاد أهلي وفوق منازل غيرهم”. طلب الرشيد من الهاشمي المشهور بالبلاغة أن يصف منبج، فقال: “طيبة الهواء قليلة الأدواء”. فسأله: “كيف ليلها؟”، فأجاب: “سحر كله”، فقال الخليفة: “صدقت إنها لطيبة”، فردّ الهاشمي: “بل طابت بك يا أمير المؤمنين، وأين يذهب بها عين الطيب، وهي برة حمراء وسنبلة صفراء وشجرة خضراء في فياف فيح بين قيصوم وشيح”.
استعاد أهل الأخبار هذا الحوار الذي دار بين الرشيد وعبد الملك بن صالح بن علي، وباتت منبج هذه المدينة الزاهرة التي ليلها سحر كله. مرّ ابن جبير في ترحاله بهذه المدينة، وأقام فيها يوما، وقال في وصفها: “بلدة فسيحة الأرجاء، صحيحة الهواء، يجف بها سور عتيق ممتد الغاية والأنتهاء، جوها صقيل ومجتلاها جميل، ونسيمها أرج النشر عليل، نهارها يندى ظله، وليلها كما قيل فيه: سحر كله. تحفّ بغربيها وبشرقيها بساتين ملتفة الأشجار، مختلفة الثمار. والماء يطرد فيها، ويتخلل جميع نواحيها، وخصص الله داخلها بآبار معينة، شهدية العذوبة، سلسبيلية المذاق، تكون في كل دار منها البئر والبئران. وأرضها أرض كريمة، تستنبط مياهاً كلها. وأسواقها وسككها فسيحة متسعة، ودكاكينها وحوانيتها كأنها الخانات والمخازن اتساعاً وكبراً، وأعالي أسواقها مسقفة”.
تحدّث الرحالة الأندلسي عن أحوال المدينة، وأفصح عن إعجابه بأهلها، وقال: “هذه البلدة تعاقبت عليها الأحقاب، حتى أخذ منها الخراب. كانت من مدن الروم العتيقة، ولهم فيها من البناء آثار تدل على عظم اعتنائهم بها. ولها قلعة حصينة في جوفيها تنقطع عنها وتنحاز منها. ومدن هذه الجهات كلها لا تخلو من القلاع السلطانية، وأهلها أهل فضل وخير، سنيون شافعيون، وهي مطهّرة بهم من أهل المذاهب المنحرفة والعقائد الفاسدة كما تجده في الأكثر من هذه البلاد، فمعاملاتهم صحيحة، وأحوالهم مستقيمة”.
بعد ابن جبير، مرّ ابن سعيد المغربي بمنبج، وكتب في “الجغرافيا”: “بين حلب والفرات مدينة منبج، التي سأل الرشيد بن عبد الملك بن صالح عن ليلها فقيل له سحر كله. ولأبي فراس الحمداني شعر في منتزهاتها وأماكن لذّاتها، وفيها ماء سائح وأكثر شجرها التوت لتربية دود الحرير. بينها وبين الفرات حيث قلعة نجم والجسر خمسة وعشرون ميلاً، وهذه القلعة في السحاب، وصفها الفاضل بالوصف البديع، وكان يقال لذلك المكان منبج فصار يعرف بقلعة نجم، وهي من بناء السلطان محمود بن زنكي رحمه الله. وكان كثيراً ما يرابط بها ويغزو منها الفرنج الذين تسلطوا بالفتنة على ثغور الشام والجزيرة”.
أشار ابن سعيد المغربي إلى شعر أبي فراس الحمداني في منتزهات منبج وأماكن لذاتها، ونقع على بعض من هذا الشعر في كتاب “قرى الضيف” لابن أبي الدنيا. كتب الشاعر إلى غلامين له: